الموت مثلما هو هادم اللذات، كما عرفه المتواتر من المأثور، هو أيضا كاشف الأسرار وقارئ ما طوي من الصفحات، وما انطوى فيها من جمائل أو من قبائح، وكم من أعاظم الرجال من كان الموت سببا في أن يفوح أريج سرائرهم على الملأ بعد رحيلهم. والحاج ميلود الشعبي، الذي ودعته البلاد، في محفل جنائزي مهيب، هو واحد من هؤلاء الذين ستسير الركبان دهرا، بذكر أعمالهم، الخفي منها والظاهر، وهو الذي كان شلالا سيالا من الطاقة الدافقة في خدمة البلاد، وبناء اقتصادها الوطني. البناء الذي كان يتطلب من ابن الشعب العاري من أسباب المنعة والعصبة والركن الشديد، أن يتحمل قساوة المعارك ومرارة المؤامرات، والتي كان أولها معركة تحرير الرأسمال من استحواذ الأجنبي المستعمر، وكان تاليها الصراع العلقم مع صنائع الاستعمار، من جهة، ثم صنائع الانتهازية الوطنية، من جهة أخرى، الذين كانوا يريدون وحدهم الاستئثار بالرأسمال الوطني، دون أن يشاركهم في ذلك، من يلقي بهم رحم الشعب، في المعمعة، مسلحين فقط بسواعدهم وهممهم وعبقرياتهم، لا بأنسابهم وأحسابهم وشفاعات الاستعمار لهم. هذا الرجل الذي قدت شخصيته من صخر الوطنية الأصيلة، كان يعرف للرجال أقدارهم، ولا يفرق بين قساوة النضال الاقتصادي وقساوة النضال السياسي، سيما إذا كان هذا النضال يبتلع أعمار أشراف الرجال في السجون والمعتقلات، ولذلك ولما دعي إلى دعم من أفنوا زهرة شبابهم في اعتقالات سنوات الجمر، لم يتخلف ولم يلجم خطوه خوف أو شح أو ذعر من قبيل ما ينتاب عادة سدنة الرأسمال، فالرأسمال من طبيعته السائدة أنه جبان. ولكن المرحوم ميلود كان شهما ومقداما. كان ذلك سنة 1994، سنة المصالحة السياسية الكبرى التي أعلنها الملك الحسن الثاني، مع كل أطياف المعارضة السياسية، من الاتجاه الاتحادي إلى الاتجاه اليساري الماركسي إلى الاتجاه الإسلامي، والتي بمقتضاها كان العفو السياسي العام والشامل، عن المنفيين والمعتقلين السياسيين. وفي هذه الأجواء، أجواء الانفراج السياسي، كان الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين اليساريين، وعن المعتقلين السياسيين الإسلاميين، ولكن ليس بشكل كلي. وعاد المعتقلون السياسيون المفرج عنهم إلى أحضان الحرية، غير أنهم وجدوا أنفسهم قد تخلصوا من بأساء الزنازن ليواجهوا بأساء ضوائق وتكاليف الحياة. وكان معظم المعتقلين الإسلاميين، قد فارقوا عائلاتهم عند بدء رحلة الاعتقال، وهم في ريعان الشباب، حيث كانوا يعيشون في كنف الآباء، وبعد عشر سنوات من عذابات السجون، وجدوا الأوضاع العائلية والمنزلية قد تبدلت بشكل أصبح معه الإيواء العائلي لهم تعتريه مصاعب كثيرة، فقد غيب الموت كثيرا من الآباء، وغمر الفقر كثيرا من العائلات من فرط ما أنفقوا على أبنائهم في السجون. ووجد المعتقلون الإسلاميون أنفسهم في مواجهة العودة إلى الكفاح المطلبي الذي تمرسوا على فنون نضالاته داخل السجون من أجل حقوق العيش الكريم، وهكذا وجد أحد رموز السلطات المحلية بالدار البيضاء، وهو العامل الشهير عبد العزيز العفورة، وجد نفسه إزاء محاورين من طبيعة خاصة، ومن شكيمة نوعية، لا تقبل المراوغات، إنهم أبطال المصالحة السياسية، العائدون الجدد من السجون بعد أحكام المؤبد، يطالبون بإيجاد حل عاجل لإسكانهم، فلم يتأخر في الاستجابة لمطالبهم، وهو الرجل النافذ آنذاك في أركان وزارة الداخلية، ويدرك جيدا حساسية أجواء المصالحة السياسية التي دخل بها المغرب عهدا جديدا، وكان أن أقطع للمطالبين بالسكن أرضا يقتسمونها بينهم في الدائرة الترابية لعمالة عين السبع، فكانت خطوة تحسب للرجل ولذكائه السلطوي وشجاعته في معالجة الأزمات. لكن كيف يبني المعتقلون المفرج عنهم مساكنهم على تلك الأرض، وهم فارغو الجيوب، لا يملكون حتى أقواتهم ؟. وهنا جاء دور الرجل الوطني الشهم الحاج ميلود الشعبي، الذي لم يتوانى في أن يوفر لعتقاء أحكام السجن المؤبد، المواد اللازمة للبناء، لتشييد مساكنهم. كان المتدخل لديه الذي قدم له المعتقلين الإسلاميين، هو الرجل القيادي عبد الرزاق أفيلال، أحد الزعماء السياسيين والنقابيين لحزب الاستقلال، والذي كانت له علاقة خاصة آنئذ بالمعتقلين الإسلاميين، لكونه كان المسؤول المشرف على ملفات الاعتقال السياسي الإسلامي بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. المساكن الجميلة المتراصة في رونق بديع إلى جنب بعضها، التي شيدها المعتقلون السياسيون الإسلاميون المطالبون بالسكن، كانت تجليا ملموسا من تجليات المصالحة الوطنية، تداخلت فيها مشاركة رمزيات الاقتصاد والسياسية والسلطة، فالرمز الاقتصادي المرحوم ميلود الشعبي وهو يقدم عطاءه، يقدمه دعما لإدماج واستقرار رجال أعطوا للبلاد عصارة أعمارهم في معركة النضال من أجل كرامة الشعب، والرمز السياسي عبد الرزاق أفيلال، من مواقعه السياسية والحقوقية، يقدم الغطاء الإنساني احتفاءا منه باللحظة التاريخية للمصالحة، والرمز السلطوي العامل عبد العزيز العفورة، كان بقراره حل مشكلة السكن للمفرج عنهم، يقوم بدور رجل السلطة في ترجمة التطلع إلى المصالحة من مضمونها القيمي إلى انبثاقها الواقعي الملموس على الأرض. رحم الله ميلود الشعبي الذي ذكرت وفاته بأعماله البيضاء. * محام ،عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة