"أنتم جميعا أجبرتموني على أن أنطفئ، أن أختار كيف أموت، لأنكم اخترتم جميعا أن تحكمنا الرداءة" أنطونان آرطو النار وبلاغة المقاومة لقد تحولت إرادة "حرق النفس" إلى فكرة بدأت في التبلور، خاصة لدى مجموعة من الناس المنتمين إلى الفئات الفقيرة. ولقد انطلق تاريخ ترسيخ هذه الفكرة مع "حرق" البوعزيزي لنفسه احتجاجا على ما بات يطلق عليه اجتماعيا وسياسيا ب"الحگرة" التي تمارسها السلطة ضد الشعب في ظل نظام سياسي غير ديمقراطي. منذ ذلك التاريخ، وعبر هذا الحدث، الذي أطاح بالنظام السياسي التونسي وأدى إلى ما يطلق عليه ب"الربيع العربي"، أصبح البوعزيزي "الجسد المحروق، أو الجسد الحطام"، (une métonymie) كناية عن رغبة جديدة في "القربان الذاتي" (Auto-offrande) لفئات اجتماعية لها الإحساس نفسه الذي كان لدى البوعزيزي، تعبيرا عن ممارسة احتجاجية جديدة لها صفة المقاومة المغايرة، بالانقلاب على تمثل (représentation) الذات لمعنى الحياة، بتدمير الجسد، أو التحلل الطهراني من الجسد الواهن، أو العاجز عن مقاومة السلطة التي لها الغلبة المسنودة. كما هو تحلل من منظومة اجتماعية قبلت الانغلاق في كينونة ريع وجودي يضمن لها المنفعة ضدا على الآدمية الوطنية المقومة بالديمقراطية. تؤشر بلاغة الحرق على بداية مدة اجتماعية وسياسية طامحة لتفكيك منظومة أخلاقية مركبة مما هو ديني فقهي له علاقة بما يجوز وبما لا يجوز، وبما هو اجتماعي له صلة بتمثل الأفراد للرفاه والحياة، وبما هو سياسي له علاقة بالدولة وبالأحزاب السياسية. وإذا كانت هذه المنظومة الأخلاقية هي المكون لوعي المجتمع ولثقافته، وهي المدافع عن مضمون السلطة وشكلها، فإنها اليوم أمام وضع حرج يرتبط بصعوبة إنتاج نفسها حيال واقع قيمي جديد يتحرك بسرعة قياسية نتيجة الثورة التكنولوجية والرقمية التي ما انفكت تتوسع بقوة وبتجذر في العالم. هذا يعني أننا أمام تفاوت تاريخي ما بين منظومة أخلاقية متحكمة في جزء كبير من المجتمع، وقد باتت تقليدية ومتهالكة، وما بين منظومة السلطة التي أصبحت تعي إفلاس المنظومة الأخلاقية التقليدية في تزويدها بأسباب القوة والتأقلم والاستمرارية. في خضم هذا التفاوت الذي لم يحسم اجتماعيا وسياسيا، حصل الغموض والارتباك، والوقوع في فوبيا الاحتكام الفوقي إلى الدستور والقوانين بدون حصول أي وعي اجتماعي وسياسي بالمثبتات القانونية والدستورية نفسها. هاهنا، تنشأ غربة الأفراد ويتعمق الإحباط وتصبح لغة الإصلاح والديمقراطية والاستقرار ترهات فارغة ينفذها الواقع المعمق للتفاوتات الاجتماعية، وبكم النخبة ( élite sourde muette)، وتحول الأحزاب السياسية إلى أسلاك حديدية صدئة وهشة تحوط معبد السلطة، بالرغم من أنها اليوم غير قادرة على "حماية" السلطة نفسها أو تقويتها. السلطة والنظام الأخلاقي للنار إذن، كان من الضروري البحث عن ممكنات بديلة للمقاومة، ومسالك نوعية للبحث عن إثبات منزلة الفرد المهمش، أو البحث عن "كوجيطو" (Cogito) مغاير لا يرتبط بالشك في الوجود بقدر ما يرتبط بإلغائه عبر تدمير الجسد. لذلك فإن اختيار عملية الحرق أو "المحو الذاتي" (auto-effacement)، وهو اختيار إرادي بحافزية جوانية هو الإمكان الوحيد للتغلب على السلطة والتعالي على قوتها القاهرة، سواء كانت سلطة الدولة أو سلطة المجتمع، عبر ثقافته وعقائده التي ربطها باشلار (Bachelard) في كتابه "la psychanalyse du feu" ب"عقدة بروميثوس" (le complexe de prométhée)، "لذلك فإن بلاغة اختيار الموت بالنار لها سند نفسي/اجتماعي دلالي لمعنى النار نفسه، لأن المعنى الدفين الذي تتضمنه هو كونها، بحسب باشلار، "موضوعا للمنع العام" يشكل بؤرة جذب تحمل تعددا قيميا يتراوح ما بين الإضاءة والاشتعال ،الدفء والاحتراق؛ أي إنها تجمع ما بين الموت والحياة في اللحظة الأنطولوجية نفسها سعيا نحو الخلود، وهذا ما عناه باشلار نفسه لما تحدث عن "عقدة امبدوكل"(le complexe d'Empedocle)، باعتبار النار القيمة الاستثنائية الفريدة التي تجمع ما بين مكونين متعارضين ومتناقضين. إذن، من داخل هذه الدلالات يمكن أن نستجلي بعض الدوافع في اختيار الموت عبر حرق النفس في مواجهة السلطة، يؤكد باشلار أن "إرادة البطء والتريث ترتبط بالحياة، كيفما كانت هذه الحياة، وإرادة التغيير السريع والعميق للأشياء والعالم ترتبط بالنار، لأن النار هي الحي المطلق". إن الاختيار الفلسفي للموت عن طريق الحرق، وبدون الخوض في الدلالة "النيتشية" (نسبة إلى نيتشه Nietzsche) للمعاني الاختيارية للموت وعلاقتها بمفهومه للحياة المطلقة، لا علاقة لها مطلقا "بالتمذهب العقدي أو التمذهب الديني المنحرف" الذي يجيش مكونات النفس بفعل استلابي لإلحاق الأذى بالذات وبالآخرين، إما بدافع الرغبة في التعبير الاحتجاجي لتثبيت نموذج طقوسي ديني، كما هو الحال في المجموعة المتطرفة المنتسبة إلى "الدلاي لاما" (Dalaï Lama) في التبت (tibet)، التي نشرت على الإنترنيت دعوة أهل التبت إلى حرق النفس عبر دليل يرشد الرهبان والمؤمنين والعلمانيين إلى الكيفية الطقوسية للتذمير الذاتي عبر النار، احتجاجا على عنف النظام السياسي الصيني المسلط على هذه الفئة المتشيعة "للدلاي لاما"، وإما بدافع الرغبة في السيطرة السياسية على الحكم ومركزة السلطة في نظام ديني أوحد، كما هو الشأن مع دعاوى الإسلام المتطرف المتمثلة في حركة "داعش"، إذ إن تمثل الموت بالنار لدى "داعش" يقوم على قيمتين متناقضتين. قيمة تفضيلية لها على علاقة باستلاب الأحداث (الشباب) باستعمال كل الحيل لتنويم وعيهم عبر خطاب بلوغ الحياة الموعودة التي تلزم مجاهدة النفس واختيار الموت (الاستشهاد) عن طريق تفجير الجسد كناية عن المعنى العام للنار. من هنا، يكون فعل التفجير المرتبط بمكون النار هو المعادل الإرادي للحياة المتخيلة كما رسخت لدى الفئة التي دمرت نفسها. ولم تكن لدى هذه الفئة قابلية التنويم وانحراف الوعي إلا لأن علاقتها بالسلطة القائمة قد وصلت إلى درجة قصوى من الكره (Thanatos) والرغبة في تدميرها. بذلك، انحرف مكونها النفسي إلى انجذاب" ايروسي" (Éros) إلى النار، إلى الموت/الخلود. أما القيمة الجزائية، فهي تتمثل في الانفصال عن قيمة النار بوصفها عتبة للخلاص من الدنس الأرضي ومقاومة سياسية لها كل معاني التضحية بالذات، واعتبارها قيمة عقابية للعدو بتفجيرها له وإحداثها للفتنة والخوف. وهذا ما عبر عنه حدث إحراق الطيار الأردني "معاذ لكساسبة"؛ أي استعمال النار بمناقضة القيمة التفضيلية الحاصلة لها بتفجير الذات، إلى قيمة جزائية عقابية ضد الآخر، أيا كان هذا الآخر وبدون تمييز. الحمولة المعرفية لانتخابات السابع من أكتوبر وبلاغة الإخماد ستجرى انتخابات السابع من شهر أكتوبر في ظروف اقتصادية صعبة، وفي ظل تجاذبات سياسية استثنائية تؤشر على الضعف وهشاشة الحقل الحزبي، وقبول فاعليه القيام بأدوار الملحقين للدولة، داخل علب ريعية تعيد إنتاج إرادة الاستكانة السياسية والارتكان إلى السلبية. وستجرى كذلك في ظروف اجتماعية تتسم بالغموض وحدّة التناقضات، وتوالي الاحباطات مع بروز ظواهر سلوكية غريبة على المجتمع المغربي. هذا يعني أن الانتخابات القادمة ستتم أمام ثلاثة إيقاعات متفاوتة ومتنافرة؛ إيقاع اقتصادي مهزوز، وإيقاع سياسي وحزبي منكفئ على ذاته، يتردى في الرداءة وفي غياب نخب حقيقية كفأة، جريئة وناقدة، وإيقاع اجتماعي فاقد البوصلة وبدون تصور موحد حول المستقبل. يعتبر الإيقاع الاجتماعي، هنا، مربط الفرس في كل التخوفات المرتبطة بالمستقبل، لأنه يعيش حالات توتر داخلية منغلقة وفجوات قيمية متعددة تأبى عن أي قياس تاريخي لفهم مراحلها. لذلك فهو مرشح للانفجار، أو قريب من النار كما أضحت تلخصه مجازات حرق النفس، التي غدت تتسع أكثر في مختلف جهات التراب الوطني (الدارالبيضاء، القنيطرة، مراكش،السمارة، بني ملال، بركان، بني جرير، ...) والجديد فيها أنها لم تعد تقتصر في المجتمع المغربي على الذكور فقط، بل شملت النساء أيضاً، آخرها حدث مّي فتيحة، بائعة الحلوى، التي شغلت الرأي العام الوطني والدولي. لقد أصبحت هذه الأحداث قاب قوسين أو أدنى من "الظاهرة الاجتماعية"، ترسخ لتحولات سلبية مؤثرة في هذا المجتمع. وإذا لم تخرج انتخابات السابع من شهر أكتوبر من نمطية الانتخابات التي كرستها الدولة، وطبخة التوافقات مع الأحزاب السياسية، والتي هي اليوم في حالة انفصال تام عن المجتمع لا تمثل إلا بعض الأفراد فيه، فإن الفجوة ما بين النظام السياسي والمجتمع ستعرف اتساعا سريعا، أبطاله الأشخاص الأكثر هشاشة وفقرا. وذلك للاعتبارات التالية: - إذا انضاف إلى عدم ثقة المجتمع في السياسة عدم الثقة في الدولة في تدبيرها للانتخابات وصناعتها بما يخدم مصالحها الضيقة، فهذا يعني أن الدولة لم تتخلص من فكرها المعياري الذي يبقى دون حساسية التحولات التي يعرفها المجتمع وسقف طموحه في الديمقراطية والكرامة. وهنا، ستكون النكسة حقيقية، بتولد شعور خاص لدى فئات من المجتمع لا نعرفها، شعور باستبداد القيم القهرية للدولة التي لا تتعامل مع الدستور إلا كوثيقة ورقية، الأمر الذي سيحمل هذه الفئات على الكفر بالمكان والزمان، وستصاب بجرح الانتماء إلى فكرة الوطن. إن تأكيد الصورة النمطية للانتخابات وللعائلات وللوجوه السياسية نفسها، هو بمثابة تسلط قهري على ذهنية ونفسية اجتماعيتين وتحد "عدواني" لأفق انتظار الأفراد في الممكن السياسي المرتبط بالتغيير المنشود. - إذا لم تساهم الفئات المتنورة في المجتمع في حماية القانون وبناء وعي انتخابي صارم لدى فئاته، يمثل مقاومة رادعة لكل أساليب التحايل على الديمقراطية، وكل الممارسات المشينة التي ترسخت في السلوك الانتخابي، إما بسبب الدولة أو بسبب المجتمع نفسه، فإن تحصيل الوعي الجماعي لترسيخ ثقافة الحياة والعيش معا في فضاء الثقة المتبادلة، سيتحول إلى تحصيل مضاد، أساسه الوعي النكوصي الانتحاري الذي يمجد الذات القتيلة (بكل دلالاتها المباشرة والرمزية)، لأن تضييع فرصة تحصيل الوعي الجماعي، خلال هذه الانتخابات، وسيادة الصورة النمطية التقليدية نفسها، سيحول إمكان حصول القرار الجماعي في بناء الديمقراطية إلى قرار فئوي وفردي في الانحراف وحرق النفس والتدمير. خاتمة: إن أشد ما يتهددنا هو أن نستغبي شعبنا، وأن نجعل من انتخابات السابع من أكتوبر مرحلة أخرى لتأكيد الصورة النمطية للدولة، ولحظة مستمرة لاستقالة النخب المتنورة وفئات المجتمع الحية، إذاك ستعظم شجاعة الأفراد المنتعشة في الهامش لتترجم بشجاعة متهورة مقولة القديس بولوس الطرسوسي: "أفضل أن أموت فردا من أجل خطاياكم". * كاتب وباحث