بتاريخ 17/02/2012 افتتح حزب الأصالة والمعاصرة مؤتمره الاستثنائي الذي دعا إلى عقده ، لتدبير دورته السياسية الجديدة ، وفق حلة سياسية جديدة ، وإعلانات أيديولوجية أكثر وضوحا ، في سبيل القطع مع مرحلة ، أثير حوله فيها كثير من غبار التشويش والتشويه ، من قبيل ما نعت به ، كونه تأسس على خلفية محاصرة المد الإسلامي السياسي ، والهيمنة على المشهد السياسي كحزب أغلبي مسنود من الدولة. وفيما غابت بعض الإتجاهات اليسارية عن الحضور ، حضر الإتجاه الإسلامي السياسي بحزبيه ، حزب العدالة والتنمية ممثلا بأبرز قيادييه ، وحزب النهضة والفضيلة ممثلا بأمانته العامة ، إلى جانب معظم الأحزاب السياسية التي شاركت حفل الإفتتاح بأمناءها العامين وقيادييها ، وفي مقدمتهم حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية . إلياس العماري ، الرجل القوي ، في الحزب ، في الظل والواجهة ، والدينامو : الظاهر ، والمستتر ، والذي برع في الإعداد للمؤتمر وإدارة أشغاله على النحو الراقي الذي ظهر به ، بهمة مشبوبة وحماس جياش على شاكلة ، أولي العزم من كبار القادة و السياسيين ، لم يدخر جهدا في استقبال ضيوفه والترحيب بهم دون تمييز ، بالحفاوة والأريحية ، وخفة الروح المعهودة فيه. غير أن حضور أحمد شهيد وعبد الله لعماري وهما من قدماء المعتقلين السياسيين الإسلاميين من مجموعة ال 71 التي حوكمت سنة 1984 ، كان ملفتا لإهتمام الرجل الذي أبى إلا أن ينزل من المنصة لمعانقتهما ، ثم الصعود للإحتفاء بهما لدى جمهور الحاضرين بكثير من الإشادة بهما ، مستحضرا اعتبارية الإعتقال السياسي ، ومنوها بالدور الحقوقي لهما في إطار جمعية – تمكين- ، ومعلنا أنها كانت في الخط الأول للدفاع عن معتقلي السلفية الجهادية. الذين يعرفون تاريخ الرجل ، قد يستكنهون عمق الحركة العفوية العاطفية التي بدرت منه تجاه من يتقاسم معهم لحظة ميلاد تاريخية موحدة ، ويشترك معهم في هذا الميلاد ، ذكريات ذلك الماضي الحافل بالشجون والأشجان . سنة 1984 ، هي السنة التي تؤرخ لميلاد المجموعة ال 71 ، من معتقلي الشبيبة الإسلامية ، وفروعها ، التي أخرجت ذات صباح إلى الوجود بتاريخ 13 فبراير 1984 ، عند نقلهم من معتقل درب مولاي الشريف الرهيب نحو المحكمة ، في ذلك اليوم المشمس الساطع الأنوار ، الذي رأه المعتقلون يوما رماديا مضببا وغائما بعد نزع الغشاوات من على عيونهم ، والتي كانت قد لازمتهم شهورا في الظلام الدامس ، فانخرطوا في ضحك هستيري وهم يتفرجون على بعضهم البعض ، لما اكتشفوه من تبدل هيئاتهم وسحنات وجوههم بفعل شهور الإعتقال السري المرعب . وما كان لهم أن يخرجوا إلى الوجود ، لولا أنه وفي سنة 1984 ، وفي الأيام ما قبل الرابع والعشرين من يناير ، كانت مدن الريف ، الحسيمةوالناظور ، وغيرها ، تغلي في انتفاضة دامية ، من أجل الخبز والكرامة ، استشهد فيها العشرات من الشباب الطاهر، واعتقل فيها المئات من المواطنين ، وكان القرار السياسي الأعلى بإخراجهم من ظلمات الإعتقال السري ، لإصطناع محاكمتهم صوريا قصد التغطية على الأحداث الدامية. في ذلك الريف ، من تلك الأيام ، التي طاش فيها الرصاص فتكا بالشباب الغاضب ، كان هناك تلميذ يافع أفلت من الموت ، الذي اخترق رعبه شوارع الناظوروالحسيمة ، وأفلت بأعجوبة من كماشة الإعتقال التي غرزت أنيابها في رفاقه أمثال حكيم بنشماس ، عبد السلام بوطيب ، عبد الله بودونت ، بعد أن كان قد خرج يتزعم المتظاهرين التلاميذ من ثانوياتهم أيام 16 و 17 و 18 و 19 يناير. في تلك السنة ، كان إلياس العماري يتحسس بالكاد طريقه في دروب الماركسية اللينينية ضمن الشبيبة التلاميذية لمنظمة إلى الأمام ، بعد أن كان والده الحافظ لكتاب الله ، قد حفظه ما تيسر من القرآن ، لكن وعيه الشقي ، وفكره الطبقي قاده إلى أحلام الإشتراكية ، انتصافا للإنسحاق الطبقي الإجتماعي والإضطهاد الجهوي الذي كان الريف مسرحا له . أهوال الإعتقال بمدن الريف ، ألجأته إلى مقاطعة بيت العائلة ، والغوص بعيدا في الأحياء الجامعية لوجدة وفاس ، ثم بعد ذلك ولما اشتد عوده ، أصبح طوافا على كل الأحياء الجامعية بالبلاد ، بدءا من الرباط فما دونها. هنالك وفي أوساط الطلبة القاعديين : الجناح الطلابي لمنظمة إلى الأمام ، وجد الفتى ضالته ، وتفتقت مواهبه النضالية ، فأصبح في طليعة المناضلين المتفرغين لإلهاب وطيس المعارك النضالية الطلابية في الجامعة ، مستخفيا تارة ، ومستعلنا تارة أخرى ، بدون صفة ، وبدون بطاقة وطنية ، سوى صفة المناضل الثوري السري المطارد من أجهزة أمن الريف ، والمتواري عن بطش حكم غيابي عليه. أحداث الريف سنة 1984 ، ومساهمته في إشعال أتون المظاهرات التلاميذية ، ومشاركته في الإضراب العام في الثانويات من تاريخ 16 يناير إلى 24 يناير ، وما ترتب عن ذلك من مجازر ، وبأس مخزني شديد ، ومداهمات للبيوت ، واعتقالات عشوائية وانتقائية ، رآها رأي العين ، وأهوال من التعذيب والتنكيل تناهت إلى سمعه من المخافر والثكنات ، والمعتقلات السرية ، كل ذلك كان بمثابة الكيمياء النفسية ، التي شحذت شخصية الفتى ، وصيرته إلى عمر أكبر من عمره ، وفجرت في أعماقه ينابيع العطف والرقة للآخرين ، فأصبح منذ ذلك الحين متفننا بارعا في خدمة المنكوبين ، و أصبح متخصصا في إيواء وإسكان وإخفاء أولئك الذين حولتهم أحداث الريف إلى أشباح مطاردين من آلة الإعتقال الرهيبة ، حتى وهو في عز الملاحقة الأمنية ، ولم يمنعه ذلك من تنظيم شبكة الدعم والمواساة لعائلات المعتقلين ، والمختطفين والمختفين قسريا ، والذين فقدوا ذويهم من آثار كارثة القمع المخزني للريف ، إلى الدرجة التي عزفت نفسه فيها عن اقتطاف دبلوم علمي ، رغم أنه كان يستوطن الجامعة ، ويؤطر الجامعيين ، ويعيش مع الوالهين بالدبلومات وأحلام المستقبل. في ذلك الوقت كان إلياس العماري يتتبع عن كثب ، الآلام والعذابات والإستصراخات القادمة من جحيم السجون ، حيث كان معتقلو الشبيبة الإسلامية ، ومعتقلو إلى الأمام واليسار القاعدي يتلظون بسعير واحد ، وتجلد ظهورهم سياط واحدة ، ويخوضون في آن واحد معارك الجوع وحروب الأمعاء الخاوية ، من أجل كرامة السجين ، ويألمون معا لفجيعة فقدان الطلائع الأولى في الإستشهاد من أجل الكرامة داخل السجون ، بلهواري ، والدريدي ، على درب الموت العاض على العزة والإباء الذي دشنته سعيدة لمنبهي ، ومن قبل وتحت التعذيب ، عبد اللطيف زروال . وكل تلك العذابات والنضالات داخل السجون كانت تجد صداها في رحاب الجامعة ، بفعل شهامة أولئك الرجال الذين توأموا ما بين السجن والجامعة ، فأضحت الجامعة تعيش على إيقاع نضالات السجون ، وأصبحت السجون تتنفس وتفك الخناق المضروب عليها من خلال أنشطة ومهرجانات الجامعة ، وتكونت ثلة من المناضلين الشجعان الذين كانوا يقطعون الرحلات المكوكية ما بين باحات الجامعات ومزارات السجون لرفع معنويات المعتقلين السياسيين ومساندة عائلاتهم . في صلب هذه الثلة المتحررة من الخوف ، كان إلياس العماري ، من الذين لا يغيب طيفهم ، عن بوابات السجون ، أو بوابات المستشفيات حيث يكون في انتظار قدوم المعتقلين وعائلاتهم لتقديم الخدمات والمعونات ، ونقل الرسائل والإستشارات التنظيمية ، هنالك كان المعتقلون الإسلاميون يلمحون من بين زوار رفاقهم من قادة اليسار : بنزكري ، والسرفاتي ، السريفي ، بلكحل ، وغيرهم ، رجلا مرحا خفيف الروح ، غزير الحركة ، يصطحب الأمهات العجائز والآباء الشيوخ من عائلات المعتقلين السياسيين ، ويحمل بين ذراعيه وفوق كاهله أطفالهم الصغار. وحينما أفرغت السجون من المعتقلين السياسيين ، بعد سنة 1994 ، وبقي عالقا بين كلاليبها ومخالبها ، ضمن من بقي عالقا ، المعتقل السياسي الإسلامي أحمد شهيد المحكوم بالإعدام مرتين ، وجد في حماية ظهره ، والحدب عليه وعلى إخوته من مجموعة الحكيمي بلقاسم ، بعض من تلك الثلة المتجردة من الحساب الإيديولوجي في النوازل الحقوقية والإنسانية ، من أمثال إلياس العماري الذي أسس لجنة للدفاع عن حقه في الإفراج ، ومن أمثال خديجة الرويسي التي كانت أما رؤوما لأطفال شهيد وأسرته ، ومن أمثال صلاح الوديع ، والراحل بنزكري ، اللذان كانا في اتصال هاتفي شبه يومي مع هؤلاء المعتقلين الإسلاميين : معتقلي الشبيبة الإسلامية ، ولا ينسى التاريخ حينما قفلا هذين الأخيرين راجعين على عجل على متن الطائرة من أكادير ، بعد استقبالهما من طرف الملك تنصيبا لهما كمسؤولين على هيئة الإنصاف والمصالحة ، وعودتهما مباشرة من أجل استقبال الحكيمي بن القاسم ، ومصطفى عوقيل من الشبيبة الإسلامية ، حين الإفراج عنهما بالعفو الملكي في ذات اليوم من سجن عكاشة بالدارالبيضاء . لذلك كان احتفاء إلياس العماري بمعتقلي الشبيبة الإسلامية خلال الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر الإستثنائي لحزب الأصالة والمعاصرة ، وانتفاضته العاطفية من على منصة المؤتمر ، بعيدة كل البعد عن الإيحاءات السياسية أو التوظيفات الرمزية ، بقدر ما كانت حنينا ذي طعم خاص ، خصوصية الوشائج العميقة التي جمعت بين المناضلين سنوات الرصاص دون فرق أو تمييز بين من كان إسلاميا أو يساريا .