في الثامن والعشرين من الشهر الفارط، مارس 2016، حلّت الذكرى الثمانون لميلاد الكاتب الرّوائي البيرواني المعروف "ماريو برغاس يُوسا"، وطفقت الأوساط الأدبية والثقافية في مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية (إسبانيا وأمريكا الجنوبية على وجه الخصوص) في الاحتفال بهذا الكاتب المبدع الذي أثرى المكتبة الإسبانية بغيرِ قليلٍ من الأعمال الرّوائية الكبرى، والإبداعات الأدبية، والدراسية، والنقدية. أكتب حتى لا أتحوّل إلى مُجَسَّمٍ أو تمثال وبمناسبة احتفاله بعيد ميلاده الثمانين قال ماريو بارغاس يوسا إن السنوات لم تقتل فيه حبَّه للمعرفة، ولا روحَ المغامرة، وإنه كان دائماً يشعر بالحزن على هؤلاء الأشخاص الذين يقتلون أنفسَهم وهم على قيد الحياة، ويجلسون لانتظار الموت والحِمَام؛ وقال في السياق نفسه: "لا أستطيع أن أستوعب أن أعيش الحياة دون أن أكتب، وأن أواجه، وأقاوم، حتى لا أتحوّل إلى مُجَسَّمٍ أو تمثال". يُعتبر الكاتب البيرواني ماريو برغاس يوسا بدون منازع من كبار الرّوائيين المعاصرين، فقبل حصوله على جائزة نوبل للآداب عام (2010) سبق له أن حصد أو حصل في إسبانيا وحدها على العديد من الجوائز الأدبية الكبرى، منها جائزة "أمير أستورياس" في الآداب عام 1986، وجائزة "بلانيطا" عام 1993، وجائزة "سيرفانتيس" في الآداب الإسبانية 1994، وجوائز النقد الأدبي بالتوالي: 1963 و64 و66. ولد يوسا في مدينة "أريكيبا" بالبيرو عام 1936.. من مؤلفاته: "حرب نهاية العالم"، "امتداح الخالة"، "من قتل بالومينو موليرو"، "الفردوس على الناصية الأخرى"، "البيت الأخضر"، "حديث في الكاتدرائية"، وسواها من الأعمال الوفيرة، وقد ترجمت بعض قصصه ورواياته إلى اللغة العربية. الزّوايا الخمس وبمناسبة صدور روايته الأخيرة "الزّوايا الخمس"، قال الكاتب البيرواني العالمي، خلال حوار أجرته معه مؤخراً جريدة "لاناسيون" (الأمّة) الصّادرة في الأرجنتين: "إن هناك مظاهر وإرهاصات تنبئ بقرب تغيير وشيك طفقت تتجلى معالمه، وبدأت تشهده العديد من بلدان أمريكا اللاتينية؛ كفنزويلا وبوليفيا والإكوادور"؛ كما أبرز في السّياق نفسه أنّ "بوادر الديمقراطية بدأت في الظهور من جديد بالأرجنتين على وجه التحديد، وقال إن هذا أمر يكتسي أهمية بالغة، لأنه لابد أن ينعكس بشكل أو بآخر على سائر بلدان المنطقة. واعتبر الرّوائي الكبير ماريو بارغاس يوسا أنّ "الشعبوية أصبحت في تراجع ونكوص وتقهقر على صعيد منطقة أمريكا اللاّتينية"، وقال إنّ أحداثاً وتغييرات من هذا القبيل تدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بمستقبل هذه المنطقة من العالم. وأكد برغاس يوسا كذلك أنّ "وصول الرئيس ماوريسيو ماكري إلى سدّة الحكم في الأرجنتين من شأنه أن يمكّن البلاد من الانفتاح من جديد على العالم، مع بداية تطبيق إصلاحات في العديد من المجالات، وتوفير الظروف المواتية والمناسبة لورود الاستثمارات الخارجية وجلبها للبلاد، ومن شأن هذا الانفتاح أن يبشّر بآفاق واعدة في المستقبل". وانتقد "يوسا" الظروف السيئة التي تمرّ بها الصحافة في الوقت الحالي، على الرّغم من أنّ المعلومات لم تعد تعترف بالحدود، ممّا أفضى إلى خلق نوع من الالتباس، "ذلك أنه ليس هناك تقييم لمصداقية وصحّة المعلومات التي أصبحت متداوَلة ومتبادلة في العالم". وخلال هذا الاستجواب، أشار الكاتب البيرواني إلى أنه لا يدري إن كانت الصحافة المكتوبة أو الورقية ستستمرّ في الصدور والظهور، وفي الوجود، إلاّ أنه يرى خلافاً لذلك أنّ الكتاب لابدّ أن يستمرّ في الصّمود لأنّ الناس -في نظره- يوثرون أن يضمّوا أو يحتضنوا الكتابَ بين أيديهم لقراءته، وليس من خلال أقراص مُدمجة أو لوحات إلكترونية. "المدينة والكلاب" بمناسبة مرور نصف قرن ونيّف على صدور"المدينة والكلاب"، أولّ رواية للكاتب البيرواني ماريو برغاس يوسا، كانت الأكاديمية الملكية الإسبانية، وجمعية أكاديميات اللغة الإسبانية، قد أقامتا بهذه المناسبة بمدريد حفلا تكريميّا لهذا الكاتب الذائع الصّيت، وأصدرت هذه الجهات العلمية والأدبية واللغوية طبعة تذكارية خاصة من هذه الرواية، التي شكّلت الانطلاقة الأولى لهذا الكاتب، وعهد القيام بذلك لدار النشر الإسبانية المرموقة "ألفاغوارا". وقد تمّ توزيع هذه الطبعة الجديدة في الأسواق الإسبانية، وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية. وفي التقديم الذي تصدّر هذه الطبعة نقرأ ما يلي: "إن ظهور هذه الرواية شكّل خطوة هامة في تجاوز إشكالية الهنود أو السكان الأصليّين في أمريكا اللاتينية، وكذا في البحث والتنقيب عن الجذور والقيم السابقة للوجود الإسباني في القارة الأمريكية، ممّا جعلنا نتقدّم نحو توفير أرضية يومية صلبة معاصرة، وتثبيت الحقيقة القائمة اليوم للمواطن الأمريكي المندمج والمتأقلم كليّة في وسطه ومجتمعه. وقد عالج الكاتب ذلك في قالب روائي اتّخذ أشكالاً جديدة مبتكرة في كتابة الرواية في الأدب الإسباني، اعتمدت على تقنيات روائية مجرّبة. كما جاء في هذا التقديم كذلك: "هذا التجديد في الشكل والمضمون جعل من الكاتب ماريو برغاس يوسا مرجعاً أو مؤشّراً أساسياً للرواية الإسبانية وأمريكية المعاصرة". وتندرج الطبعة الخاصة ضمن أعمال أخرى سابقة على رواية "يوسا"، أمثال: "دون كيخوته دي لا مانشا"، لمغيل دي سيرفانتيس، و"مائة سنة من العزلة"، لغابرييل غارسيا ماركيز، و"الجهة الأكثر شفافية" لكارلوس فوينتيس، فضلاً عن الأنطولوجيات الشعرية لكل من بابلو نيرودا وغابرييلا ميسترال التشيليين . هذا ونجد في هذه الطبعة الأنيقة بعض الدراسات التي كتبها لهذه الغاية صفوة من الأكادميين من مختلف الجنسيات، مثل خوسّيه ميغيل أوفييدو، وخبيير سيركاس، وكارلوس غارايار، وإفراين كريستال من البيرو، وفيكتور غارسيا دي لا كونشا، وداريّو فييّانويبا من إسبانيا، وجون كينغ من الولاياتالمتحدةالأمريكية. كما أنجز الببليوغرافيا الخاصّة بها الكاتب ميغيل أنخيل رودريغيس، وقام الباحثان كارلوس دومينغيس، وأغوستين بانيسو بإعداد معجم خاص بهذه الطبعة لشرح مفردات الرّواية، وإعداد فهرس لها، وباب خاص بالأعلام بها . تُرجمت إلى 30 لغة رواية "المدينة والكلاب" لماريو بارغاس يوسا ترجمت حتى الآن إلى ما ينيف عن ثلاثين لغة، وتدور أحداثها في المعهد العسكري "ليونسيو برادو"، حيث يتلقى المراهقون والشباب بموجب التنظيم الداخلي تكويناً مدرسياً ثانوياً تحت تعليمات عسكرية صارمة. ويري رئيس الأكاديمية البيروانية للغة الإسبانية، ماركو مارتوس، أنه "من وجهة نظر لغوية فإنّ لغة "يوسا" قد أدركت شأواً أو بعداً عالمياً"، مضيفا: "إنه يقدّم بدون انقطاع للعالم الأسلوب أو الطريقة البيروانية في التعامل مع اللغة الإسبانية.. هذه الطريقة قد تجلّت بشكل واضح في هذه الرواية الأولى ليوسا أكثر من أيّ رواية أخرى ندّت عن قلمه، وقد أهّلها هذا التفوّق إلى أن تُعرَف في مختلف البقاع والأصقاع التي تتحدّث فيها اللغة لإسبانية". باكورة أعماله باكورة أعمال يوسا "المدينة والكلاب" لم تنشر كاملةً في إسبانيا إلاّ بعد رحيل الجنرال فرانكو، إذ كان قد تمّ حذف العديد من صفحاتها، كما أضرمت النيران في العديد من نسخها في البيرو، وهي رواية تقوم على محورين اثنين؛ القهر السياسى (السّلطوي) والجسدي.. إنها انفجار للأحاسيس الدفينة، والهواجس المكبوتة، والآلام المُبرحة التي يعانيها الكائن البشري حيال نفسه، وذاته، وكيانه، ووجدانه، والقسر أو القهر الديكتاتوري الذي يثقل كاهله وكلكله، وتوقه الدائم للانعتاق، وتطلّعه إلى التحرّر نحو عالم مبدع طليق. يقول "يوسا" عن هذه الرواية، ضمن استجواب أجرته معه الكاتبة "كوليت مرشيليان": "أعتقد أن فترة الطفولة والمراهقة وكل ما يجري خلالها من تجارب قاسية أو صعبة هي فترة حاسمة في حياة كلّ إنسان، وخاصّة في حياة الكاتب، لأنّ الأخير في موقع قول أو كتابة أو استرجاع ما ترك أثره فيه، تطلع عليه هذه التجارب من مرحلة المراهقة المؤثرة. لقد اكتشفتُ كل مشاكل البيرو السياسية والاجتماعية خلال إقامتي في تلك الأكاديمية العسكرية، وتأثرتُ بشدّة حين لمستُ كم أن البيرو في مواقف محتدمة، إن في الوضع الاقتصادي أو في ناحية العنف أو في ناحية الفروق الاجتماعية، وكلّ المشكلات التي تنتج عنها من نزاعات وعذابات. لقد نقلتُ هذا العالم إلى روايتي الأولى، لكن الأمر تكرّر عندي بأساليب مختلفة في روايات لاحقة، وأيضًا كانت لي تجارب أخرى في الحياة توزّعت انطباعاتي عنها وأحاسيسي حيالها في كتب أخرى". وعن سؤال حول هذه الرواية، كيف يراها اليوم؟ وهل كان ليغيّر شيئاً فيها؟ قال "برغاس يوسا" لكوليت: "بصراحة أراها بعيدة جدًا، وكأنّها في حياة سابقة لي. ولكن لا، لا أحبّ أن أغيّر فيها. ربما إذا كتبتها اليوم ستكون مختلفة تمامًا، لأنني تغيرتُ واكتسبت خبرات كتابية وحياتية مختلفة، لكن الكتاب هو ابن لحظته، وتاريخه، وموقعه، وأنا أحبّه كما هو، هناك في تلك الحقبة، وأكثر ما أحبّ فيه كلّ المفاجآت التي حملها معه لي، فهو الكتاب الذي جعلني أنتشر أكثر، وخاصّة بعد أن تمّت ترجمته إلى لغات عدة". في مواجهة الرّيح والتيّار هذا الكاتب يكاد أن يصبح ظاهرة فريدة في آداب أمريكا اللاتينية، وإن لم يكن كذلك فإنه على الأقل لازال يثير فضولَ النقاد والقرّاء والأوساط الأدبية في كل مكان، فقد حقق لنفسه شهرة عالمية واسعة، أوصلته إلى الحصول على جائزة نوبل في الآداب، كما حظي بتكريم العديد من المحافل الأدبية الأخرى. إنه رجل يعيش عصره مهووس ومسكون بالآداب. لقد زاول يوسا مختلف فنون القول: اشتغل في الصحافة، والأدب، والنقد، والدراسة... إنه كاتب يحتل مكاناً مرموقاً في آداب أمريكا اللاّتينية، فهو إلى جانب كارلوس فوينتيس، وغابرييل غارسيا مركيز، وقبلهما خورخي لويس بورخيس، جميعُهم كوّنوا جانباً من ذلك "الجيل الكبير من الكتّاب المعاصرين" في أمريكا اللاتينية، وهو الجيل الذي حمل الآداب في هذه المنطقة من العالم إلى أعلى المراتب، وأرقى المستويات شهرةً وتكريماً وبُعد صيت.. لبرغاس يوسا كتاب بعنوان "في مواجهة الرّيح والتيّار"، يلقي الضوء على جوانب هامّة من حياته وإبداعاته..إنه في هذا الكتاب يسمّي الأشياءَ بمسمّياتها، ويقول: "يتعلق الأمر بنصوص تؤرّخ لظروف وملابسات ليست ذات أهمية أدبية، ولم يعاملها الزمن بإشفاق..إنها جملة من التناقضات، والأخطاء، والتكهّنات بعيدة عن أيّ تكبّر أو خيلاء، أو ندم ممزوج ببعض الحزن والأسى..إنها انطباعات وتسجيلات لبعض الآمال والتطلعات التي ذهبت أدراجَ الرّياح وجرفها التيّار.. ضد هذه الرياح، وفي مواجهة هذه التيارات، جدف "برغاس يوسا" بقاربه لمدّة نصف قرن من الزمان ونيّف، أي منذ صدور روايته الأولى "المدينة والكلاب". ففي "مواجهة الريح والتيّار" يطرح يوسا وجهات نظره بشأن العديد من القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في العالم، وبالخصوص في أمريكا اللاتينية. هذا كاتب يبثّ الحياة في الأشباح..إننا واجدون في هذا الكتاب إشارات، وملاحظات، وتراجم، ومقالات، ويوميات، وخطبا، واستجوابات وتحقيقات، واستطلاعات تحدّد أفكاره وقناعاته المبكرة. سباقه المحموم نحو نوبل مع مرور الزّمن وانسياب السنين صار "يوسا" يغيّر من آرائه الأولى التي كانت تضعه في مصاف المفكرين والأدباء اليساريين الذين يدافعون عن العسفاء والكادحين، ويأخذ بيد المحرومين والمظلومين، إذ بعد أن فشل في 10 يونيو (حزيران) 1990 أمام ألبيرتو فوجيموري (من أصل ياباني) في الانتخابات الرئاسية في بلاده البيرو، شدّ الرّحال إلى أوربا، وطفق يدغدغ المجتمعات المخملية والأوساط الماسية، كما بدأ يشقّ طريقه المحفوفة بغير قليل من الصّعاب والمخاطر، والمنافسات الشرسة نحو المؤسّسة السويدية، ليعانق أكبر تكريم أدبي في العالم بحصوله عام 2010 على جائزة نوبل في الآداب، بعد مرور 28 سنة على حصول الكولومبي غابرييل غارسيا مركيز على هذا التكريم؛ وكانت بين الكاتبين خصومة مفتوحة مستحكمة، ولا غرو، فالمُعاصرة حجاب .! ينطلق يوسا في "في مواجهة الريح والتيّار" بمراجعة عميقة لصاحب رواية "الغريب"، الأديب الفرنسي ألبير كامو، وينتهي بعرضٍ حول المجتمع المفتوح وخصومه. وقد أثبتت بعض هذه المواضيع في الكتاب، حسب مضامينها، ومن ثمّ يمكننا أن نتتبّع ونقتفي ونرصد تطوّر فكر وأدب "برغاس يوسا"، خاصّة في ما يتعلق بمواضيع لها صلة بميادين الاشتراكية والثورة الكوبية، ونيكاراغوا الساندينية. ويتجلّى لنا في هذه الكتابات التزام الكاتب إزاء قضايا أمريكا اللاّتينية، والحرية، والديمقراطية، والنموّ الاقتصادي، وأوربا والولاياتالمتحدةالأمريكية وبلده البيرو. ولا شك أن العديد من المفاهيم والقناعات خلال نصف قرن قد تغيّرت بالنسبة لهذه المواضيع، ويتّضح لنا من خلال هذه الكتابات على سبيل المثال تأييده وإعجابه بالثورة الكوبية في عنفوانها كطرح وعلاج لمختلف المشاكل التي تتخبّط فيها معظم بلدان أمريكا اللاتينية، إلاّ أنه معروف عنه الآن أنّه لم يعد يؤمن بهذا الرأي، ويعلن صراحة معارضته واختلافه مع كوبا الكاسترية والراؤولية كذلك. كما يعكس هذه الكتاب اتجاه الكاتب النقدي المعروف عنه، وكيف صارت مواقفه تتغيّر وتتبدّل على امتداد الزّمن، حسب ما تمليه عليه ظروف الحياة ومستجدّاتها، وما أكثرها عنده. ذكريات ومعايشات ونجد في هذا الكتاب استجوابات مع العديد من القطاعات الاجتماعية في مختلف هذه البلدان، كما أنه يعكس فترة خصبة من حياة الكاتب، وهي الفترة التي عاشها في أوربا في مرحلة شبابه واختلاطه بالحياة الثقافية والفكرية فيها. ونجد بالتالي صدىً وانعكاساً لتلك المعايشات مجسّمة في نقاشات حول مختلف المواضيع الأدبية والفلسفية في ذلك الوقت، فنجد على سبيل المثال عروضا حول "سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار"؛ كما نجد العديد من الطرائف، والحكايات، والأحداث التي وقعت للكاتب في باريس، فضلاً عن تعاليق أخرى مماثلة حول لندن ومدريد وواشنطن. كما أنّنا نجد كذلك في هذا المؤلّف معلومات كان قد طواها النسيان، أو ربما هي مجهولة، حول انطباعات يُوسَا بخصوص بعض الأدباء الفرنسيين وأعمالهم، مثل "بؤساء فيكتور هوغو"، أو ذكرياته حول الشارع والمنزل الذي عاش فيه "كارل ماركس" في لندن، بالإضافة إلى أحاديث ضافية عن أصدقائه في طور المراهقة والشباب. "في مواجهة الريح والتيّار" يحفل بالذكريات والمعايشات حول مختلف المواضيع، مكتوبة بأسلوب سهل وسلس، يميل إلى الدعابة وروح النكتة والسّخرية والانتقاد.. إنه مرآة تعكس حقائق واقعية عن حياة هذا الكاتب الأمريكي اللّاتيني، بعيداً عن خياله المجنّح في قصصه ورواياته..ولا بدّ أنّ هذه الذكريات والمعايشات تلوح لبرغاس يوسا اليوم، تماماً كما لاحت للشّاعر طّرفة بن العبد أطلال خولة ببرقة ثمهد كباقي الوشم في ظاهر اليد..!!. ماريو برغاس يوسا مستقرّ في الوقت الراهن بإسبانيا، حيث منحت له الجنسية الإسبانية منذ ما ينيف على عشرين سنة؛ كما تمّ انتخابه عضواً في أكاديمية اللغة الإسبانية.. وفي إسبانيا ما فتئ يبدع في عالم الأدب، حيث يكتب الرواية بوجه خاص، ومن أشهر رواياته التي أحيطت بهالة واسعة من الذيوع والانتشار، والتغطيات الإعلامية في العالم الناطق باللغة الإسبانية رواية "حفلة التيس"، وهي رواية تنتقد الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية؛ كما أنه يدلي بدلوه بين الفينة والأخرى في العديد من القضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تعرفها إسبانيا وأوربا وأمريكا في الوقت الراهن، (أنظر في هذا الصدد مقالي "للقدس العربي" بعنوان "ماريو بارغاس يوسا والغاضبون الإسبان" (العدد 7136 الجمعة 25 أيار (مايو)2012). قال ماريو بارغاس يوسا ذات يوم: "أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن بأنّ الأدب يغيّر الحياة.. غريب عصرنا، حيث اليمين ليس على اليمين، واليسار ليس في اليسار، والوسط لم يعد في الوسط.." . وما فتئ "يوسا" ينتقل بين هذه الجهات الثلاث منذ نصف قرن ونيّف كطائر السّنونو مترنّحاً متأرجحاً بين هذا وذلك وذاك. كان ماريو برغاس يوسا قد فاز مؤخراً بأوّل جائزة دولية في الآداب، استحدثت أخيراً، وتنظّم باسم الكاتب المكسيكي العالمي الراحل كارلوس فوينتيس في بلده المكسيك. وقد فاز بهذا التكريم حسب لجنة التحكيم، "نظراً لإسهامه الوافر بواسطة اللغة الإسبانية في إغناء وإثراء التراث الأدبي الإنساني". وتبلغ قيمة هذه الجائزة المادية 250.000 دولار أمريكي، وتصبح بذلك الأعلى من حيث قيمتها المالية التي تمنح في أمريكا اللاتينية، وهي تفوق بكثير حتّى قيمة جائزة سيرفانتيس في الآداب الإسبانية، التي كانت أعلى جائزة تمنح حتى اليوم في الآداب المكتوبة في اللغة الإسبانية، والتي تبلغ قيمتها 160.000 دولار. وقال يوسا بهذه المناسبة إنه لم يكن ينتظر مزيداً من الجوائز الأدبية بعد جائزة نوبل، إلاّ أن هذه الجائزة لها وقع خاص في نفسه، لصلتها بأحد أكبر الشخصيات الثقافية في الحياة المكسيكية، وهو كارلوس فوينتيس، الذي تعرّف عليه في شبابه المبكر، وإنه أعجب به إعجاباً كبيراً، خاصّة عندما قرأ روايته "الجهة الأكثر شفافية". وأضاف يوسا: "لقد كان هذا العمل الأدبي نقطة انطلاق لهذا الكاتب الذي سرعان ما سوف يحقّق الشهرة العالمية الواسعة والذيوع والانتشار سواء ببعده الأدبي العميق، أو بدراساته الرّصينة، وأبحاثه القيّمة في مختلف حقول الأدب والنقد والخلق والإبداع". كما أكّد يوسا أنّ "كارلوس فوينتيس أسهم بقسط كبير كذلك في التعريف بأدب مختلف بلدان أمريكا اللاتينية في العالم، وهذه القارة مدينة له كثيراً في هذا الجانب"؛ مضيفا أن تصادف معه في حقبة انطلاق "البوم الأدبي" الأمريكي اللاتيني الشهير، حيث اضطلع فوينتيس بدور أساسي وبارز، سواء بأعماله الرّوائية الذائعة الصّيت، أو بالتعريف بأعمال زملائه الكتّاب الأمريكيين اللاتينيين الآخرين، وقال: "إنّ اللغة الإسبانية تعتبر اليوم من أوسع اللغات انتشاراً في العالم بعد الإنجليزية". الرّبيع العربي والإسباني كذلك كان ماريو بارغاس يوسا قد خرج عن صمته، وصرّح أمام الملأ بأنه يتفهّم مطالب الحركات الاحتجاجية للشباب الإسباني الغاضب على الأوضاع في بلاده، بعد أن تفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها إسبانيا منذ بضع سنوات، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل مؤخراً ما يقارب ستة ملايين نسمة؛ وهو عدد تاريخي لم يسبق أن بلغته إسبانيا من قبل. وكانت موجات هؤلاء الناقمين أو الساخطين من الشباب عمّت العديد من المدن الإسبانية الكبرى على وجه الخصوص، وحذّر يوسا من مغبّة النتائج الوخيمة التي يمكن أن تنجم من جرّاء هذه الاحتجاجات التي أطلق عليها "ديمقراطية الشارع". وأضاف "يوسا" أن إسبانيا بلد يكرّس الديمقراطية، والديمقراطية لها قنواتها ووسائلها الخاصّة التي بواسطتها يمكن للمواطنين أن يعبّروا عن آرائهم واحتجاجهم أو انتقادهم، وقال إنّه من الخطورة بما كان أن ننأى أو نخرج عن هذه القنوات التي توفرها الديمقراطية، وبالتالي نفسح المجال لفرض "ديمقراطية الشارع". هذه الاحتجاجات ظهرت إلى الوجود متأثرة بالمظاهرات الكبرى التي عمّت بعض البلدان العربية، والتي أطلق عليها في ما بعد "الربيع العربي". صاحب "المدينة والكلاب" يرى من جهة أخرى أن الشباب الإسباني من حقّه المشروع أن يحتجّ على الأوضاع التي يراها مضرّة له أو بمستقبله، وقال إنه يتفهّم جيّدا الظروف التي تطرحها هذه المرحلة الحرجة والصعبة التي تجتازها إسبانيا التي تتطلب تضحيات جسيمة، إذ يواجه الشباب حالة من عدم الاطمئنان، وعدم الشعور بالأمان من جرّاء آفة البطالة التي تشدّد عليهم الخناق، وأصبحوا يعانون منها بحدّة خلال الأعوام الأخيرة . حبٌّ وَهُيام في الثمانين..! وقد دافع يوسا بقوّة عن "مشروع بناء الصرح الأوربي" الذي حقق للقارة الأوربية الأمن والتقدم والديمقراطية و"60 سنة متوالية من السلم والاستقرار"، لأوّل مرّة في تاريخها الحديث، ولهذا فإنه يعتقد جازماً أنه من الأولويّات السياسية الضرورية التي ينبغي أن يتبنّاها المسؤولون الأوربيون "إنقاذ أوربا والحفاظ على السكينة والهدوء والتفاؤل"؛ وأضاف: "ينبغي إنقاذ أوربا من هؤلاء المتشائمين الذين يعجّلون بالحكم على فشلها، والحقيقة أنهم مخطئون في ذلك، فنحن نعيش أو نواجه أزمة اقتصادية حادّة، نتيجة الهدر والإسراف المبالغ فيهما، وعدم توفّر الحذر الكافي لتفادي هذه الأزمة من قبل، كما أنه لم تتخذ الاحتياطات اللازمة في الوقت المناسب، والمجتمع هو الذي يدفع الثمن اليوم". وقال يوسا إن التضحيات التي يطلب من الشعب الإسباني تقبّلها وتحمّلها للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادّة التي تعرفها البلاد هي تضحيات لابد منها، وأضاف: "الذين يوجّهون انتقاداتهم لألمانيا في هذا الخصوص مخطئون، إذ لا ينبغي أن نعتب عليها، بل يجب أن نصفّق لها.. إنها تغلبت على أزمة وحشية بغير قليل من الانضباط والتضحية والصّبر والأناة.. إنها تغلبت على هذه الأزمة بتضحيات الشعب الألماني في المقام الأول، ثم بجديّة ومسؤولية حكامها. لقد أمكن لألمانيا إحياء أو انبعاث جثة سياسية واقتصادية هامدة وهي ألمانيا الشرقية". وأضاف يوسا: "إنّ بعض الإيديولوجيات السياسية المتطرفة قد تقودنا إلى الشطط والمبالغات، وقد تصيب عدوى هذه الترّهات حتى كبار الكتاب والمفكرين، بحجم "جان بول سارتر"، الذي كان ينساق وراء حماقات فكرية وفلسفية كبرى من هذا القبيل لا حصر لها". وقال يوسا إنه باعتباره كاتباً روائياً وحكواتياً فإنه لا يخشى من خوض مغامرة الخيال في أعماله الروائية، لأنه عنصر دفع بالإنسانية إلى المزيد من التأمل وإعمال الفكر، كما أنه يشجّع على البحث والاجتهاد والتقدم العلمي، ويسهم ذلك كله في أن يجعل الحياة أحسنَ ممّا كانت عليه من قبل، بل إنه يسهم أيضاً في التطور المذهل التي تعرفه الحياة في مختلف المجالات . يعيش برغاس يوسا في الوقت الرّاهن، وهو على عتبة الثمانين من عمره، قصّة حبّ عارمة مع "إيسابيل بريسلر"، وهي امرأة من أصل فليبيني تنتمي اليوم إلى المجتمع المخمليّ الإسبانيّ، وسبق لها أن تزوّجت ثلاثة من الرّجال المشاهير في إسبانيا، وهم بالتوالي المغنّي العالمي خوليو إغليسياس، والماركيز دي كرينيُون، ووزير الاقتصاد الأسبق مِيغيل بُويير، وقد عاب عليه أولادُه، وأقاربُه، وذوُوه، وبعضُ أصدقائه وقرّائه مقاطعتَه وهجرَه لزوجته وأمّ أولاده بعد خمسين سنة من العِشرة، وممّا زاد في آلام رأسه ظهور اسمه في "أوراق بنما" إلى جانب العديد من الشخصيات السياسية، والمالية، والاقتصادية، والثقافية، والفنية من كل جنسٍ ولون، ومن كلّ ركنٍ وصُقع..وحتى لو بادر برغاس يوسا إلى تكذيب ذلك ونكرانه إلاً أنّ السّيف سبق العدل، فقد قيل ما قيل، إن صدقاً وإن كذباً...!! *عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا