المشاعر بين تصنيفات القوة والضعف : كثيرا ما ربطت القوة بجمود المشاعر والقدرة على ممارسة القسوة أوتحملها ،،، واعتبر ضعيفا كل من تغلبه مشاعره ، فيظهر التاُثر البالغ وتنهمر الدموع من مآقيه إثر فيض في المشاعر سواء كانت إيجابية أو سلبية .... ووفق هذا التصنيف التحكمي ، اعتبر الذكور "أقوياء" وأجبرتهم التنشئة على إخفاء "حالات الضعف ،فالرجال الحقيقيون ليس لهم حق البكاء ولا حتى التعبير عن المشاعر أو إظهارها .وهذا في نظري نوع من الميز الذي يعاني منه الذكور بدون وعي منهم ورغما عنهم .فالبكاء نعمة لأنه فعل تطهيري من المشاعر السلبية وتنفيس عن الذات من همومها المتراكمة . في المقابل ،سميت الإناث بضعيفات ... وتواترت التصنيفات في نفس السياق ،فالذكور يسمون بالجنس الخشن والقوي والصلب ....كما وصفت الإناث بالجنس "الناعم" والرقيق كتمويه مهذب على صفات الضعف .....الخ وما تحيل عليه من دونية وتبخيس بل وشفقة قد تصل حد "الاحتقار .."... علما أن سمة "الحنو " الغالبة لدى النساء تغذي الحياة رقة وتبعث فيها الدفء والجاذبية اللازمة جنب السمات الذكورية الأكثر تداولا .... تصنيف تحكمي : من المؤكد بأن هذا التصنيف التحكمي يختزل كلا من "الجنسين" في أوصاف نمطية أريد لها أن تكرس تقسيما للنوع وفق تنشئة تعتمد سلسلة من التمييزات ضمن منظومة ذكورية لا تشكل التراتبية ما بين الجنسين إلا أحد مستوياتها الأكثر ظهورا وربما سطحية حتى ... فلا أحد يمكن تجريده من سمات الآخر حتى وإن ارتفعت الحدة في هذا الاتجاه أوذاك ...علما أن هناك استثناءات تنفلت من بين حدود الترسانات التنشيئية لتهز أركان الأحكام الجاهزة بقوة .فكم من الرجال يفوقون الإناث حنوا وعطفا ورقة وكم من النساء يتفوقن على الذكور صلابة وقوة لدرجة يوصمن بالحديديات . ذلك أن مفهوم القوة،في شكله المتداول ، يحيل في حد ذاته على "فلسفة " ذات منحى معين ،حيث تشكل القوة الجسدية (العضلية خصوصا) أحد التمظهرات الأكثر بروزا وتجد امتداداتها في تمظهرات حضارة بشرية ذات هيمنة ذكورية لحد الآن ... ولأنها كذلك لا زلنا نعايش إيقاع حياة بشرية تطغى عليه لغة "القوة " من خلال أشكال من العنف : فالصراعات الجسدية ما بين البشر سواء كانوا أفرادا أو شعوبا غالبا ما يقوم بها الذكور" الأقوياء "....الذين يطالبهم الواجب بحماية "الأسرة "أو القبيلة " أو "الوطن" من هجوم ذكور " الأعداء" الذين يغتصبون "الأرض" و"النساء "...والممتلكات . و لعل أبرز أشكال العنف ضمن الصراع البشري هي الحروب التي تفتك بتجمعات بشرية قد تكون شعوبا بأكملها بكل قسوة وفظاظة ومعها الثروات المادية والبنيات التحتية والتجهيزات...فيتضرر الإنسان والحيوان و البيئة... ب"قوة " تستعمل في اتجاه التدمير والتخريب والفتك ...ناهيك عن التخريب غير المباشر سواء كان نفسيا أو اجتماعيا . فالحرب تخلف أوجاعا وندوبا نفسية وصدمات قد لا تعالج بسهولة . كل هذا "البطش " يتم تسويغه ضمن منظومة فكرية تجعل منه فعلا مشروعا انطلاقا من عمليات تبريرية ، قد تسوق له فيصاغ على شكل بطولات يتم التباهي بها كأفعال بناءة وبطولية ... ما قيل عن "الحرب" يقال عن "القسوة "في المعاملات ويأتي التعذيب في مخافر الشرطة لأسباب سياسية على رأس أشكال القسوة التي يرتكبها إنسان ضد إنسان ، هذا إذا استحق مرتكب هذه الأفعال صفة الإنسانية حقا . الجلادون وجفاف المشاعر : فالجلاد غالبا ما تسحب منه أوصافه الإنسانية ،ويجرد من مشاعر الرحمة والشفقة والحنو ....التي هي ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية فيستحق فعلا الشفقة على هذا الإخصاء من خصائصه الإنسانية الأكثر جمالية وبهاء ليتحول إلى كائن بدون ملامح "بشرية ". كثيرون ممن تصلهم الأخبار السرية عن تقنيات التعذيب في مخافر شرطة الطغاة يتساءلون ،مثلما تساءلت الشابة المغربية غزلان (من شباب 20 فبراير ) الناعمة ودموعها تنهمر على اليوتوب :" كيف يقوم هؤلاء الجلادون بأفعالهم هذه ؟ كيف يقدرون على امتهان كرامة إخوانهم في الدين واللغة والوطن ....والبشرية ؟؟ كيف يغيب الوازع والرادع ويستقيل الضمير ؟؟؟؟ ... يمكنك أن تطرح ألف كيف بدون أن تتوصل لجواب مقنع .... كم طرحت هذا السؤال المحير فعلا...و أقر بأنني كدت أوقف عدة مرات بعض عناصر شرطة مكافحة الشغب ، الذين لم نكن نعرفهم قبل هذه الأحداث ، لأسألهم كيف يستطيعون ضرب "المحتجين بتلك الوحشية ؟" فما بالك عن المعتقلين ؟؟؟؟ كيف استطاع ذلك الشرطي الشاب ،المدجج أسلحة أن يمشي فوق جسد أحد المعتقلين وينتشي فوق جسده بلعبة "الاهتزاز " وهو مكبل اليدين وملقى مع رفاقه على الأرض في بلدة قرب "بانياس بسوريا كما نقلته إحدى الفضائيات ؟؟؟ كيف يلتف مجموعة من رجال الشرطة حول "محتج أعزل "سقط على الأرض ليشبعونه ركلا وضربا وتنكيلا وشتما وسبا ...بشكل علني وكأنهم ينكلون بحيوان لا بإنسان علما أن للحيوانات أيضا حق الرحمة والشفقة فما أدراك بالإنسان ؟ كيف يتكالب مجموعة من رجال الشرطة "حول دكتورة تتظاهر من أجل حقها في الشغل " محاصرينها بدون ادنى شهامة ؟ فحناجرها جفت من الصراخ ، مثلما خفتت نضارتها تحت نير المعاناة وقيظ الشمس الحارقة وهي تتلمس طريقا نحو الكرامة عبر الشغل بعد رحلة طويلة في مسارات الدراسة ..؟؟؟.. أشكال وألوان من امتهان كرامة الإنسان نقلتها لنا وسائل الإعلام الحديثة وما خفي أعظم ....وفي ذلك فليتنافس المتنافسون في سياق ثقافة حكم الطغاة عبر خريطة العرب التي يعلو منها هدير الصراخ والعويل والبكاء ...بل يسيل الدم وتنهمر الدموع وتتعالى الآهات و الأوجاع والأنات والتوسلات والمناشدات ووو من أهوال الطغيان .. الجلاد كائن خرافي بدون هوية : لعل الفرضية الوحيدة التي تهديء قلق السؤال المحير هي أن هؤلاء هم أيضا ضحايا آلة جهنمية جردتهم من أغلى ما يملك "البشر" المشاعر و الأحاسيس " سواء بالتقسيط أو بالجملة لدى الجلادين الذين صودرت مشاعرهم نهائيا أو تكاد .....فالجلاد كائن خرافي بدون هوية ولا انتماء . إنه أدنى من الحيوان لأن هذا الأخير يتعاطف مع نظرائه بشكل غريزي وبكل قوة . يتم ذلك وفق طرق قد لا يعرفها إلا الضالعون في هذه العلوم "السوداء " في دهاليز الاستخبارات العالمية التي تنشط متخفية على رقابة المنظمات الدولية الموازية ،المتأهبة لممارسة ضغطها المعنوي كي تفرض حدا أدنى من حقوق الإنسان ... فمارسوا ما مارسوه على بني جلدتهم بدون أن يرف لهم "جفن" أو ترتعش "أيديهم " تحت هول السياط أو تيار الكهرباء أو حدة الزجاج أو عفونة "الشيفون " أو قسوة الطيارة على جسد ممطط في وضعيات تتعارض مع مرونته ومع كرامة الإنسان .... ...وما ينطلي عليهم ينطلي على أسيادهم المخططين لهذه "الأفعال" اللاإنسانية بأساليب تنفلت من القيم الإنسانية جملة وتفصيلا .... لأنني من نفس فصيلة غزلان ،تساءلت و أنا أصغر منها سنا كيف يمكن أن يحدث هذا عندما كنت أقرأ بنهم بالغ ما يتسرب من السجون "الحسنية " من حكايات حول فنون تعذيب المناضلين اليساريين وغيرهم ...وكنت أقضي آنئذ ليلتي فريسة لكوابيس مزعجة وكأنني أتماهى مع الضحايا من فرط التعاطف معهم . تضامن قد يصل درجة التماهي الذي يفسر رعبا داخليا يتنفس على شكل أحلام مزعجة تؤثت ركح لاشعور مثخن بالجراح المتراكمة من فرط ما يتلقاه من هنا وهناك .... التضامن شعور نبيل جدا يستشعره من يملك خزانا كافيا من الأحاسيس تعلن في انبثاقها العفوي والجياش عن ذلك الارتباط الوجداني الذي يخيط صلات الوصل بين البشر ...فالإنسان اجتماعي بطبعه ، علما أن الروابط الوجدانية تتشكل حسب محددات الانتماء ،مثل روابط الدم أو الوطن أو الدين أو الفكر او المعتقدات ....وقد تغيب كل هذه الروابط ليحضر انتماء واحد أوحد هو : البشرية بغض النظر عن كل الاختلافات وهذا في نظري أسمى أشكال التعاطف لأنه تعبير عن الكرم الوجداني المترفع عن كل الحسابات غير حسابات :"الإنسان" وهنا لا بد أن أطرح تساؤلا جوهريا : هل دموع غزلان ،الشابة الجميلة الرقيقة الأنيقة وهي تفسر تضامنها مع ما حدث لمعتقلي "السلفية الجهادية " من خلال ما عبر عنه "الشريف بوشتى الشارف " عبر اليوتوب ، ضعف أم قوة ؟ انبثقت دموع غزلان كذلك الماء الزلال الذي يسعى لتطهير فضاء من عفن ما ، انبثق الصفاء ضد التلوث ، مثلما انبثقت إرادة التغيير والمواجهة التي أعلنتها غزلان بكل صلابة وقوة وهي تسرد أسباب إصرارها على الانخراط في حركة التغيير ضد الظلم والاستبداد والإقصاء .....في حركة 20 فبراير "التغييرية والسلمية " تعلن قرارها النضالي والاستماتة من أجل ذلك وهي تمسح دموعها وتعتذر "للشارف" وأمثاله من ضحايا التعذيب أنها لم تهب لنجدته وكأنها مسؤولة عما حدث ..... هذا هو الانتماء الإنساني الحقيقي ، فهو ينبع من روح المسؤولية في التغيير نحو الأحسن ومن التضامن مع ضحايا الظلم مهما اختلفوا عنها ، فالنوع الذي تنتمي له غزلان " قد يكون النقيض الموضوعي لمشروع "السلفية الجهادية اجتماعيا " مع ذلك تصر على التضامن معه على عدة مستويات ....وذلكم أرقى أشكال الشهامة الإنسانية . غالبا ما تم إلصاق صفة الشهامة بالذكور ، إلا أن للشهامة النسوية خصائصها لقد خاطبت "غزلان "الناعمة جلادي المغرب "بلغة ناعمة ، حاولت أن تحرك فيهم مشاعر الإنسانية التي وضعها مهندسو "الجلد والتعذيب " في ثلاجة وفعلوا في أدمغتهم ما فعلوه من غسل للدماغ " و"حشو" بالكراهية والغل ، مقنعين إياهم بأن هؤلاء أعداء للوطن ويلخصون كل أشكال الشر .... كان خطابها بسيطا وتلقائيا ومقنعا أيضا لمن يحسن الإنصات .... فالحكم لا يدوم ولا خلود إلا لله ....ولو دام للسابقين لما وصل لهؤلاء الحاكمين الآن ،،،هذه حقيقة قد تجعل كل ظالم يتفكر ألف مرة قبل المضي في "ظلمه" لأن الحياة كلها آيلة للزوال وهي مجرد محطة عابرة ....وامتحان عسير يهييء لما هو أشد وأنكى في الحياة الأخرى .... يبدو لي أن قوة "غزلان" في نعومة خطابها ، فالإنسان الطبيعيي غير قادر على الكراهية ...وبالتالي جاء خطابها غير عنيف ومفعم بالحنو والمشاعر الإيجابية .. إن المرأة رمز للحياة ،للحنان والحب .....ولأنها كذلك فهي تريد عالما بدون "عنف " ولا حرب ولا نزاعات ... وهذه في نظري هي القوة الحقيقية .....القوة ان تحب من يختلف معك ولا تحوله لعدو بشكل مجاني كما يقول فلاسفة البوذية العظام . القوة الحقيقية ان تتملك كل هذا الدفق من المشاعر ،وتستعملها سلاحا للتغيير نحو الأحسن ، من خلال اللاعنف . كل هذه الجحافل من المحتجين بوسائل سلمية ضد ترسانات الاستبداد والظلم والفساد عبر العالم العربي كله .....ينشدون عالما جديدا ملؤه الحب والتفاهم لا الإقصاء والتهميش . تحتاج البشرية إلى استثمار خزانات المشاعر التي يتم تحييدها لفائدة ما يعتقدونها قوة وعقلانية....كي تنتج عالما قمينا ببشر يملك أحلى ما تملكه الكائنات الحية وهي القدرة على الحب ما بين أفرادها .... الحب هو اسمنت الترابط ،وعندما يحضر هذا الاسمنت فاللحمة تتقوى ولا تجد الأمور السلبية طريقها لاختراق الجسم البشري الواحد مثل :الجشع والكراهية والعنف والظلم والاعتداء ..... ولكي يختفي الاستبداد والظلم لا بد من تقوية مشاعر الحب ،فالكراهية هي التي تنتج الظلم والاحتقار وتجعل الظالم جشعا يحتكر الثروات لأنه يعتبر الآخر غير جدير بها ومن ثم وجب تركيعه والاعتداء على كرامته وممارسة التسلط عيه بمختلف الأشكال ... الحب يبدد كل هذه الأمور السلبية لأنه طاقة بناءة ،طاقة للحياة والبناء والاقتسام وهنا تكون المشاعر ثروة حقيقية لا بد أن تستثمر لصالح السياسة الحقيقية فالسياسة التي تنبني على قيم المحبة العميقة بين البشر تحفظ كرامة الجميع وحق الجميع في العيش الكريم .فالسياسة أخلاق و الأخلاق بدون حب تبقى مجرد شعارات جوفاء تطفو على سطح الخطابات ....ووحدها المشاعرالبناءة قادرة على تحويل القيم إلى طاقة تجري في أوصال الذات التي تحولها لفعل إيجابي وخلاق .