عادة ما يحظى حملة العلم وأهله في المجتمعات المتقدمة بتقدير خاص واحترام متميز نظرا لموقعهم الاعتباري باعتبارهم زبدة المجتمع ونخبته، والفئة القادرة على تأطير جميع طبقاته وشرائحه، ولعل حاملي الدكتوراه هم أولى من يحظى بهذه المكانة لحصولهم على أعلى شهادة علمية تمنحها الجامعات والمعاهد العليا، بل في بعض المجتمعات التي تعترف بالعلم وتكرم أهله يقترن لقب الدكتور بالاسم العائلي والشخصي في البطاقة الوطنية وغيرها من الأوراق الرسمية، ونظرا للقيمة الاعتبارية التي تمنح لحملة هذه الشهادة فإن البعض يستعجل الحصول عليها بواسطة طرق غير سليمة من قبيل الغش الأكاديمي كما وقع لوزير الدفاع في حكومة ميركل بألمانيا الذي انتحل فقرات عديدة في رسالته دون نسبتها إلى أصحابها، ولما افتضح أمره حذف لقب "الدكتور" عن توقيعه في الصفحة الأولى من موقعه الإلكتروني واعتذر عن هذا الغش بمسوغات غير مقبولة ثم قدم استقالته من الحكومة رغم أنه أكثر الوزراء شعبية وأنه الأكثر حظوظا لشغل منصب المستشار خلفا لميركل. لكن ما موقع الدكتور والدكتوراه في وطننا الحبيب الذي ظلَمنا وأحببناه، ولفَظنا وأسكنّاه شغاف قلوبنا ؟ لعل ما يعيشه دكاترة القطاع المدرسي بالمغرب يلخص المأساة ويقرب الكارثة إلى الأذهان. بداية تكتل بعض الدكاترة في بدايات العقد الماضي ليبلغوا صوتهم للحكومة عبر وزارتها الوصية على القطاع، لكن الجواب كان هو الإهمال، ومع مرور الزمن بدأ صوتهم يرتفع مع كثرتهم العددية، وأوصلوه إلى بعض المسؤولين الذين أجابوهم بجواب واحد لا ثاني له، "نحن لا نعترف بالدكتوراه" وبعد نقاش وجدال سمعوا منه كلاما لو قيل في دولة تحترم العلم لاستحق قائله أقسى وأقصى العقوبات، أجابهم بقوله : "الدكتوراه بالنسبة إلينا مشكلة". الدكتوراه في العالم المتقدم تعد حلا، والدكتوراه في المغرب تعد مشكلة. واستمر الدكاترة في النضال حتى انتزعوا الاعتراف بهم الذي كان مستحيلا في البداية، وبعد ذلك تم الإعلان عن المباراة بطريقة انفرادية من لدن الوزارة، وعرفت المباراة خروقات بالجملة، تم تبليغها إلى الوزارة عبر وسائل الإعلام وعبر الوزارة الوصية، وتم انتقاء المتبارين من لدن اللجان "العلمية" بطريقة غير منطقية، وتم اعتماد شبكة تقويم إقصائية ... وبعد هذا الظلم والحيف دخل الدكاترة في خطوة نضالية غير مسبوقة، حيث التحقوا بباب الرواح بالرباط في اعتصام مفتوح منذ 18 فبراير 2011 وتعاملت معهم الوزارة بسياستي صم الآذان واللف والدوران ونقض العهود، وهكذا تم طرح حل الملف عبر ثلاث دفعات على الفرقاء النقابيين، ثم تراجعت الوزارة لتطرح عليهم فكرة الإفراج عن المباراة الأولى ثم الإعلان عن مباراة سنوية وفق الخصاص، ثم تراجعت لتعلن عن حل الملف وفق ثلاث دفعات على أساس تخصيص 700 منصب أو أكثر في سنة 2011 وطي الملف نهائيا في 2012، ولما طالبتها النقابة بتقديم هذا المقترح مكتوبا تملصت مرة أخرى، وكتبت الوزارة اقتراحها دون تضمينه هذا العدد. ولم يتعرض الدكاترة لظلم الوزارة الوصية فحسب، بل تعرضوا – وهم المكرمون – إلى ظلم وزارة الداخلية وإهانة أجهزتها القمعية، فتعرضوا لعدة اعتداءات مادية ومعنوية، وحمل بعضهم إلى المستشفيات، بل أصيب بعضهم بكسور. هنا أتوقف لأتأمل الظلم والحيف الذي لحق الدكاترة ولأتأمل في المقابل العمل الذي قامت به النقابات التعليمية الخمس. قدم الدكاترة نضالا أسطوريا تجلى في اعتصام مفتوح أمام الوزارة لأزيد من 55 يوما مع ما يستبطن هذا العمل النضالي من جهد وجهاد نفسي ومادي وعائلي ...، واقتحموا مقر وزارة التربية الوطنية في منظر لم يسبق له مثيل في الساحة التعليمية من قبل، وقاموا بمسيرات نحو البرلمان وباب السفراء تزامنا مع الحلقة الأولى من مسلسل الحوار الاجنماعي بغية إسماع صوتهم لمن به صمم. كل هذا الزخم النضالي صنعه الدكاترة تحت يافطة النقابات ورموزها، ومع ذلك فإن النقابات لم تستثمر هذا التوهج النضالي وهذا الحراك المجتمعي رغم أنها لا تعدم الظروف المناسبة لقلب الطاولة على الحكومة ومطالبتها بأكثر مما يطالب به الدكاترة أنفسهم. مع الأسف الشديد، رفعت بعض النقابات يدها عن الملف من أول وهلة، وبعض النقابات لم تفهم حتى الملف المطلبي ولم تقتنع به، وبعض النقابات ألقت على المعتصمين – مشكورة - خطابات تضامنية، وبعضها قام بدور ساعي البريد أحسن قيام، يبلغ الدكاترة رد الوزارة والرد المضاد وتسويفات الوزارة وتأجيل جلسات الحوار ... ولم يستفزه هذا الأمر ولم يحتج عليه. لقد كانت الفرصة مواتية أمام النقابات لتفعل الكثير لكنها قامت بتبخيس العمل النضالي البطولي للدكاترة وغيرهم، ماذا عساها أن تفعل غدا في النضال ؟ أتستطيع أن تأتي بفئة لتعتصم شهرين متتباعين ؟ على القيادات النقابية "الأكثر تمثيلية" أن تعي الدرس الذي لقنه إياها رجال التعليم أثناء الوقفة الاحتجاجية غير المسبوقة أمام وزارة التربية الوطنية والتي حضرها حسب بعض المتتبعين حوالي عشرة آلاف أستاذ، لكنهم تركوا القيادات النقابية تخطب الخطابات الجوفاء في سوق عكاظ وذهب الجمع الغفير في مسيرة غير مرخصة ليجوب شوارع الرباط، فهل استطاعت تلك النقابات – رغم أنها الأكثر تمثيلية - أن تؤطر رجال التعليم في الشارع ؟ على النقابات الآن أن تغير استراتيجيتها وأن تلتحم بالشغيلة التعليمية وأن ترتب أجندتها وفق اقتراحات القواعد التنظيمية، لا أن تمشي بوتيرة أضعف بكثير من وتيرة الشغيلة. على النقابات الآن أن تتبنى ملف الدكاترة، وألا تتركه حبيس مديرية الموارد البشرية في وزارة التربية الوطنية، بل عليها أن تطرح هذا الملف على الوزير الأول، خصوصا وأن الحل قد يكون في اتجاهين اثنين : أولهما : فتح المراكز الجهوية للتكوين التي بشر بها المخطط الاستعجالي البطيء. ثانيهما : فتح أبواب الجامعات أمام الدكاترة العاملين بالوظيفة العمومية ككل، خصوصا إذا علمنا أن الجامعات المغربية تعرف خصاصا مهولا في الأطر، والأكثر من هذا فإن الجامعات المغربية اليوم حبلى بالمتعاقدين وأغلبهم من حملة الشواهد الأدنى من الدكتوراه.