هناك مثل شعبي مغربي يقول «صاحبك في الحزة»، أي أن الصديق هو الذي يواصل ارتباطه بك حتى في أصعب اللحظات. وحين يتعلق الأمر بصحبة علية القوم فتلك حكاية أخرى، إذ غالبا ما يتفرق الجمع من حول شخصية لمجرد نزوله من سدة الحكم أو الجاه إلى قعر المجتمع، ويزداد الجحود حين يفتقد المرء السلطة، حينها يصبح في عزلة تامة إلا من أفراد أسرته أو من تبقى من مخلصين في محيطه. ويجسد مثل شعبي آخر المصالح الذاتية التي تحرك الناس في تقربهم من السلطة، وكيف يستقيلون من التزلف لمجرد انتهاء صلاحية السلطة، «ماتت الخادم ديال القاضي فالعزا ما بقا حد، مات القاضي ماجا حد»، بمعنى أن وفاة الخادمة لا ينهي السلطة، عكس وفاة القاضي التي تضع حدا لوظيفته وتنهي بالتالي مسببات العلاقة به حتى وإن كانت علاقة تحركها منافع مادية أو معنوية. أكبر مشاهد الجحود نقرأها في تاريخ المغرب، في قرية أغمات التي لا تبعد عن مدينة مراكش إلا بحوالي 30 كيلومترا، يوجد قبر الملك الأندلسي والشاعر الكبير المعتمد بن عباد، وإلى جانبه قبر زوجته اعتماد الرميكية ثم ابنه، في هذا المكان المهمل يرقد رجل جمع بين السلطة والشعر فوصفه أدب الرحلات بأنه من «أندى الملوك راحة وأرحبهم ساحة وبابه محط الرجال وكعبة الآمال، وله شعر غاية من الحكمة والرصانة والجمال». لكن قدر الرجل أن يقضي أيامه الأخيرة في سجن أغمات، وحين تزوره بناته يوم العيد يقفن على سوء أحواله فينشد قصيدته الرائعة: فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا / وكان عيدك باللذات معمورا وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ / فساءك العيد في أغمات مأسورا يواصل التاريخ المغربي تقديم مشاهد الجحود، من خلال سيرة رجال سادوا ثم بادوا، تقاسموا متعة الحكم مع المقربين وعانوا وحدهم محنة الإبعاد عن السلطة والجاه أو هما معا. وحده محيط الأسرة: الزوجة والأبناء والأبوان وأقرب المقربين هم الذين يصمدون أمام عاديات الزمن. في هذا الملف تسلط «المساء» الضوء على محنة زوجات المعارضين للنظام، ومعيشهم اليومي في الأيام السوداء، في ظل مناخ الخوف والرعب من سلطة المخزن، التي لا تكتفي بمعاقبة المخطئ إن أخطأ، بل تمتد لتشمل محيطه ومن تبقى من أصدقاء. أدين محمد أوفقير بتهمة التخطيط للإطاحة بالملك الحسن الثاني والملكية، وسواء انتحر الجنيرال، كما تقول الرواية الرسمية، أو تمت تصفيته فإن زوجته وأبناءه أدوا فاتورة غضبة الحسن الثاني، وتنقلوا بين معتقلات سرية لمدة 17 سنة، قبل أن يكون الهروب هو الحل للإفلات من الموت. وإذا كانت فاطمة أوفقير قد عاشت المحنة وراء القضبان فإن زوجات كثير من «قاطني» معتقل تازمامارت الرهيب كن أشبه بالسجينات لا فرق بينهن وبين أزواجهن إلا بأرقام الاعتقال. ولأن زوجات المعارضين المنفيين خارج الوطن يقضين غصبا عنهن احتجازا في الاغتراب ويحرمن من استنشاق نسمات هواء المغرب، في أقسى عقوبة حبسية وأشدها وقعا على المغاربة، فإن محنتهن لا تقل عن محنة أزواجهن، وحين يصبح الوطن غفورا رحيما بأبنائه يشمل الصفح الزوجة والأبناء.
فاطمة الشنا: زوجة أوفقير التي جنت عليها زيارة عقيد مريض يٌجمع كل من قرأ بتمعن مأساة أسرة الجنيرال محمد أوفقير، أن الحكاية تستحق أن تصاغ في قالب سيناريو فيلم مثير، لما تحفل به من مواقف فيها حبكة فنية وإثارة تشد المتتبع وتجعله جزءا لا يتجزأ من قصة تقاطع فيها اليسر مع العسر. عاشت فاطمة الشنا زوجة أوفقير حياة الترف فلم تكن غريبة عن القصر الذي تربت فيه مع الأميرات، قبل أن يساهم زواجها بالرجل القوي في المنظومة العسكرية للقصر، في رفع "كوطتها". لكن بين يوم وليلة استبدلت أسرة أوفقير الرفاهية بالبؤس، وأدت فاتورة مخطط زوجها للإطاحة بالملكية حين تم إجلاؤها رفقة أبنائها في أقبية معتقلات مجهولة بلا خرائط، لا يفصل بينها وبين الموت إلا الصبر والجلد. تقول الرواية الرسمية، إن أوفقير كان يخطط لإسقاط الطائرة الملكية رفقة مجموعة من الطيارين في السادس عشر من غشت 1972، وحين فشل مخططه الانقلابي انتحر في حضرة الملك، لكن زوجة الجنيرال تنفي هذه الرواية وتؤكد أنها تلقت مكالمة من زوجها ساعات قبل "قتله" وكانت تقضي عطلتها الصيفية في منتجع "قبيلة" شمال المملكة، يصف لها الوضع الأمني بالمستقر ويدعوها للالتحاق بالعاصمة، لكن الظروف شاءت أن تلقاه جثة هامدة، حيث تسلمت جثمانه في الوقت الذي تحدث فيه بيان القصر عن انتحار وزير الدفاع أوفقير. قبل أن تجد الزوجة فرقا بين التصفية والانتحار، كان المحققون يطرقون باب بيت أسرة أوفقير، خضعت فاطمة لاستنطاق طويل، كان السؤال الجوهري هو مدى علم الزوجة بتفاصيل الانقلاب، واعتبرت شريكة للجنيرال في مسعاه لقلب النظام. ذنب فاطمة الأول أنها زوجة أوفقير وإدانتها الثانية زيارتها لمحمد أمقران المدير التنفيذي للانقلاب الفاشل، حيث ركز رجالات أحمد الدليمي الغريم التقليدي لزوجها على ما دار بين فاطمة ومحمد في مستشفى باريسي، وسر تخلفها عن رحلة فرنسا رغم تلقيها دعوة من القصر لمرافقة الأميرات. أمام فداحة الخطب، لم يكن الوضع يفرض اتباع مسطرة الوضع تحت الحراسة النظرية لتعميق البحث، بل إن الدليمي، الذي لا يخطئ المواعيد مع الفرص، أصدر أمرا بترحيل فاطمة أوفقير وأبنائها خارج خريطة الكرامة، وتمكينها من رحلة بين أكثر السجون مرارة. وضِعت أسرة أوفقير قيد الإقامة الجبرية في معتقل بأسا، وحين اندلعت الحرب مع البوليساريو تقرر إبعاد الأسرة المعتقلة عن عيون الانفصاليين والجزائريين، فتم نقلهم إلى معتقل بأكدز، ومنه إلى البئر الجديد على الطريق الرابطة بين الدار البيضاء والجديدة، هنا حفر الأبناء خندقا تحت سور المعتقل السري أفضى إلى حقل مجاور قبل أن يرحلوا شمالا إلى طنجة في محاولة للفرار خارج الوطن وترويج المحنة إعلاميا وحقوقيا، ورغم أن الأجهزة الأمنية وضعت يدها على الفارين من جحيم البئر الجديد، إلا أن الحكاية كانت لها تتمة في معتقل درب مولاي الشريف ومنه إلى معتقل في مراكش كان آخر محطة للأسرة المكلومة، قبل نيل جوازات سفر تمنحها حق التحليق بعيدا عن معاقل خرجت منها دون أن تغادر وجدانها. تختزل الراحلة فاطمة أوفقير نكبتها في سيرتها "حدائق الملك" (الجنيرال أوفقير والحسن الثاني ونحن)، وتقول بعد توقفها في باحة استراحة: "لم يبق لي الآن إلا الذكريات تحلل ماضي، دمر منزلي في زنقة الأميرات، لأن شائعة زعمت أن نفقا سريا يصل بينه وبين المنزل الذي كان يسكنه الحسن الثاني خلال ولاية العهد، تهمة تثير السخرية فمنزلنا غير مجهز حتى بقبو. بعد رحيلنا وضعوا أغراضنا في الأرض العراء المجاورة للمنزل وتعرض معظمها للسرقة، ووضع ما تبقى في عنبر سحبت منه وزارة الداخلية كل ما يلزمها عند كل حفل استقبال تقيمه. لم أجد بعد تسع عشرة سنة إلا بعض الفضيات ولوحات ممزقة وبعض الأواني الصدئة المهملة وسكاكين للسمك لا تستعمل في المغرب واختفى الباقي، اختفت كؤوس الفضة والكريستال.. عندما جاؤوا لتسليمي البقية الهزيلة من روائع أبهتي الماضية، أردت أن أترك لهم كل شيء، فأنا أستطيع العيش بدونها، وقد شربت خلال عشرين سنة بقعر زجاجة من البلاستيك". غيثة بناني: ابنة القاضي التي لم ينصفها القضاء في قضية زوجها بنبركة من المفارقات الغريبة في حياة غيثة بناني، زوجة المعارض المغربي المفقود المهدي بنبركة، أنها عاشت في كنف والدها القاضي أحمد بناني في بيت تستنشق فيه رائحة الأدب والفقه ممزوجة بنسائم القانون. قبل أن تعلق الزوجة مصيرها هي وأسرتها على القضاء، الذي عجز عن فك شفرة اختطاف المهدي. لكن أم المفارقات هي إصرار والد أشهر معارض في تاريخ المملكة، على أن يختزل في ليلة واحدة زفافين، ففي عز الحراك المغربي ضد المستعمر الفرنسي وتحديدا في سنة 1949 تزوج شقيقان المهدي وعبد القادر من شقيقتين غيثة وحبيبة. من الصعب على قاض في تلك الحقبة أن يوافق على زواج ابنته من شاب خرج للتو من السجن، بسبب اعتراضه على مستعمر صادر الحريات العامة والخاصة، لكن القاضي بناني لم يعلن الفيتو الأبوي ومنح الضوء الأخضر لزواج وصف حينها بالوطني، رغم أن غيثة لم تكن تتجاوز حينها 16 سنة، وعريسها لم يكن من وجهاء العاصمة. يقول البشير بنبركة، نجل المهدي، في جلساته على كرسي الاعتراف ل"المساء" إن والد غيثة كان قاضيا وفقيها وشقيقه ممن ألفوا النشيد الوطني الريفي في عهد عبد الكريم الخطابي، "حتى عندما تم إخباره بعد الزواج بأن ابنته غيثة قد استغنت عن اللثام ولبست لباسا عصريا، أجاب القاضي قائلا: "ابنتي تفعل ما يقوله لها زوجها، أما أنا فلم يعد من شأني التقرير في اختياراتها".. أدت لالة غيثة ضريبة الارتباط بشخصية عمومية ومزعجة للنظام في الوقت ذاته، حيث تنقلت بين المدن من الرباط إلى تمارة، لكنها وأمام مشاغل الزوج وجدت في ابنها البشير الذي خرج إلى الوجود بعد سنة واحدة من الزواج المؤنس إلى جانب شقيقتها طبعا التي كانت تقطن معها في المسكن نفسه. كما انتقلت إلى حي السويسي في فيلا منحت للمهدي كسكن وظيفي، بعد تعيينه على رأس المجلس الاستشاري، لكن موقف المهدي المعارض لحرب الرمال بين المغاربة والجزائريين حكم على الأسرة بالانتقال إلى الجزائر بعد أن هيأت لها سلطات الهواري بومدين جوازات سفر جزائرية قبل أن تستقر في القاهرة. ظلت غيثة تعاني من محنة الإبعاد عن الوطن منذ اغتيال زوجها في باريس سنة 1965، وحين عادت إلى المغرب بعد وفاة الحسن الثاني، عانت من اغتراب آخر، يقول البشير إن ما حز في نفسها أكثر هو تنكر أصدقاء الأمس لها، "خاصة حين رفض عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول، استقبالها وهو الذي كان مصنفا في خانة "صديق العائلة". بل كان يتردد على بيتها في القاهرة كلما حل بمصر، وهو الموقف الذي نهجه اتحاديون آخرون، خاصة وزيري العدل السابقين محمد بوزوبع وعبد الواحد الراضي". كريستين دور: تزوجت في سجن وندرت حياتها لكشف أفظع سجن كل سجناء تازمامارت مدينون لهذه السيدة فرنسية الجنسية مغربية الوجدان، فقد كانت زوجة المعارض أبرهام السرفاتي، هي "المخرجة" الرئيسية لكتاب "صديقنا الملك" لصاحبه جيل بيرو، من خلال إعداد المادة الخام لهذا المؤلف الذي حرك البركة الراكدة للاعتقال السري في المغرب، وكانت وراء ترويجه في الأوساط الحقوقية والحزبية، مما جعل منها مخلصة المنسيين من معتقل سري يفترس نزلاءه ويحولهم إلى كائنات من كوكب آخر. تقمصت كريستين أدوارا تتجاوز دفاعها عن قضية زوجها أبراهام السرفاتي المعارض للنظام، والذي قضى في سجون الحسن الثاني سبع عشرة سنة، بل وسعت نضالها ليشمل معتقلين آخرين وتصبح داعية للكشف أولا عن مصير سجناء تازمامارت، ليس لأنها تزوجت أبراهام في سجن القنيطرة، بل لأنها عاشت منذ طفولتها تحت نيران النازية فسكنها الخوف من الاضطهاد. عاشت هذه السيدة شبابها مناضلة في الحزب الشيوعي قبل أن يجرفها حماس الشباب إلى التنظيمات الثورية، التي تستلهم فكرها من الاتحاد السوفياتي، وحتى بعد سقوط سور برلين فإن كريستين لم تكسر الجدار الذي يفصل بينها وبين الحرية. لكن بين زوجتي المعارضين للنظام، السرفاتي وأوفقير، العديد من القواسم المشتركة، التي صنعت نكبتهما، فهما معا تزوجتا مرتين وعاشتا حرقة الاعتقال طويل المدى، وأشرفتا على قضاء حوالي عقدين من الزمن المحروس. والدا كريستين وفاطمة عاشا في كنف الجيش وحملا النياشين قبل أن يستقيلا ويرميان السلاح بعيدا، ثم إن الصحافة استهوت نجل أوفقير وكريمة السرفاتي على السواء، حتى تاريخ الاعتقال وحد بين الأسرتين فقد اعتقلت فاطمة والسرفاتي في السنة نفسها 1972 وبالتهمة "نفسها التآمر على النظام"، وحين انتهت رحلة الاعتقال الرهيبة كانت وجهتهما معا باريس، وكأن برج إيفل أضحى مبكى للناجين من السجون السرية والعلنية. هناك انكبت كل منهما على كتابة مذكراتها حيث كتبت فاطمة "حدائق الملك"، وألفت كريستين مذكراتها "لقاء مع المغرب" لكن باسم مستعار (كلود أريام). كان زواج كريستين من السرفاتي تجسيدا حقيقيا للتعايش الديني والنضالي، فقد عقدا قرانهما في السجن المركزي للقنيطرة، وشكلت إلى جانبه درعا صامدا ضد ضربات سنوات الرصاص، حتى شيعته إلى مثواه الأخير بالمقبرة اليهودية بالدار البيضاء، بعد أن شاركا سويا في معركة الكشف عن معتقل تازمامارت الرهيب. تقول ديور في بوحها على "كرسي اعتراف المساء": "خلال عملي النضالي لمصلحة المعتقلين، التقيت زوجة حشاد الطيار المعتقل السابق في تازمامارت وكنت أضطر إلى الانتقال من مكان إلى آخر في الصندوق الخلفي للسيارة لو اقتضى مني الأمر ذلك. بالنسبة إلي كانت المخاطرة جزءا من الإيمان بعملي". إيزة: انتظرت الإفراج عن زوجي من تزمامارت وحين خرج تزوج تحكي إيزة عن معاناتها منذ أن اعتقل زوجها سنة 1971، عقب انقلاب الصخيرات. تزوجت وعمرها 16 سنة، برجل يشتغل ملازما برتبة صغيرة في الجيش. اضطرت بسبب وظيفة زوجها العسكرية إلى التنقل المستمر محرومة من تواصل زيارات عائلتها. كانت تعيش مع زوجها بهرمومو، هناك انقلبت حياة ايزة رأسا على عقب في أحد أيام سنة 1971، حين فوجئت بأصوات شاحنات وسيارات الإسعاف متلاحقة بالمنطقة، وبدأ الجنود في محاصرة البلدة والهجوم على المنازل. "عند منتصف الليل اقتحم الجنود منزلنا حيث أحضن أطفالي الصغار الأربعة وحبلى بخامستهم، لم أفهم شيئا، ليصل إلى أسماعي في وقت لاحق خبر انقلاب الصخيرات الذي تسبب في إلقاء القبض على عدد كبير من الجنود بهرمومو، وكان زوجي واحدا منهم، وعلى مدى ثلاثة أشهر بقينا كذلك لا نعرف ما يتعين علينا فعله، لنكتشف بعد ذلك أنه بتازمامارت، ولنعيش نحن تحت المراقبة في خوف وهلع مستمر، كانوا يداهمون البيت في أي وقت، ليلا ونهارا. للبحث في جميع جنباته، أصبحت عرضة لكل أنواع التعنيف، الأولاد يشرعون في البكاء كلما حل الجنود بالبيت، لا يمنعهم أي وقت، سواء أكنا مستيقظين أو نياما. لم يعد أحد من الجيران يجرؤ على الاقتراب منا، بعد مرور مدة من العذاب والاستجوابات والاستنطاقات والإذلال، وصل شقيقي من الدار البيضاء فساعدنا على الرحيل، استأجر لنا بيتا في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة مجاورة ودفع الإيجار. وكلما اشتغلت اتصل فاعلو الشر بمشغلي ليخبروه بأنني "زوجة مجرم"، حزني كبير على أولادي، لقد حرموا من والدهم لمدة 22 عاما، كما حرموا مني أنا أيضا، كنت أنطلق إلى العمل في السادسة صباحا ولا أعود سوى في وقت متأخر من الليل. أجهد لكي يستمروا في الحياة. ذات يوم قرأ ابني في إحدى الصحف مقالا عن تزمامارت مشفوعا بلائحة المعتقلين الذين خرجوا أحياء من هناك. ليكتشف أن والده لايزال على قيد الحياة. جمعت أبنائي وحماتي التي ظلت تعيش معنا، وانتقلنا إلى المكان الذي نقلوهم إليه من تازمامارت، عند وصولنا، اعتقدت ابنتاي أنهما تعرفتا على والدهما بمجرد ما رأوا أحد المفرج عنهم يظهر، لكن للأسف أخبرتهما بأنه ليس والدهما. ثم رأيته يظهر، لقد تغير كثيرا إلى درجة بالكاد يمكننا التعرف عليه. كان الوهن مستبدا به، لا يستطيع المشي. بعد ذلك منعونا وتعذرت الزيارة، حدثنا أحد الحراس بكلام مبهم، مفاده أن زوجي قد يكون توفي. حزنت كثيرا، لم أستطع الأكل وبقيت أبكي لأيام، دخلت الأسرة على إثر ذلك في حداد. مرت عدة أيام ونحن نعتقد أن زوجي قد مات. ذهبت ذات يوم لزيارة أخي في البادية، وإذا بابني يلحق بي بشكل مفاجئ ليخبرني بصوت متأثر بأن والده قد أفرج عنه. لم يكن أحد في استقباله، لأننا لم نكن نعرف، لكن ذلك لم يكن مهما، كنا مبتهجين للغاية بالخبر، عندها فقط توقفت عن العمل ولزمت البيت، كل شيء بدا لي على مايرام، لكنني لاحظت أن زوجي أصبح قاسيا عكس ما كان عليه في السابق، لا يتحدث معي إلا نادرا وعندما يفعل تكون كلماته قاسية جدا، ثم بدأ يضربني، وذات يوم أخبرني بأنه عازم على الزواج ثانية، لم يستشر معي، فقط أخبرني وذهب، تمنيت للحظة لو بقي في السجن، ربما لحظة الانتظار أهون من الإحساس بالخيانة، بقيت مصدومة لأيام، لا أفهم ما الدافع لفعلته الشنيعة هاته. بعد زواجه بالمرأة الثانية انتقل ليعيش معها وطفليها". أمي حليمة: مناضلة حقوقية غصبا عنها ولدت في قلعة السراغنة، غير أنها تجهل تاريخ ولادتها، أصبحت أرملة في سن مبكرة عندما توفي زوجها الأول بعد فترة قصيرة من ولادة ابنها. ثم تزوجت مرة ثانية من رجل متفهم تعامل معها وأحب ابنها كما لو كان ابنه. رزقت بعدها بأربعة أبناء وابنتين. اشتغل كحارس، وكان دخله متواضعا. كانت العائلة تنتقل بين المناطق كلما تم تعيين زوجها في موقع مختلف. لكنها ستصبح أم معتقل سياسي حكم وأدين بثلاثين سنة قبل أن يموت فور الإفراج عنه. اكتشفت في أحد الأيام، عن طريق الصدفة، أن ابنها سبق له أن اعتُقل مرة واحدة ثم أطلق سراحه. انتقلت إلى الدار البيضاء عقب تعيين زوجها في وظيفة هناك، لكن الابن رفض السكن مع أمه، واختار السكن مع صديق له. "كنت أزور ابني كثيرا، وكانت شقته دوما مليئة بالكتب وبالزوار أيضا. وفي أحد الأيام، حذرني ابني من زياراتي المتكررة، بعد ذلك علمت باعتقاله رجع زوجي إلى البيت وأخبرني بالأمر، اكتشفت في آخر الأمر أن ابني كان محتجزا في درب مولاي الشريف، لقد احتُجز هناك بصورة غير شرعية لمدة ستة أشهر في ظروف غير إنسانية، خضع خلالها لتعذيب وحشي. لم أتمكن من رؤيته، هنا بدأ مسار حياتي يتغير باتجاه اكتشاف الحقيقة، كما بدأت أشارك في المسيرات والمظاهرات جنبا إلى جنب مع سائر الأمهات. وبعد محاكمة طويلة عشنا أطوارها بتطلع كبير، صدر الحكم على ابني بالسجن لمدة 32 سنة، كما أدين رفاقه بمدد تراوحت ما بين 10 سنوات والمؤبد. دأبت على زيارة ابني مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع، بشغف كبير، لكنه توفي في ظروف غامضة عقب إطلاق سراحه من السجن".. حفيظة: المرأة التي عاشت اليتم مرتين بدأت معاناتها عقب الاضطرابات التي عرفتها مدينة الناظور سنة 1984 بعد الزيادة في أسعار المواد الغذائية، وتحولت إلى امرأة بلا ملامح بعد اعتقال زوجها. "كان زوجي موظفا بسيطا بوزارة الفلاحة، لم أكن أعرف الشيء الكثير عن أعماله، أنجبنا ثلاثة أطفال خلال العقد الأول من زواجنا، اثنان منهم كانا يذهبان إلى المدرسة، في حين كان الطفل الأصغر لا يزال رضيعا. كنت سعيدة مع زوجي وأبنائي إلى حين ذلك اليوم المشؤوم الذي انقلبت فيه حياتي رأسا على عقب. في أحد أيام سنة 1984، وقف مجموعة من الرجال على باب منزلنا في ضواحي الناظور. طلبوا التحدث إلى زوجي وطلبوا مني البقاء بعيدا عنهم. قاموا باستجوابه وبحثوا عن الكتب في المنزل، في الوقت الذي كنت فيه متوارية عن الأنظار في السطح. بعد ذلك استجوبوني عن أنشطة زوجي، عما يفعله وعن المكان الذي يذهب إليه، قلت لهم بصدق إنني لا أعرف شيئا، وإنه نادرا ما يأتي الزوار إلى المنزل. أخذوا زوجي بعيدا و أخبروني بأنهم سيعودون في غضون أسبوعين لاستجوابنا مجددا. كان هذا أول لقاء لي مع المخزن. تملكني الرعب وغادر أبنائي المدرسة من أجل المساهمة في توفير دخل يعين الأسرة على العيش، و كانوا يحصلون على دراهم قليلة من بيع المياه والأكياس البلاستيكية في السوق. ليت المصيبة لفتني وحدي، أولادي أيضا عانوا من تهميش الجيران لهم وعزلهم. لم يعيشوا حياة الأطفال الطبيعية، بل عاشوا كمجرمين. بعد عشر سنوات طويلة وشاقة، أُفرج عن زوجي من السجن وعاد إلى بيته. وهكذا كان علي أن أنتظر إطلاق سراحه لأعرف أنه كان بالفعل سجينا سياسيا. وخلال كل تلك السنوات التي قضاها في السجن، وعلى الرغم من أنني كنت أزوره، لم يسبق له أن أعطاني تفسيرا عن أسباب اعتقاله. خلال السنوات القليلة الأولى عقب الإفراج عن زوجي، صارت الأمور على ما يرام وأنجبنا ثلاثة أطفال آخرين، لكن مزاج زوجي بدأ يتغير مع مرور الأيام، ثم أعلن عزمه على الاقتران بزوجة ثانية وإسكانها معنا في المنزل. ترتب عن ذلك خروج ابني والتحاقه بالشارع. بعد أن حصل على تعويضات من الدولة، تزوج بامرأة أخرى وتخلى عن أطفاله، بل إنه لم يخبرني بالتعويضات. خديجة الشاوي: الممرضة التي عالجت جسدا بين الحياة والموت لم تكن هذه الطفلة تعلم أن زواجها من عسكري سيقودها إلى خندق مأساة لم تغادره إلا وهي تحصي خسائرها المادية والنفسية. لم تملك خديجة سلطة القرار حين وجدت نفسها زوجة لمحمد الرايس وعمرها لم يتجاوز بالكاد 12 سنة، وحين استفاقت من قدرها تأكدت بأنها لعبت دور "إنتاج" الأبناء في حياة عسكري. كانت خديجة تقطن سكنا وظيفيا بالمدرسة العسكرية لهرمومو، ليس لها وهي حديثة العهد بالزواج، سوى جاراتها من زوجات عساكر يحرصون على تعليمها المبادئ الأولى للأشغال المنزلية. لكن نقطة التحول في حياة هذه الثكلى وأبنائها بدأت حين خرجت كثيبة عسكرية ذات صباح صيفي من سنة 1971 في اتجاه قصر الصخيرات من أجل إنجاز مهمة لا علم لخديجة أو زوجها بتفاصيلها. في اليوم الموالي للانقلاب انقلبت حياة الزوجة رأسا على عقب. فقد تم ترحيلها من الثكنة وحكم على زوجها بالاعتقال المؤبد في سجن تازمامارت دون أن تتمكن من زيارته أو الاهتداء إلى مكان احتجازه إلا بعد نضال طويل، ذاقت فيه مرارة الألم وبؤس التسويف وقساوة المحققين، الذين أصروا على اعتقالها في قبو الاكتئاب والقلق المزمنين. إذا كانت لفاطمة أوفقير بنتا تدعى مليكة عملت على "تدويل" قضية اعتقال أسرة الجنيرال، وللسرفاتي زوجة من قيمة كريستين "صدرت" نكبة زوجها للخارج، وساهمت في الكشف عن معتقل العار في الثلث الخالي من المملكة، فإن لخديجة الشاوي بنتا اسمها إلهام نذرت حياتها لخدمة قضية والدها ومن معه، وسعت إلى نقل المعركة الحقوقية إلى مجلس حقوق الإنسان بهيئة الأمم المتحدة في جنيف، بعد أن فشلت والدتها في تليين قلب الحسن الثاني رغم تمكنها من عرض القضية على لالة عبلة والدته وعلى شقيقه الأمير مولاي عبد الله. آمنت خديجة بقدرها ولكنها لم تفقد الأمل في البحث عن "متغيب" ليس كبقية المتغيبين، وحين علمت بعنوان الاعتقال ركبت صهوة الحافلة في مغامرة غير محمودة العواقب، نجحت في الوقوف أمام معتقل تازمامارت الرهيب بل توصلت برسالة من زوجها عبر حارس لا فرق بينه وبين حراس المقابر. تختزل الرسالة حياة الاعتقال وتنطق سطورها بنداءات استغاثة "أنا في سجن أشبه بقبر"، ظلت هذه العبارة تحتل عقلها على امتداد رحلة العودة من الريش إلى العاصمة، دون أن تتمكن من فرملة سيول الدموع الساخنة التي لفتت فضول المسافرين. غيرت السيدة المكلومة خطتها، وآمنت بأهمية التكتل وإنشاء رابطة سرية لزوجات خطف تازمامارت أزواجهن وجعلهم في منزلة بين منزلتي الترمل والتفكك الأسري. نسجت خديجة علاقات مع زوجة صلاح حشاد الطيار المعتقل في القبو نفسه البعيد وزوجة الجيلالي الديك وبشبكة من الحقوقيين والصحافيين، الذين أصروا على كشف لغز المعتقل الرهيب. في بداية التسعينيات خرج الرايس من المعتقل برتبة "شخص محطم"، فتحولت زوجته إلى ممرضة دائمة لجسد عليل تكالبت عليه كل الأمراض الظاهرة والباطنة، ولأنها ممرضة مهنية فإنها نذرت حياتها لإصلاح ما أفسده السجن بينما تكفلت ابنته إلهام بترميم الكسور النفسية. سعاد ولد غزالة: ثلاثة عقود من المحنة مع البصري ليس من السهل أن تتحمل زوجة اغترابا قاسيا يتجاوز حدود الاعتقال المحدد في الزمان والمكان إلى نفي خارج الوطن ومصادرة الحق في استنشاق نسائم المغرب. نالت سعاد ولد غزالة زوجة المعارض المغربي محمد البصري، رغما عنها، نصيبها من النفي فقد عاشت محنته لأنها زوجة مناضل غير مرغوب فيه من طرف القصر قبل وأثناء وبعد سنوات الرصاص. وجدت سعاد نفسها منخرطة في المعركة النضالية سائرة في طريق المعارضة الشائك وتقاسمت معه قليلا من الحلو وكثيرا من المر، فالفقيه، كما يفضل الحسن الثاني تسميته، رجل مواقف لا يلين ولا يقبل أنصاف الحلول. انخرطت الزوجة مع زوجها الراحل الفقيه البصري في محنته ورافقته في مشواره النضالي الطويل بكل أهواله وظلمته، بل إنها عانت معه الكثير من أجل إقناعه بضرورة تليين مواقفه لكنه كان يغضب فتصرف النظر عن جلسة الحوار، قبل أن تدرك نباهته وبعد نظره، وإيمانه بأن الكفاح المسلح هو الكفيل بتحقيق حوار متكافئ. سعاد هي أكثر نساء هذا الوطن نفيا خارج الحدود، فقد كان قدرها أن ترتبط برجل عاش الاغتراب لثلاثين سنة، وعلى امتداد هذه المدة الزمنية الطويلة اختفت ملامح أفراد أسرتها وفقدت أعزهم إلى قلبها لكن البعد لم يزدها إلا صلابة وإيمانا بالقضية التي قذفت بزوجها وراء أسلاك وهمية تسمى الحدود. ساعدت سعاد زوجها على التخطيط للهروب من السجن المركزي بالقنيطرة وحفظت أسرار الفرار من مقصلة الإعدام، كما تأقلمت مع حياة الاغتراب في الجزائر العاصمة ووهران ودمشق وحلب وطرابلس وباريس، وفي مدن أخرى كان يضطر إلى اللجوء إليها كلما داهمته خطوات المخبرين. كانت تجربتها غنية لأنها حضرت العديد من الجلسات التفاوضية الهامة، وساهمت من حيث لا تدري في صياغة سطور تاريخ المقاومة المغربية، وتعرضت لكثير من المحن فقط لأنها زوجة معارض يراهن على التسلح كخيار استراتيجي. بل إنه حتى بعد عودة الفقيه إلى المغرب بدعوة من الحسن الثاني، كان شاهد العصر على ظلم ذوي القربى بعد التصدع الذي حصل في بنية الاتحاد الاشتراكي، وكانت زوجة البصري حاضرة في جلسات رأب الصدع مع رفاق الأمس، بل إنها كانت تجادل رجلا من قيمة الفيلسوف محمد عابد الجابري دون مركب نقص. تحولت سعاد في الأيام الأخيرة من حياة البصري إلى ممرضة، رافقته في رحلاته الطبية، وكانت آخر من استمع إلى شهادته في إقامته بشفشاون أثناء فترة نقاهة، قبل أن تطبع على جبينه قبلة الوداع الأخير. خديجة المالكي: أرملة المرشد العام التي واجهت الاحتجاز بقراءة القرآن اعتبر الخروج الإعلامي لخديجة المالكي الشافعي السباعي، أرملة عبد السلام ياسين، المرشد السابق لجماعة العدل والإحسان، في حوارها مع موقع "أخوات الآخرة" لسان حال الجماعة، حدثا في حد ذاته، ليس لأن أرملة المرشد حافظت لسنوات على صمتها وآمنت بأنه منتهى الحكمة، بل لأنها علبة أسرار رجل ظلت خرجاته ورسائله تزعج النظام. خلافا لكثير من نساء المعارضين فقد ظلت خديجة محافظة على هدوئها منسجمة مع "دستور" جماعة العدل والإحسان، لم تلعب دور السيدة الأولى في حياة المرشد العام، لأنها تشبعت بالفكر البوتشيشي وخضعت لفترة تمرين على يد مرتادي طريقة سيدي العباس بالرباط، وهي الفتاة ذات الأصول السباعية الشريفة. كان اللقاء الأول بين خديجة وياسين في إطار درس من دروس الوعظ، لم تكن النظرة والابتسامة هي مفتاح عشرة عمر، بل كانت نتيجة لبشارة خير من سيدي بلعباس الذي وعدها بتلقي "خبزة كبيرة" عاجلا أم آجلا. تجسدت الخبزة في الاقتران الشرعي بالمرشد العام، عبد السلام ياسين، الذي كلف والدته للا رقية بفتح المفاوضات فتم الزواج. عاشت خديجة الاعتقال بصيغة أخرى، حين خضعت إلى جانب زوجها وأبنائها للإقامة الجبرية. تحدثت المالكي، عن تفاصيل الاحتجاز الذي تلا رسالة "الإسلام أوالطوفان"، التي وجهها إلى من يهمه الأمر: "لقد علق بذاكرتي مشهد وكأنه البارحة حين كتب سيدي عبد السلام رسالة الإسلام أو الطوفان، وكنا جالسين في البيت، فإذا بمجموعة من الشرطة يفوقون العشرة يقتحمون علينا البيت، فقام سيدي عبد السلام غير هياب ولا وجل وتوضأ وصلى ركعتين وقرأ القرآن بصوت مرتفع، فبدأ بعض البوليس يرتعشون، وهو جالس في سكينة وهدوء". خلال محنة أسرة ياسين، ذاقت خديجة مرارة الحصار وتحول بيتها إلى معتقل معلوم، يتناوب على حراسته المخبرون، تقول أرملة عبد السلام ياسين إن تلك الأيام "كانت صعبة للغاية"، فقد طال المنع، باسم الأوامر، أم خديجة من زيارتها، كما منعت ابنتها نادية لفترة من دخول المنزل، وحرم الأبناء من حقهم الطبيعي في الخروج مع والدهم. فضلا عن الإزعاج الذي يشكله التحرك تحت مراقبة صارمة وعيون لا تغمض لها جفون. كان عبد السلام يقدم للمحتجزين خلف أسوار البيت نصائحه مواعظه، وظل يبشر الصابرين بالجنة، ويذكر بالموت حتى لا تترعرع طموحات سياسية في كنف أسرة جاءت لتحقيق العدل والإحسان، على حد قول أحد قيادييها، لذا أكدت مريم ياسين في أكثر من شهادة حول والدها، "كان دائم التذكير بالموت، كان يواسي الجميع في آخر أيامه بشعر الهمداني حول الموت، كان والدي يذكرنا دائما بالموت، ولم يكن يخاف على مشاعرنا من ذكر المنية". أدين المرشد العام لجماعة "العدل والإحسان"، بتهمة زعزعة استقرار النظام، خاصة بعد رسالتين شهيرتين وجههما الشيخ ياسين إلى الملك الراحل الحسن الثاني والملك الحالي محمد السادس يدعوهما للإصلاح ومحاربة الفساد والمفسدين.