يعتبر المقوم الحقوقي أحد أهم الركائز التي يقوم عليها البناء الديمقراطي للأنظمة السياسية، ذلك لأن احترام حقوق الإنسان هو بمثابة شرط تقاس على ضوئه درجة دمقرطة هذه الأنظمة، وتحديدا السلطوية منها، ناهيك عن كون نجاح عملية الانتقال الديمقراطي يتطلب الالتزام بالمرجعية الحقوقية في وضع القواعد الدستورية والسياسية المؤسسة لهذا الانتقال. بناء على ما سبق، نفهم لماذا يضطلع المحدد الحقوقي بدور مركزي في تحديد وجهة الانتقال المغربي الذي أضحى موضوع الكثير من التساؤلات، خصوصا بعد المصادقة على دستور 2011 الذي جاء متضمنا لمجموعة من الحقوق السياسية والاجتماعية (الباب الثاني من الدستور المتعلق بالحقوق والحريات الأساسية). بَيْدَ أن طرق تنزيل هذه المقتضيات قد اصطدم بعدة تأويلات وممارسات سياسية جعلت النص الدستوري يعاني من أزمة هوية وقصور في الفعالية؛ بحيث ظل النص القانوني متقدما على ''عقلية'' ومنطق بعض الفاعلين السياسيين والأمنيين المكلفين بتطبيقه. إذا تمعنا جيدا في طبيعة المقاربة المعتمدة في التعاطي مع بعض مطالب المواطنين ذات الصبغة السوسيواقتصادية، نجد أنها ما تزال أسيرة مقاربة أمنية تعطي تأويلا محافظا للمقتضيات الدستورية سالفة الذكر، الأمر الذي يؤشر على عدم تطور آليات هذه المقاربة بشكل يضمن حماية الحقوق الأساسية للإنسان. فمشروعية العمل الأمني ومفهوم القانون الوضعي تتحدد في حماية الحقوق الأساسية للأفراد، ولعل الظروف المصاحبة لوفاة الشاب المعطل إبراهيم صيكا بكلميم والسيدة فتيحة بالقنيطرة تحمل في طياتها الكثير من التساؤلات حول ماهية ووظيفة المقاربة الأمنية التي لم تساهم في هذا السياق إلا في تعقيد الأمور بشكل يهدد بتعميق الهوة التي تفصل الدولة عن المجتمع. إن فهم السياسات الأمنية المعتمدة لا يمكن فصله عن مدى التزامها بالبعد الحقوقي وقدرة الفاعلين في المؤسسات الأمنية على استحضار هذا البعد في التعامل مع المطالب الحقوقية للمواطنين. من هذا المنطلق نود الإشارة إلى أن تقدم النصوص الدستورية على مستوى المضمون لا يكفي لتفعيل الدستور في غياب تكوين وقدرة الفاعل على تأويله وفق تصور يساهم في تسريع وتيرة دمقرطة النظام السياسي. ونفسر التركيز على الفاعل والنص بفرضية طبيعة المنطق أو الإرادة التي تحدد تطبيق القانون ودورها في الالتزام بقواعده المتعلقة بحقوق وحريات المواطنين دون إغفال النتائج السياسية المتمخضة عن المقاربة الأمنية، لأن مفهوم الحفاظ على الأمن ما زال يعاني من عدة هفوات؛ أهمها تحويله في بعض الأحيان إلى ذريعة لتبرير الاستخدام المفرط للقوة، وكذلك تسييسه وفق منطق يضيق الخناق على مجال ممارسة الحريات والحقوق من طرف المواطنين. فالتصور المحدد للأمن بالمغرب يعبّر في كثير من الأحيان عن أزمة السياسة وعدم القدرة على تحمل أعباء الدمقرطة التي من غير الممكن اختزالها في إجراءات شكلية وإصلاحات نصية؛ حيث إنها تتطلب توفر إرادة البناء الديمقراطي. إن العلاقة بين الأمن والديمقراطية تجعلهما اليوم طرفي معادلة ترمز تمفصلاتهما إلى أهمية استحضار البعد الحقوقي في فهم هذه العلاقة، بالنظر إلى أن معظم التراجعات المسجلة في حقوق الإنسان بالمغرب ناتجة عن عدم استيعاب بعض الفاعلين الأمنيين للثقافة السياسية الجديدة التي هي قيد التشكل، والتي تتمظهر في طبيعة الاحتجاجات الميدانية والافتراضية التي أصبحت تجعل من القانون وسيلة للاحتجاج من أجل احترام القانون. لقد لاحظنا، على سبيل المثال، من خلال تفاعل المحتجين بكلميم مع أسباب وفاة الشاب المعطل إبراهيم صيكا مدى مركزية البعد الحقوقي والقانوني في بناء الفعل الاحتجاجي، لأن مطالب المحتجين ظلت ترتكز على ضرورة تفعيل المقتضيات القانونية المتعلقة بتحديد أسباب وفاة الشاب المعطل إبراهيم صيكا ومحاسبة المسؤولين. يرتبط الفعل الاحتجاجي هنا جدليا وتكامليا بعدة عناصر أساسية ساهمت في تطوره وتحديد تشكلاته المادية، وكذلك بناء معناه الداخلي. ونذكر من بين هذه العناصر: تصاعد دور الفئات الشابة في رسم معالم جديدة للفعل الاحتجاجي. تعاطي المسؤولين المحليين والمنتخبين والأعيان مع وفاة الشاب المعطل إبراهيم صيكا عَمَّقَ أزمة النخب المحلية كوسيط مابين الدولة والمجتمع. عدم تطوُّر آليات المقاربة الأمنية وقُصُور أداء بعض مؤسسات الدولة عن التجاوب مع الديناميكية الاجتماعية التي تشهدها الأقاليم الصحراوية. أزمة التنمية التي أضحت تتجسد في ارتفاع وتيرة الاحتجاج كأحد الأشكال غير التعاقدية لتقييم السياسات العمومية، مع ضرورة التأكيد على أن مفهوم التنمية ما فتئ يعاني من تضخم المعاني المضفية عليه من طرف غالبية الفاعلين إلى درجة أفرغته من معناه الحقيقي. فطرق استعمال مفهوم التنمية لا يمكن تفكيكها دون استحضار معطى مهم يتمثل في القيمة الانتخابية التي أصبح يكتسيها الشأن المحلي بالأقاليم الصحراوية. الأمر الذي جعل هذا الأخير حقلا تتمحور حوله عدة استراتيجيات سياسية تقتبس من السياسات العمومية آلياتها الوظيفية، كما تجعل من الفعل العمومي أحد تمظهرات وأشكال الفعل السياسي. ونلح هنا على طرق تفاعل الفاعل العمومي، وبالأخص المنتخب، مع المرجعيات المؤسسة للفعل العمومي، وكيفية توظيفه لها وفق منطق سياسي ساهم في أدلجة مفهوم التنمية، مما أفرز نتائج عكسية، لعل أبرزها تزايد حدة الفعل الاحتجاجي وولادة وعي شقي يرى في التنمية "نقمة". ذلك لأن المنطق المتحكم في صناعة الفعل العمومي يناقض في الكثير من تجلياته الميدانية الأهداف المتوخاة منه. وبالتالي نتساءل: أية تنمية أو سياسات عمومية يمكن الحديث عنها، في ظل هذه الشروط؟ تتطلب الإجابة عن هذا التساؤل اعتبار مكانة المرتكز الحقوقي في تشكل وبناء السياسات العمومية، لأن مشروعية الدولة تُكتسب من طرق استجابتها وكيفية تفاعلها مع مطالب المواطنين، علاوة على اعتبار أن الفعل العمومي الفعال والناجع هو الذي يحافظ على الأمن عبر تقيده بعدة شروط؛ أهمها المصلحة العامة واحترام حقوق الإنسان. إن تحليل السياسة الأمنية المعتمدة يحتم علينا فهم تداعياتها على الانتقال المغربي، لأن هذا الأخير قد أضحى مستعصيا على الفهم نظرا لكثافة الإصلاحات الدستورية والسياسية ومحدودية أثارها على دمقرطة النظام السياسي المغربي الذي ما تزال ممارسات بعض فاعليه السياسيين والأمنيين وجوهر بنياته المؤسساتية تنم عن وجود استمرارية متجذرة وتشكل عائقا أمام أي خطوة تروم تحديث المشهد السياسي، مما يجعلنا نؤكد أن الدمقرطة يمكن أن تكون ضد الديمقراطية، إذا لم تستوف الشروط الكاملة والضرورية لتطبيقها، مع تبنيها من الفاعلين بشكل مقنع كمرجعية تؤسس للقطيعة مع الماضي السياسي الذي يلقي بظلاله على أداء هؤلاء الفاعلين والحكومات المتعاقبة. في الختام نود التأكيد على ضرورة إصلاح السياسة الأمنية من أجل مواكبة تطور المجتمع الذي أصبح متقدما في تصوره للأمن والقانون على هذه السياسة، وذلك دون أن نغفل كون رهان الدمقرطة يتطلب وجود سياسية أمنية مرتكزة على منطق ديمقراطي يرسم قطيعة ابستمولوجية مع كل التأويلات والممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان، وخصوصا الحقوق الأساسية المتعلقة بالحق في الكرامة والحياة. *باحث في العلوم السياسية