بنت الحركة الإسلامية في المغرب نواتها الصلبة بتطوير وتنويع عملها الدعوي، في وقت كان العمل الجمعوي ذو الخلفية الإسلامية لا غنائم سياسية ترجى من ورائه، ولا تأتي من ورائه سوى المضايقات والمراقبة الصارمة التي كان يخضع لها باستمرار. وحتى عندما التحق أعضاء من حركة الإصلاح و التوحيد بحزب الحركة الشعبية الدستورية برئاسة الدكتور الخطيب، ظل هاجس الانتساب للحركة الإسلامية المغربية حاضرا في كل المعارك والمواقف إلى أن تم الخروج من جبة الدكتور الخطيب وبروز حزب العدالة والتنمية الذي يُعرِّف نفسه في مرجعياته بأنه: «حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي، ومزدهر ومتكافل. مغرب معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيا في مسيرة الحضارة الإنسانية». اعتبر حزب العدالة والتنمية منذ دائما امتدادا عضويا للحركة الإسلامية في المغرب، كما اعتبر تجسيدا للنضال السياسي الذي حمل لواءه مناضلون إسلاميون منذ بزوغ تيار الإسلام السياسي في المغرب، على الأقل رسميا منذ سنة 1992. إن الامتداد الاجتماعي الشعبي للإسلاميين، ومن خلاله حزب العدالة والتنمية، كانت دائما تحكمه استراتيجية واحدة ترتكز على القرب من المواطن وتبني الدفاع عن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية، لذلك اعتبر الكثيرون أن العمل الاجتماعي الذي نهضت به رابطة المستقبل الإسلامي، وحركة الإصلاح و التجديد، ثم بعد ذلك حركة التوحيد والإصلاح، سواء في مناسبات شهر رمضان أو الدخول المدرسي، وتحديد الطبقات الفقيرة كهدف خيري أولي، اعتبر هذا العمل استباقا استشرافيا لاستقطاب فئة عريضة من المجتمع المغربي، أغلبها من المعوزين، ونسبة كبيرة منها داخل المدن. كما أن شعارات مثل، عمل سياسي بديل، ومواجهة الفساد والاستبداد، وغير ذلك، اعتبر عند العديدين حنكة سياسية كانت تعرف كيف تستغل محاربة الحد الأدنى من الفقر والبؤس الاجتماعي لفئة عريضة من المغاربة لمصلحتها، مع الأخذ بعين الاعتبار دائما تقديم الحزب نفسه كوصي رئيسي على قيم وهوية المغرب الإسلامية، باعتبارها مرجعية أساسية يجمع عليها سائر المغاربة. اعتمادا على هذا، بنى الحزب قاعدته الانتخابية على نوعين من المصوتين: النوع الأول يشمل المنتسبين والمتعاطفين والقريبين من الحزب، والنوع الثاني يشمل المقتنعين بالخلفية الاسلامية لحزب العدالة والتنمية بدون إلمام بالجوانب السياسية للعملية الانتخابية. لذلك اعتبر اكتساح حزب العدالة والتنمية لانتخابات سنة 2011 وحيازته لرئاسة الوزراء، ثمرة عمل قاعدي له خلفية اجتماعية تأسست قبل ظهور حزب العدالة و التنمية بزمن طويل، كما اعتبرت طفرته الانتخابية في انتخابات 4 شتمبر 2015 والفوز برئاسة جهتين وعمودية عدد من المدن الرئيسية، دليل قوة وتعافي سياسي لم تنل منه إكراهات التدبير الحكومي المليئ بالمطبات والإكراهات التي كان من المقدر أن تؤثر على شعبية الحزب وفاعليته الاجتماعية والانتخابية ومكانته الرائدة في الساحة السياسية المغربية. جل استطلاعات الرأي التي تحلل ممكنات الفوز في انتخابات أكتوبر المقبل التشريعية تبوئ حزب العدالة والتنمية الصدارة، كما أن العديد من المتتبعين يَرَوْن أن المزاج الانتخابي العام للمغاربة مقتنع بالأداء السياسي للحكومة ورئيسها عبد الإله بنكيران رغم المناكفة الخجولة التي تمارسها المعارضة ورغم التشويش المقصود والمنهج الذي يحدثه حزب الأصالة والمعاصرة ورغم الضجيج الذي تسببه احتجاجات الشارع الاجتماعية. لم تأثر اختيارات حزب العدالة و التنمية، المعتمدة على حسابات سياسية محضة، على الوضعية الفكرية العامة للحركة، وبالتالي ظلت صفوفها مرصوصة، وفي نفس الوقت ظل الحزب موحدا في أول امتحان حقيقي كان من الممكن أن تحتك فيه الأفكار والقناعات وتتعارض فيه الاختيارات والقرارات، ونعني بِه اختيار التمسك بالحكومة، والبحث عن انطلاقة أخرى لها بالتحالف مع حزب الأحرار بعد انسحاب حزب الاستقلال الذي كان المقصود منه إقصاء حزب العدالة والتنمية من الحكم. اعتبر التحالف مع حزب الأحرار، رغم الصراعات السياسية المريرة التي خاضها حزب العدالة والتنمية معه، بغض النظر عن الرأي القائل بأن دخول الأحرار التجربة الحكومية كان هبة من الدولة لإطالة أمد الإسلاميين في الحكومة، اعتبر هذا القرار براغماتية سياسية جديدة لم يألفها الحزب الذي بنى الكثير من مبادئه على خيارات أخلاقية ثابتة، كما اعتبر حنكة حزبية واجهت العديد من الأصوات الداعية إلى الخروج من الحكومة لغياب حليف سياسي مناسب، أو في أحسن الأحوال الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها. اعتبر البعض التحالف مع الأحرار نكوصا أخلاقيا، وتراجعا عن المبادئ السياسية العامة التي تغنى بها الحزب طويلا، باعتبارها ممارسة سياسية بديلة، مختلفة ومبدئية، ولكن أظهرت نتائج الانتخابات الجماعية أن قرار الحزب كان فيه من اللعب السياسي الشيء الكثير. وفي نفس الوقت لم تؤثر الاختيارات الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية على مصداقيته، فالزيادات المتتالية في بعض المواد الاستهلاكية الحيوية، التي تمس القدرة الشرائية للمواطن المغربي، لم تأثر على المزاج العام للناخب، واعتبرت الكثير من الاختيارات، كنظام المقايسة المرتبط بصندوق المقاصة، شجاعة سياسية حزبية نادرة، وقراءة سليمة للواقع الماكرواقتصادي في المغرب بشهادة عدد من الفاعلين الاقتصاديين العالميين. كما أن معالجة ملفات أخرى ذات الأهمية الكبيرة كصندوق التقاعد، بغض النظر عن مدى رجاحة رأي الحكومة والحزب، اعتبر هو الآخر قدرة محمودة على مواجهة مصاعب التواصل والتفاوض مع الجهات المعنية بالملف وفي مقدمتها النقابات، والوصول بالملف إلى ًمستويات متقدمة نحو الطرح الذي ترتضيه الحكومة ومن خلالها الحزب. من أين يستمد حزب العدالة والتنمية هذه القوة الاقتراحية المبنية على المواجهة والتحدي؟ هل الممارسة السياسية لحزب العدالة والتنمية في الحكومة، والقائمة على براغماتية واضحة، تنسجم مع المبادئ العامة للتيار الإسلامي في المغرب ؟ هل منطق السياسة وإكراهاتها ومتغيراتها يمكن اعتباره مسوغا للانقلاب 180 درجة في كثير من المواقف و من كثير من الشخصيات السياسية التي كان الحزب يدينها ويرفضها جملة وتفصيلا، بل يدعو إلى محاربتها باعتبارها من مسببات مشاكل المغرب السياسية والاقتصادية؟ هل الحركة الإسلامية المغربية، سواء المنتمية لنفس الخلفية الإصلاحية أو المنتمية لحقول إسلامية حركية أخرى، مقتنعة، حقيقة، بالأداء السياسي لحزب العدالة والتنمية؟ هل الإسلاميون لا يجدون حرجا أمام سائر المغاربة، عندما تقوم حكومتهم باختيارات لاشعبية، إذا اعتبرنا أن الزيادة في الأسعار هي دائما أسهل الحلول للتغلب على الصعوبات الاقتصادية، ودائما تكون على حساب المواطن؟ ألا يمكن اعتبار حضور المنطق التبريري بقوة، في كلام وزراء ومسؤولي حزب العدالة والتنمية عن الزيادات وعن الاحتجاجات ، عوض حضور المنطق الدفاعي الإقناعي، علامة على وجود أزمة تواصلية لدى عدد من المنتسبين للحزب وللحركة، وعدد كبير من المغاربة، خاصة وأن بعض الإسلاميين عبروا صراحة عن تخوفهم من العواقب الوخيمة على مستقبل الحزب والحركة بشكل عام؟ هل إصرار حكومة الإسلاميين على تبني سياسات براغماتية يمكن أن يوسع من دائرة المرتدين عن الإيمان بمشروع حزب العدالة والتنمية؟ هل الإصرار على اتباع هوى الحكم والتشبث بدواليبه يمكن أن يقلص النواة الصلبة التصويتية لحزب العدالة و التنمية؟ حزب العدالة و التنمية يمارس السياسة الآن بمنطقها البراغماتي العام، وبالتالي لم يعد يتميز عن باقي الأحزاب المغربية بتلك الصفة الخاصة المستندة على ضرورة توفر العمل السياسي على حدود قصوى من المبادئ، والحركة الإسلامية المغربية كانت دائما تنظر بعين أخلاقية ومبدئية دينية لها امتدادات شعبية، هي التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الوزراء، لذلك التغلب على هذا التناقض بين الأداء الحكومي البراغماتي للحزب، والخلفية الأخلاقية المبدئية للحركة، تبدو مستحيلة، هذا إذا اعتبرنا العلاقة بين الحزب والحركة قائمة من الناحية الإجرائية، وأن التمييز بينهما هو تنظيمي فقط. بعض الشامتين يقولون بأن ما تخوف، أو بالأحرى ما عجز، عن فعله العديد من الأحزاب السياسية، فضلا عن الدولة، خلال 40 سنة، فعله حزب العدالة و التنمية في وقت قياسي لا يتعدى أربع سنوات. وأن هذه الإجراءات التي تهرب منها الجميع، يتبناها حزب العدالة والتنمية، ليس لأنه مؤمن بها بل لأنه مجبر على القيام بها، إما تعبيرا عن حسن نية، أو تأكيدا لوجود نوعي في الساحة السياسية يشكك البعض فيه. لهذا وجب التنبيه، يمكن أن تكون الممارسة السياسية والتدبير الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية، عاملا إضافيا يساهم في اتساع المد الشعبي للحزب، أما خسارته لقواعده الانتخابية فهذا أضحى مستبعدا، مادام الحزب دخل في صف الأحزاب المغربية التي تُمارس السياسة وفق شروط اللعبة المرسومة ووفق القواعد المعدة سلفا للعب السياسي المغربي، لا يتميز عنها في شيء ولا يختلف معها في شيء، حتى تثبث نتائج الانتخابات المقبلة العكس. حزب العدالة والتنمية قطع شوطا مهما، من خلال تدبيره الحكومي، في تطبيع وجوده في الحقل السياسي المغربي، ببراغماتية سياسية مرنة ورؤية حزبية متزنة ومنفتحة وتدافع انتخابي ذكي ومدروس، كل هذا جعله حزبا له وزنه وقيمته، يقترب من الأحزاب المغربية الأخرى، التاريخية والإدارية، أكثر، ولكنه في التدبير والتطبيق والمبادرة ابتعد عنها أكثر، لعله يحضى بالثقة والرضى أكثر وأكثر.