يعتبر الانتحار الاحتجاجي فصلا حاسما في تاريخ مقاومة الشعوب على الساحة السياسية في شمال إفريقيا، حيث أضحت صحوة الجماهير وبحثهم عن العدالة الاجتماعية تولّد عنفا ذاتيا يتسم بالسادو-ماسوشية، ذلك أن معظم طقوس الاحتجاج بدأت تأخذ في الآونة الأخيرة مع انسداد الأفق السياسي والاقتصادي، تارة شكل عمليات انتحارية/استشهادية تحصد المحتج والمستهدف معا، و تارة أخرى شكل تضحيات بالذات عن طريق الاحتراق أو الإضراب عن الطعام حتى الموت بما في ذلك حالات الانتحار الأخيرة التي أشعلت فتيل الثورة في كل من تونس ومصر احتجاجا على التسلط والاستبداد و تردي الأوضاع الاقتصادية. يعرّف أندريولو (2006) مفهوم الانتحار الاحتجاجي ب "الموت برسالة، و من أجل رسالة، ونتيجة لرسالة"، إذ يرمي المنتحر بخطوته هذه إلى لفت انتباه المجتمع إلى شيء في تصوره يشكل خطأ ذي بعد اقتصادي أو سياسي أو أخلاقي، وهو خطأ نمطي يؤثر في حياة الكثيرين من أفراد المجتمع. و إذا تمكن المحتج الانتحاري من بلوغ هدفه المثالي، بإيقاظ مشاعر الظلم وآلام القهر، فإن الاهتمام بتصحيح الخطأ سوف يتحقق في نهاية المطاف، و يتحرك المجتمع نحو محاكمة المخطئين والجناة. يعتبر الانتحار الاحتجاجي تاريخيا معارضة غير لفظية، وذلك لأنها تنطوي على دوافع و تعابير عاطفية لا يفصح عنها المنتحر لغويا، بل ينحت الكلمة في جسد يقدمه قرباناً في تصوره من أجل إنقاذ المجتمع الذي يرزح تحت الظلم وجبروت الطغيان. و في كثير من الأحيان، يتم اختيار هذا النوع من المعارضة من قبل الثائرين عندما يتم تجاهل شرعية مطالبهم الاجتماعية، و يتم حرمانهم من منابر حرة للتعبير عن قضاياهم المصيرية، و توصد الأبواب في وجوهم دون الإنصات إليهم والتحاور معهم. لكن حينما تحدث حالات الانتحار الاحتجاجي في مجتمعات متقدمة تتوفر على سبل مفتوحة و قنوات رسمية للتعبير والحوار، نواجه السؤال المحير : لماذا يلجأ بعض المتظاهرين بالرغم من وجودهم في سياق سياسي ديمقراطي منفتح إلى ارتكاب أفعال راديكالية متطرفة غير قابلة للإلغاء، كالانتحار مثلا، وذلك من أجل المطالبة بحقوقهم؟ لقد وصف اميلي دوركهايم الانتحار الاحتجاجي ب"الإيثار"، أي هو بمثابة انتحار غيري، لأن الانتحاري هنا يقرر أن يضحي بحياته في سبيل إنقاذ المجتمع أو الدفاع عن كرامته، ونستحضر أمثلة نذكر منها الكاميكاز الياباني و الشهيد الفلسطيني اللذان يجسدان التضحية بالنفس في سبيل الدفاع عن الوطن، لأن الجندي يدافع عن أمته بتقديم روحه قرباناً لفداء الوطن. وهكذا يحقق الفعل الانتحاري القصد النهائي للباذل. إن هؤلاء هم المُؤْثِرون الذين يضحون بالأنانية الاجتماعية على مذبح الإرادة الجماعية. ينبغي أن نؤكد على أن الانتحار الاحتجاجي لا يؤدي دائما إلى إصلاحات سياسية أو اجتماعية، إلا أن استراتيجيات الاحتجاج المتطرفة القاتلة تهدف إلى توجيه انتباه الجمهور إلى قضية لإقناع بقية المجتمع بأهمية تصحيح الاختلالات والانتهاكات، تلك وسيلة رمزية لحث المجتمع على موقف أو عمل موحد، وتشجيع أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة لاتخاذ موقف أو تبني عمل إصلاحي لتفادي مظالم مستقبلية. استخدم المناضل الإرلندي ماك سوايني، على سبيل المثال، جسده باعتباره رمزا للمقاومة الايرلندية عندما دخل في إضراب عن الطعام لمدة 74 يوما، وتوفي في السجن في عام 1920. و لم يكن البوعزيزي ناشطا سياسيا ولا مناضلا متشددا مثل الايرلندي ماك سويني أو البوذيين المنتحرين حرقا في منطقة تبيت، أو المزارع الكوري الجنوبي لي كيونج هاي الذي طعن نفسه حتى الموت بسكين بعد القيام بسلسلة من الاحتجاجات دفاعا عن الزراعة لمدة 30 عاما. يعد البوعزيزي مثالا يحاكي النسخة المغربية المتمثلة في قصة الاحتجاجي محسن فكري الذي تم عصره في شاحنة نقل النفايات وهو يدافع عن بضاعته المحجوزة المزمع إتلافها داخل الشاحنة نفسها. يعتبر البوعزيزي رجلا عاديا اختار أن ينهي حياته، و لم يكن يعلم أنها ستصبح بمثابة "حافز رمزي" للتونسيين لكي ينتفضوا ضد الظلم والطغيان، و لتندلع بعد ذلك مباشرة شرارة الانتفاضة التونسية ضد حكم زين العابدين بن علي تحت شعار "لا لإذلال الشعب واحتقار المواطن". يعتبر الانتحار الاحتجاجي طقسا معبرا، يستطيع المحتج من خلاله عن قصد أو غير قصد تحويل جثته إلى كلمات ممانعة مقاومة مجابهة رافضة، كلمات تدعو باقي المجتمع للرد بمشاعر مماثلة ومعاني استنكارية؛ إن موت المحتج هي دعوة صريحة للمجتمع لمشاركة الباذل مشاعر اليأس والإحباط وعتمة المصير والقتل النفسي التي قد تشعل الحراك الاجتماعي في أي وقت. تعد الاحتجاجات الانتحارية أيضا وسيلة ناجعة للكشف عن الحقيقة المسكوت عنها لسوء استعمال السلطة في نظام سياسي قائم، إذ تفضح هذه العمليات الشطط والقمع والتهميش وسوء المعاملة عكس ما تقوم به وسائل الإعلام الرسمية المتخصصة في تلميع صورة النظام وطمس معالم هيمنته الاجتماعية. تجسد هذه الاحتجاجات مشاعر خاصة لأعضاء اجتماعيين تطبع حياتهم المعاناة اليومية، إذ تمكنهم من التعبير عن معاناتهم بأسلوب مقبول اجتماعيا، فإذا أخذنا مثال المناضل ماك سوايني مثلا، فهو يجسد الجوع باعتباره رمزا للموت الهزال البطيء لمجتمع يئن تحت وطأة الاحتلال محروما من الحرية. يعتبر محسن فكري صورة ميكروية عن إذلال أهل القاع، وجسده الذي سحق تحت ضاغطة حاوية لجمع القمامة يرمز إلى حياة اجتماعية بئيسة تداس يوميا تحت الضاغطة الاقتصادية الرأسمالية التي لا توفر أي ضمان اجتماعي للطبقات الاجتماعية المقهورة التي تكدح من أجل البقاء. إن سحق الجسد الاجتماعي داخل شاحنة لجمع القمامة، قد ينظر إليه من قبل الحركات الاجتماعية للمتظاهرين باعتباره إبادة للوجود الآدمي، و موت محسن فكري، ذلك المواطن المنتمي إلى أهل القاع، لهو إقرار بهذه الحقيقة. إنها مأساة أخلاقية بجميع المقاييس تشير إلى عدم أهمية العوام و معادلتهم بقمامة المجتمع الفاضل، حيث يتم تصنيفهم كبقايا لنظام رأسمالي يعتمدهم بوصفهم قوة بروليتارية تكد و تتعب في خدمة مصالح البرجوازية وحمايتها. وفي الواقع، إن خطوة محسن فكري لا تنبثق من اليأس، بل من شجاعة رجل خاض معركة تحدي ضد الذل والحكرة، إذ يرسل رسالة إلى المجتمع لتطهير عالمه من الفساد الإداري، بل هو أيضا تحديا لنظام اجتماعي و سياسي بأكمله، لافتا الانتباه إلى الشعور بالذنب والحاجة إلى التطهير. يقوم الانتحاري بتنفيذ عملية التطهير عبر التضحية بالجسد والحياة للفت انتباه الآخرين وإيقاظ مشاعرهم. و في كلتا الحالتين، سواء عن طريق تدمير الذات والآخر أو عن طريق استهداف الذات فقط، يوظف الفعل الانتحاري مفهوم الذنب ضمنيا باعتباره حافزا للتغيير، حيث يثير الشهيد/ المضحي مشاعر السخط والغضب بين أوساط الحركات الاجتماعية، فضلا عن إذاعته للإحساس بالذنب بين خصومه. ولكن ليكون دور الشهيد ناجحا، و يثير المضحي بالحياة تعاطفا شعبيا وتحالفا جماعيا من أجل قضيته، يجب أن تكون هناك قوة اجتماعية معارضة تلقي باللوم على الحكومة أو نظام السلطة، وتضعها في دور الشرير (انظر يورجنسن إرب، 1987). وإذا كان هناك تناقض عام حول من يقوم بهذه الأدوار في المجتمع، سيفضي فعل التضحية بالحياة بالباذل إلى توقع خاطئ قد يصنف فعله في أحسن الظروف إلى "تصرف أحمق"، خاصة إذا انتاب المجتمع ارتياب ثقافي حول مصير الثورات، كما هو الحال الآن في المغرب ودول أخرى بعد الحصيلة المأساوية للانتفاضات الشعبية خلال ما سمي بالربيع العربي، والذي أمسى خريفا ذابل الأوراق على يد أنظمة استبدادية عميقة تتحكم في عصب الدولة، و تمتّن يوميا بناء أجهزتها القمعية. و في حالة البوعزيزي، على سبيل المثال، وضعت السلطات التونسية نفسها في دور الشرير من خلال مصادرة غير مشروعة لبضاعة هذا البائع المتجول، وإساءة معاملته من قبل عناصر الشرطة الذين هم يمثلون في واقع الأمر مؤسسة النظام الحاكم. إذا كان هناك شعور عام بالرفض القوي و حقد اجتماعي متراكم ضد النظام السياسي القائم، ففعل التضحية بالحياة قد يحشد أصوات أتباع وحركات احتجاجية عارمة، وقد يمنح الضعفاء شحنة قوية للثورة ضد الهيمنة، وهكذا تصبح المعاناة سلاحا قويا في يد الضعفاء، ويصبح شهيد الحكرة أيقونة ورمزا للكفاح. وفي السياق نفسه، يقول إلمان (1993)على أن "ليس أولئك الذين يضطهِدون أكثر، ولكن أولئك الذين يكابدون أكثر، هم من سوف ينتصر في النهاية". على ضوء ما سبق ذكره، كيف سيُنظر لمدلول الاحتجاجات التي اجتاحت مؤخرا المغرب بعد وفاة بائع السمك في الحسيمة؟ إن خروج الآلاف من المحتجين عبر مدن وقرى المملكة لهو مؤشر هام على أن الإدارة المغربية، إن لم نقل النظام السياسي بأكمله، أصبح مصنفا في دور الشرير، و بأن هناك تنامي قاعدة اجتماعية تحمل شعورا عاما بالرفض للممارسات المخزنية اللامسؤولة ضد شريحة واسعة من أهل القاع. و بالطبع، هذا الشعور ليس جديدا، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحملة الانتخابية للحزب الفائز في المغرب، إذ أسس لحملته ليس بطرح برنامج سياسي متكامل، بقدر ما التجأ إلى دعاية هجومية على الأجهزة المخزنية و مفهوم الدولة العميقة، فانتقد قادة حزب العدالة والتنمية ما سمي "بالتحكم"، و حملوا فشل الخيارات الاقتصادية لحكومة الظل التي تُحكِم في نظرهم قبضتها على مفاتيح السلطة التنفيذية في البلاد. وهكذا أنحوا باللائمة على "العفاريت والتماسيح"، و جيوشوا كثلة انتخابية مهمة صوتت لمعارضة المخزن، و عقاب مؤسساته، تصويت عقابي يشهده المغرب منذ 2011، استجابة لخطاب شعبوي مكثف يعتمد ثنائية كتلة الجماهير ضد النخب الفاسدة دون تمييز بين طبقات المجتمع وفئاته. هذا بالرغم من أن حزب العدالة والتنمية هو جزء من دواليب الحكم، و يساهم في إدارة الشؤون العامة للبلاد، لكنه يصر على إلهام الجمهور بشعور عدم الثقة في بعض مؤسسات الدولة، محاولا التركيز على خطاب طهراني يفرق بين الأيادي المتسخة الفاسدة والأيادي الطاهرة النقية التي تحارب الفساد، و تلك محاولات لا تختلف كثيراً عن الفعل الانتحاري في تداعياتها، إذ تأجج الشارع، وتستقطب تعاطف الجماهير لتشرعن مزاعم حربها ضد الاستبداد. و يأتي خطاب الملك مؤخراً حول عدم فاعلية الإدارة المغربية و نجاعتها في التواصل مع المواطنين ليزكي هذا الخطاب الرافض، ولن يزيد الوضع إلا احتقانا بين صفوف أهل القاع لتُصنَّف الإدارة المغربية في دور الشرير بامتياز. و يجب على النخبة الحاكمة أن تعي أنه في ظل تزايد الضغوط الرأسمالية المعيشة، ستتخذ طقوس جلد الذات في الثقافة المغربية منعطف ما بعد المارابوتية، إذ لم يعد ممكنا التنفيس عن الذات الاجتماعية من خلال القنوات المقبولة ثقافيا، مثل الشطحات الصوفية المازوخية، وصرع الجن، بل ستتفجر من خلال وسائل جديدة تتسم بالعنف و تصفية الجسد، طقوس قد تزلزل أحيانا استقرار البنيات الاجتماعية التي ترعى ممارسة التسلط والهيمنة وتصونها. و ما ساعد على انتشار هذا الشكل الاحتجاجي هو حدوث ثورة رقمية في مجال الاتصال، و ظهور إعلام اجتماعي مكن المواطن من المعلومة وتبادلها من وجهة نظر غير رسمية خارج رقابة الدولة، و بالتالي همش دور الرقابة الرسمية المنحازة، ودور إعلام رسمي يتسم باحتكار المعلومة و طرح القضايا الاجتماعية والسياسية من زاوية فريدة تسعى إلى التحكم في المجال العمومي. لقد أصبح المواطن الصحفي ينافس الدولة في دورها بتوجيه المجال العمومي للاهتمام بقضايا دون أخرى، و ينافسها في الولوج إلى المعلومة، وربما قد تصل المعلومة الآن إلى المواطن قبل أن تصل إلى المسؤول الإداري، وكم من معلومة اطلع عليها الإداريون في المواقع الاجتماعية قبل أن تصلهم رسميا متأخرة، هذا سباق رقمي لازالت الدولة المغربية تواجه تحدياته دون مقاربة إعلامية واضحة في هذا المجال. ويظل السؤال الجوهري في هذا المقال مطروحا: لماذا قام محسن فكري و مي فتيحة و حميد الكانوني مثلا بالانتحار احتجاجا على الشطط في استعمال السلطة، و جاء هذا الفعل تحت مسمى "الحكرة"؟ هل هذه موجة رافضة اجتاحت العالم العربي بعد إقدام البوعزيزي على حرق نفسه، ثم أضحت هذه الواقعة بمثابة الخطاطة الاحتجاجية المؤثرة في شعوب "الحكرة"؟ هل هذا يعني أننا سنشاهد حالات انتحار احتجاجية جديدة في المستقبل؟ هل هذا التعبير الاحتجاجي القاسي ناتج عن القيود المفروضة على المنابر المؤسساتية و حرية الرأي إثر غياب ملحوظ للحوار بين المؤسسة والمواطن، خصوصا وهناك تقارير دولية تتحدث عن تراجع في مجال الحريات بالمغرب: "تقييد عمل الجمعيات والاتحادات واعتقال مقنّع لزعماء الرأي، و تفريق الاحتجاجات باستعمال القوة المفرطة، ومزاعم حول تعذيب بعض المنشقين"؟ و هل لمسرحة السلطة و استعراض عضلات قوتها في الفضاء العام علاقة بتغذية الإحساس بالحكرة، و استحضار خطاطة الانتحار الاحتجاجي الثقافية لإيقاظ مشاعر الشعب ضد القهر السياسي و انتهاك بعض المؤسسات لكرامة المواطن؟ في هذا العالم الرقمي السائل، ألا يبدو أن المسرحة المخزنية البالية للسلطة، واستعمال القوة المفرطة أمام الملأ في الفضاء العام تُعمّق الإحساس بالحكرة و الذل وتبخيس الذات الضعيفة— لنأخذ على سبيل المثال شطط رجال السلطة و مسرحة قوتهم في الأسواق الشعبية، وما تفرّخه من انتحارات احتجاجية؟ هل فعلا استطاعت الدولة المغربية أن تنتقل إلى نظام المراقبة، نظام الإراءة الشاملة البانوبتيكونية، أم أنها لا تزال تقبع تحت نير التسلط المخزني بخطابات مأثورة، مثل "إذا خالفت القانون، فلقد شققت عصا الطاعة، و بالتالي يجب نهْنَهتك ولجمك وردعك!" قبل أن نجيب على هذا السؤال، دعونا نتأمل قضية محسن فكري التي ألهمت فكرة كتابة هذا المقال، إذ ليس من الواضح بعد ما إذا كان قد سحُق جسد هذا المواطن عمدا تحت الضاغطة لشاحنة القمامة، وبأمر رجل سلطة، أو أنه كان مجرد حادث عرضي، هذا مع العلم أن عملية تشغيل الضاغطة تحتاج إلى تعاون اثنين من العمال، السائق للضغط على زر الكهرباء في مقصورة القيادة، ومساعده لسحب الرافعة في الجزء الخلفي من الشاحنة. وبصرف النظر عن هذه التفاصيل التي سوف تميط عنها اللثام التحقيقات الجارية لفرقة الشرطة الوطنية، تعد خطوة فكري التي قرر من خلالها القفز إلى شاحنة النفايات لمنع تنفيذ قرار إتلاف بضاعته، شكلا نضاليا في مواجهة ما اعتبره تعسفا وظلما في حقه، إذ اتخذ قرارا بالتضحية بحياته من أجل إنقاذ بضاعته من الضياع. و كيف لأحد مثله أن يتحمل تبديد سلعة باهظة الثمن وضع فيها رأسمالا مهما، وهي عبارة عن مخزون سمك "أبو سيف"، و سيتم سحقها في حاوية لجمع القمامة أمام عينيه؟ و من الملاحظ أن جميع حالات الانتحار الاحتجاجي السالفة الذكر تحوي مسرحة تعسفية مشوهة للسلطة من قبل أفراد الإدارات المختصة سواء عبر الإهانة اللفظية أو عن طريق مصادرة البضائع باستخدام القوة المفرطة في الأماكن العامة، كما ورد على لسان أهل الضحايا وفي تقارير صحفية. ولن تؤدي مثل هذه الاصطدامات في الوقت الحاضر بين المواطنين وأعوان السلطة، إلا إلى المزيد من الاحتقان والاستنكار الشعبي، وذلك نتيجة التغيير الحاصل في البيئة السياسية بعدما اكتشفت الحركات الاجتماعية قوتها في الاحتجاج أثناء حراك الربيع العربي، فمنذ ذلك الحين، بدأ الناس يشكون الشطط في استعمال السلطة، ويصرخون جماعة في وجه التسلط معتمدين شتى وسائل التحدي ضد ما يسمونه بالذل (الحكرة). و إذا تصفحنا قصة مي فتيحة، بائعة الحلوى في القنيطرة التي خاضت سلسلة من الاحتجاجات ضد مدن الصفيح، ثم حصلت على حصتها في السكن الاقتصادي، نجد أنها نقلت خطاطة الاحتجاج هذه، لكن بقساوة ومرارة إلى درجة أنها أنزلت الألم بجسدها في سبيل التعبير عن إذلالها واحتقارها من طرف موظف مسؤول في الإدارة العمومية. أرسلت هذه المرأة الضعيفة رسالة قوية من أمام مكتب قائد مقاطعة بالقنيطرة تحتج ضد ما تعرضت له من إهانات، كما جاء على لسان ابنتها، إذ نحتت كلمة الحكرة بشهوب نارية حفرت في جسدها معاني قوية بعثت بها إلى باقي المجتمع لتصحيح الخطأ الإداري المتمثل في الشطط في استعمال السلطة، وتعنيف الباعة المتجولين واحتقارهم. و هذا ليس خفيا، لأن قضية مي فتيحة أفاضت الكأس الممتلئ بأحداث مماثلة، حيث نسمع يوميا عن قواد مقاطعات تارة يطلبون الجزية (إتاوة) من الباعة المتجولين الذين يسمحون لهم باستخدام مساحات صغيرة في أطراف السوق المركزي لممارسة تجارتهم، وتارة أخرى يقومون بحملات تمشيطية لمطاردتهم ومصادرة بضائعهم، مما يؤدي غالبا إلى مواجهات عنيفة. في مشهد مؤلم على الفيديو بيوتوب، تم تصوير أحداثه من داخل مبنى مقاطعة في القنيطرة، يوثق أحدهم حادثة احتراق مي فتيحة، و من غريب الصدف أن الفيديو يظهر عناصر من الأمن تراقب كارثة احتراق جسد آدمي عن كتب وبدم بارد دون تقديم يد المساعدة لشخص في خطر، ثم يظهر بطل تلقائي، وهو طفل بريء يصارع وميض اللهب، ويحاول تمزيق الثياب المشتعلة التي تصلي جسدها، وفي الأخير، يهرع أحد المارة إليها حاملا بطانية لكي يتمكن من إطفاء النار التي تشوي الجسد، ثم لف "الجثة" التي تتلوى من الألم، وهكذا فارقت مي فتيحة الحياة لاحقا بسبب حروق "الحكرة" العميقة التي ندبت جسدها بأوشام التبخيس ودونية الإنسان المقهور. غادرت مي فتيحة في ألم وإذلال، لكن حروقها ستظل منحوتة في الذاكرة الشعبية، تأجج الجماهير و تثير إحساسهم بالحكرة، و توقظ الضمائر النائمة، وتفطنها إلى الإحساس بالذنب، هذا إن لم يكن قد فات الأوان، و تاه منها الضمير أثناء هرولتها المسعورة، وتهافتها على "رضاعة المال العام"، فلن ينفع معها إذن، إلا تضامن الحركات الاجتماعية ضد الحكرة، والنضال من أجل إسقاطها من منصب المسؤولية. فكري هو الآخر ذاق قسوة التسلط بمدينة الحسيمة عند إقدام عناصر من الأمن بإتلاف رأسماله أمام عينيه دون منحه فرصة للدفاع عن نفسه أو التحاور للوصول إلى حل للأزمة التي يرى فيها أنه ليس هو الطرف الوحيد المسؤول عنها. إذا كان صيد سياف البحر ممنوعا في هذا الموسم تبعا لقانون الراحة البيولوجية، فمحسن ليس إلا بائعا للسمك، لا يتوفر على قارب صيد، ولا على تأشيرة ترخص بيع السمك، ولا على طاقم يبيعه في مزاد علني. إذن، كان المشهد بالنسبة لمحسن تمثيلية درامية سريالية، تجسد معاني الحكرة لمواطن اغتصبت بضاعته عمدا دون مراجعة أو مصالحة، ومما زاد الطين بله هو قرار السلطات بإتلاف السمك داخل حاوية لرمي النفايات أمام أعين صاحب البضاعة، وكأن المغرب ينفُق سمك الذئب الصياد (يوميا)! وراجت روايات تتحدث عن فعل كلامي صدر من رجل سلطة يأمر سائق الشاحنة بسحق الرجل المعتصم داخل الحاوية، هل هذا الاعتداء اللفظي بصيغة الأمر " طحن مو!" هو من سحق محسن وحوّله إلى كفتة في شاحنة لجمع القمامة و أنهى حياته على الفور؟ هل فعلا صدر هذا الأمر؟ وبصرف النظر عن هذا الفعل الكلامي المحتمل وعاقبته الوخيمة، علينا أن نعترف بواقع الأشياء، كيف يمكن لبائع سمك أن يقف متفرجا على ضياع رأسماله منه، وطحنه في شاحنة لجمع القمامة؟ كيف يمكن أن يتصور بائع سمك إتلاف سمك "بوسيف" الطازج و باهظ الثمن، إذ حتى القطط لن تستفيد من هذه النفايات لتناول وجباتها من البروتين؟ كيف يحدث هذا في بلد لا يستطيع فيه أهل القاع تجاوز عتبة شراء سمك السردين؟ واقع لا يصدق! يبدو هذا المشهد برمته سرياليا! كان واضحا أن فكري لم يتقبل مفهوم هذه الآلية التي تنحدر من القرون الوسطى لتنفيذ القانون، إذ يتم إتلاف كمية طازجة من الأسماك في العلن وأمام صاحبها لإذلاله كي يصبح عبرة لمن تسول له نفسه الغش، في حين أن معظم المغاربة الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي، ليست لهم القدرة على شراء أسماك أقلها جودة. ارتجلت السلطات المحلية هذه الدراما التي تشبه طقوس العقاب في القرن الثامن عشر، لإرهاب تجار الأسماك، محذرة إياهم ضد أي سلوك مماثل. هذا ليس مثالا معزولا يتيما في المشهد السياسي الاجتماعي المغربي، إذ يدفعنا إلى التساؤل حول ماهية لجوء بعض أفراد السلطات المحلية المغربية إلى الاستعراض المسرحي للقوة وتطبيق القانون بارتجال طقوس مسرحية لاستعراضها. هل كان من المفروض في تطبيق "العدالة" في حالة فكري أن تلجأ السلطات إلى طقسنة قوة المخزن بشكل علني؟ ذلك لأن السؤال المحير هنا، هو لماذا أسرت السلطات على تطبيق القانون بطريقة سريالية في الشارع العام ؟ ما الفرق بين تعذيب الجسد في الساحة العامة لتخويف الشعوب، كما كان يحدث في القرن الثامن عشر، وتعذيب فكري بالوكالة عن طريق تعذيب وسحق أسماكه في الفضاء العام أمام جمهور من المشاهدين؟ هذه المسرحة في تطبيق أو بالأحرى مخالفة القانون لا تختلف كثيرا عن عمليات الإعدام العلنية التي وقعت في العصور الوسطى. في الماضي، كانت عمليات الإعدام تأخذ طابعا ماديا، أما في الوقت الراهن، فهذا الإعدام يأخذ شكلا رمزيا، لأن إتلاف مخزون الأسماك أمام أعين صاحبه دون إعطائه أدنى فرصة للدفاع عن قضيته، أو إجراء تحقيقات نزيهة تطال جميع الأطراف المتورطة في مخالفة القانون عبر صيد هذا النوع المحظور من السمك، بما في ذلك من تزوير محتمل لتراخيص من طرف المسؤولين العاملين في ميناء الحسيمة، يضع نقطة استفهام حول المغزى من مسرحة تطبيق المصادرة في حق محسن فكري؟ ما الهدف من إتلاف السلع و إذلال صاحبها في أماكن عامة سواء عن طريق الكلام أو الممارسة؟ ولماذا يلتجأ بعض المسؤولين إلى تطبيق القانون عن طريق مسرحته بعنف لفظي أو من خلال مماراسات رمزية استعلائية تصور عون السلطة بوصفه مهيمنا و المخالف باعتباره مذعنا ذليلا؟ يوما بعد يوم، يتأكد لنا أن الدولة المغربية لا زالت تعاني من بقايا المفهوم القديم للسلطة، ولا زال الكثير من رجالاتها يتشبثون بالثقافة المخزنية البالية، و تبقى الخطابات حول تأهيل الإدارة المغربية شعارات حبيسة ردهات البرلمان والصحافة موجهة للاستهلاك فقط. هل السلطة في المجتمعات المتقدمة تعمل الآن بآليات قمعية أم بآليات منتجة؟ هل السلطة قوة قمع أم نظام مراقبة؟ إن زمن تعذيب و شنق الجسد في الساحات العمومية أو قطع الرؤوس واستعراضها كفزاعات لإرهاب المجتمع قد ولّى، ولن تنتج مسرحة العقاب في الوقت الراهن إلا سخط الشعوب وغضبهم، وأمثلة ما سمي بالربيع العربي كثيرة من تونس زين العابدين إلى صاحب شتيمة "الجرذان" ليبيا القذافي. لقد تحولت السلطة في العالم الحديث إلى أداة منتجة تعمل من خلال نظام المراقبة والانضباط، إذ أن مفهوم السلطة أصبح يعادل مفهوم البانوبتيكون، وهو تصميم لسجن افتراضي، يشعر السجناء بأنهم مراقبون من طرف برج المراقبة حتى لو تمت مراقبتهم بشكل متقطع. في نظام البانوبتيكون، تبدو الممارسة الفعلية للسلطة غير ضرورية، لأن عملية مسرحة العقاب تُستبدل باستبطان الخطابات والأيديولوجيات الداعمة للسلطة التي يتم إنتاجها و إعادة إنتاجها على مستوى المعاني والدلالات المعيشة. ووفقا لفوكو، يعد البانوبتيكون تحولا تاريخيا في أساليب الضبط الاجتماعي، فبدلا من العقاب واستعراض القوة، تنتج السلطة قواعد سلوك اجتماعي من خلال نظام المراقبة والانضباط. و لقد أسفرت تقنيات المراقبة في المجتمعات المعاصرة على انتشار السلطة في جميع مؤسسات ومكونات الدولة الحديثة بأجهزتها القمعية وغير القمعية، ونفاذها إلى مؤسسات تعليمية و صحية و إعلامية ومجتمع مدني، ولم تعد منحصرة في دواليب البنيات الفوقية للحكم من مجالس تشريعية وحكومة وغيرها من المؤسسات، كما تمكنت من خلق نظام حقيقة، لإضفاء الشرعية على ممارستها، و عملت على تطبيع الجسد الاجتماعي من خلال تجزئة مؤسساتية، ساهمت فيها المدرسة، والسجن، والمستشفيات، ووسائل الإعلام في هيكلة و "تطويع" هذا الجسد الاجتماعي. انتهت حقبة مسرحة العقاب، وبدأت حقبة التنشئة والبَنْيَنَة المؤسساتية التي خصصت أماكن معزولة لتطبيق العدالة، و لم يعد الجسد موضع الألم والتعذيب، بل أصبح يخضع لنظام قيود وضوابط و محاسبة، وتم استبدال الإعدام في الساحات العامة بالفنيين والأطباء النفسيين والأخصائيين الاجتماعيين، والمحامين، والتربويين، وما إلى ذلك من مظاهر لعلمنة السلطة. انتقل العالم الغربي من التعذيب إلى التعليم. وحين نتحدث هنا عن السلطة، لا نشير إلى هيئة الرئاسة أو إلى المؤسسات السيادية، بل نتحدث عن الممارسة اليومية للسلطة. إن ما وقع في حادثة مي فتيحة ومحسن فكري يوحي بممارسة رثة للسلطة تعتمد مسرحة العقاب، تارة تتمثل في إتلاف البضائع أمام الملأ ورفسها في الأسواق، و تارة في إذلال الباعة المتجولين و عدم احترام آدميتهم باستعمال العنف اللفظي أو الجسدي، جميعها سلوكيات محتملة لرجالات السلطة قد تُحسب على الدولة ومؤسساتها، وتحمّلها مسؤولية التقصير في الحفاظ على سلامة الفرد و كرامة المواطن. و يأتي الفعل الانتحاري السالف الذكر كرد فعل رافض للحكرة والتبخيس، معبرا بشكل قاسي عن ألم و معاناة الإنسان المحكور/ المقهور. إن الإحساس بالمهانة لا ينبثق من تطبيق القانون، بل من مسرحة العقاب عند تنفيذ القانون. يجب تطبيق القانون في إطاره المؤسساتي وبضوابط صارمة تحت طائلة المساءلة و المحاسبة، حتى لا تنزلق الممارسات السلطوية إلى طقوس تمثيل السلطة و مسرحتها في سلوك احتفالي يقلل من شأن الذات الاجتماعية المخالِفة، وتحصد المزيد من الأرواح. دعونا نصارحكم أن القانون لا ينبغي مسرحته فقط ضد الضعفاء والبؤساء من أبناء هذا الوطن، خاصة وأن الفساد مستشري في المجتمع، و هناك من ذوي النفوذ من يعتبرون أنفسهم فوق القانون، ولا تتم محاسبتهم، بل يتم التصالح معهم تحت شعار "عفا الله عما سلف"، و هكذا قد يتمكنون من الإفلات من العقاب دون رادع، ناهيك عن الاحتقان الاجتماعي بين الأوساط الهشة بسبب البطالة وغيرها من الأمراض الاجتماعية. إذن، فبدلا من مساعدة الباعة المتجولين وتنظيم تجارتهم في إطار التنمية البشرية، نظرا لأن هؤلاء قد اختاروا السبل القانونية للاسترزاق عوض حمل السيوف و "شرملة" المواطنين، كما أنهم يتبضّعون من أسواق الجملة ، ويؤدون ضرائب على مشترياتهم كباقي تجار السوق، تسلك السلطات المحلية طرقا غريبة لمعاقبتهم علنا من خلال مصادرة أرزاقهم في الشارع العام؟ أليس هذا تفقير وتجويع لأهل القاع؟ أليس هذا عقاب تراجيدي لا يليق بخشبة المسرح الحديث؟ أليس هذا مصير قاتم حين ترسل شخصا يروج بضائع برأسمال بسيط إلى الشوارع مفلسا ليبدأ من الصفر؟ أليس هذا عقاب عبثي لا يوجد إلا في الأسطورة الإغريقية؟ إن قصص الباعة المتجولين في المغرب تجسّم أسطورة سيزيف البطل المتمرد الذي أغضب الإله زيوس، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا أوصلها إلى القمة تدحرجت منه إلى الأسفل، فيعود سيزيف ليحاول مرة أخرى، وهكذا يظل إلى الأبد. إن العقاب السيزيفي الذي يمارسه بعض رجالات السلطة الذين لا زالوا يحنون إلى الخطاطات المخزنية المتسلطة، سيشكل لا محالة وقودا جاهزا لإشعال فتيل الانتحارات الاحتجاجية مستقبلا. محمد معروف