بالعودة إلى مرحلة ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع بين المغرب وجبهة البوليساريو سنة 1991، تحت رعاية الأممالمتحدة، وإشراف بعثتها "المينورسو" على مراقبة سريان هذا الاتفاق على أرض الواقع، وفي إطار محاولة تحليل وفهم المواقف والأحداث والسلوكات والأفعال التي صدرت عن طرفي النزاع طيلة هذه المدة، يلاحظ أن جبهة البوليساريو اعتمدت في إستراتيجيتها ضد المغرب ازدواجية الشكل والوظيفة على مستوى التنظيم، إذ يكون هذا التنظيم تارة سلميا، وظيفته التفاوض من أجل تحقيق مطلب "الشعب الصحراوي في تقرير مصيره"، وتارة يصبح مسلحا وعسكريا وظيفته الأساسية شن الحرب أو في أدنى الحالات التلويح بحمل السلام. ثنائية التنظيم "المسلح/السلمي" أفرزت عدة تناقضات على مستوى تعاطي البوليساريو مع التحولات والتوازنات الجيوستراتيجية المرتبطة بملف النزاع، سواء من خلال التذبذب والتخبط المسجل على مستوى المواقف أو على مستوى الخطابات والشعارات التي يعاد إنتاجها بين الفينة والأخرى من طرف الجبهة منذ وقف إطلاق النار إلى اليوم؛ ومن تجليات هذه الوضعية الملتبسة والضبابية التي تعيشها البوليساريو، اللجوء إلى "التهديد بحمل السلاح" ضد المغرب بشكل يكاد يكون روتينيا لكثرة تكراره في مختلف المحطات، ما جعل البعض يرى أن هذه التهديدات مجرد شعارات مناسباتية اعتادت الجبهة إطلاقها ولا تستطيع تنفيذها على الأرض. غير أن المفارقة الصارخة والحالة هاته أن البوليساريو تهدد بحمل السلام رغم درايتها بالتعقيدات الإقليمية والدولية الراهنة التي لا تسمح بقيام حرب في المنطقة، بالإضافة إلى اختلال موازين القوى العسكرية لصالح المغرب، بسبب عدم قدرة هذا "الكيان" البشرية واللوجيستية على مواجهة الجيش المغربي، باعتباره جيشا نظاميا متمرسا يمتلك أسلحة متطورة ويتوفر على عناصر بشرية مدربة وخاضعة لتكوينات ميدانية ونظرية عصرية في المجال الحربي. وحسابيا فإن كان مقاتلو البوليساريو يقدرون بما بين 30 و40 ألف مقاتل، فإن التقديرات تشير إلى أن عدد القوات المغربية يبلغ 150 ألف رجل يرابطون في المواقع الأمامية بالجدار الأمني الذي يعبر الصحراء المغربية على طول 2500 كيلومتر. وعموما، يمكن استحضار ثلاثة محددات أساسية من أجل بسط الخلفيات وإيجاد التفسيرات التي تدفع الجبهة إلى تبني هذه "اللغة التصعيدية والتهديدية"، وسعيها الدائم إلى توظيفها في الصراع مع المغرب: الدعاية الداخلية بين "الاستهلاك السياسي" و"امتصاص الغضب الشعبي" استعمال جبهة البوليساريو من وقت لآخر لغة التهديد باللجوء إلى حمل السلاح ضد المغرب لتحقيق أطروحتها الانفصالية يعتبر مجرد محاولة لاستغلال ملف النزاع على المستوي الداخلي، إذ يوظف هذا الخطاب للاستهلاك السياسي، من أجل الضبط والتحكم في الجبهة من الداخل، سواء من خلال استعمال شعار "الكفاح المسلح" الذي يعتبر من ركائز بروباغندا البوليساريو، بحكم أن كل قرارات مؤتمراتها تضمنته وتحث على تفعيله كخيار إستراتيجي، أو من خلال توظيف شعار الحرب كوسيلة للتجييش والتعبئة في صفوف المخيمات للتغطية على واقع الانشقاقات التي ساهمت فيها التركيبة النفسية والذهنية المستبدة لقادة البوليساريو. وبالرجوع إلى المؤتمر الأخير للبوليساريو، أي المؤتمر الرابع عشر الذي عقد من 16 إلى 20 دجنبر 2015، تحت شعار: "قوة، تصميم وإرادة لفرض الاستقلال والسيادة"، وبالتحديد إلى الكلمة الافتتاحية لزعيمها، يتضح جليا الحضور القوي للخطاب "التهديدي الرنان" لشحن العواطف نتيجة حالة الإحباط واليأس التي تسود المخيمات، ومن أجل الالتفاف كذلك على الانتقادات الموجهة إليه، إذ جاء في خطابه أن "الحديث عن الكفاح المسلح ليس مجرد تلويح، بل واجب مقدس وحق مؤسس واجب على الصحراويين المؤمنين بأهداف الجبهة". وبالتالي فورقة "حمل السلاح" غايتها الأساسية التنفيس وامتصاص الاحتقان الموجود داخل المخيمات، وصرف الأنظار عن المشاكل الداخلية التي باتت تعيشها الجبهة، وقمع المعارضين وكل الأصوات المتمردة على سياسة القيادة، وإيهام "صحراويي المخيمات" بضرورة تأجيل مطلب الدمقرطة بدعوى أن التنظيم في "حالة حرب". وهذا الأسلوب القائم على التضليل والتهويل من "العدو الخارجي"، بغية خلق نوع من "الإجماع الداخلي بالقوة"، تميزت به التنظيمات الشيوعية اللينينية والتروتسكية التي لا تنظيم لها - ضد التنظيم- ولا علاقة لها بالجماهير، كما تميل هذه التنظيمات عادة إلى إخفاء ضعفها عبر التركيز على إنتاج "بيانات ثورية"، ومع مرور الوقت يتحول هذا "الفكر الثوري الشوفيني" إلى معتقدات جامدة ومغلقة تعيق إحداث أي تغييرات أو مراجعات على مستوى الخط السياسي والأساليب النضالية. الهروب إلى الأمام ومحاولة المناورة والضغط تلجأ جبهة البوليساريو بشكل اعتيادي عندما تشعر بالحصار ويشتد الخناق عليها دوليا وإقليميا إلى التهديد بالحرب كخيار تكتيكي للضغط على المغرب والمنتظم الدولي. وتعتبر هذه المناورة بمثابة "بالون اختبار" تطلقها الجبهة لجس النبض ولمعرفة ردة فعل المغرب والقوى الغربية المؤثرة في صناعة القرارات الإستراتيجية والمصيرية. إن التهديد باللجوء إلى حمل السلاح، سواء من خلال الرسائل الموجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أو الهيئات الدولية الموازية والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، هو تهديد ضمني ومبطن يحمل في طياته عدة إشارات مشفرة لهذه الأطراف، مفادها أن هذه الحرب قد تؤدي إلى زعزعة الأمن والسلم الدوليين، وستنعكس بشكل سلبي على المصالح الحيوية للدول الكبرى بالمنطقة؛ لذلك ترى الجبهة أن هذه الاعتبارات كافية لممارسة المزيد من الضغوطات على المغرب لتقديم بعض التنازلات واستئناف المفاوضات وحلحلة الملف في الاتجاه الذي يخدم مصالحها وإستراتيجيتها. كما ترى البوليساريو أن الأوضاع الراهنة تشكل فرصة مواتية للتلويح بشكل أكثر بورقة إشعال فتيل الحرب بالمنطقة المغاربية وممارسة الضغط بها، خاصة في ظل الظروف الأمنية والسياسية التي تمر بها هذه المنطقة، لاسيما تمدد التيارات الجهادية بكل من الساحة الليبية وجنوب الصحراء، إذ تعي الجبهة جيدا أن الغرب- خاصة فرنسا وأمريكا- لن يسمح بوقوع مزيد من التوتر والنزاعات المسلحة التي قد تؤدي إلى تعقيد الوضع بالمنطقة. بينما التقارير الأمريكية التي تصدرها الخارجية- كان آخرها سنة 2015- حول الدول التي تعرف صراعات تستدعي اهتمام المنتظم الدولي، استثنت إقليم الصحراء من المناطق التي تعيش على وقع الاحتقان، بل تعتبر أن هذه المنطقة من بين مناطق العالم الآمنة. وجاء في التقرير الأخير أن هناك مناطق تعيش احتقانات متفاوتة عبر مختلف دول العالم، من بينها 10 دول إفريقية: "ليبيريا، مالي، نيجيريا، أفريقيا الوسطى، الكونغو، السودان، جنوب السودان، الصومال، مصر وليبيا". وبالإضافة إلى أن التقرير يوحي بفطنة الدول الكبرى للمناورات التي تقوم بها الجبهة، فإنه يعتبر من بين الدلائل التي تفند ادعاءاتها بخصوص قدرتها على حمل السلاح ضد الجيش المغربي. المغرب في مواجهة الجزائر: محاولة الاستدراج رغم عدم قدرة البوليساريو على خوض حرب مباشرة مع المغرب، بالإضافة إلى عدم استقلالية قراراتها عن الجزائر، البلد المحتضن والراعي الرسمي لهذا التنظيم، غير أنه توجد عدة مؤشرات حقيقية تدل على استعداد البوليساريو لشن الحرب في أي لحظة، سواء من خلال المناورات العسكرية المشتركة مع الجزائر، أو من خلال تدريباتها المتواصلة، وذلك بغية استدراج المغرب وجره إلى مواجهة مباشرة مع الجزائر. هذا السلوك العدواني الذي تتباه الجزائر تجاه المغرب تؤكده عدة معطيات وسوابق تاريخية وميدانية، ابتداء بعقدة حرب الرمال ومرورا بحرب أمغالا، ووصولا إلى دعم واحتضان وتوظيف تنظيم انفصالي الداخل لإضعاف المغرب. ولفهم المحاولات المتكررة للقادة العسكريين الجزائريين قصد استعمال وتوظيف ورقة البوليساريو لاستفزاز المغرب والزج به في معركة مباشرة، لابد من العودة إلى محطتين بارزتين في تاريخ العلاقة بينهما، وهما حربا الرمال وأمغالا. وتميزت حرب الرمال التي خاضتها القوات المسلحة الملكية ضد الجيش الوطني الجزائري عام 1963 وحرب أمغالا عام 1976 (أمغالا تبعد عن الحدود الجزائرية بحوالي 380 كيلومترا)، بأنهما المناسبتان اللتان تواجه فيهما الجيش المغربي مع خصمه الجزائري مباشرة، وتعرضت فيهما الجزائر إلى نكستين لازال صدى ذكراهما لدى جيشها، وهما الخساراتين اللتان لم ينفع معهما لا الدعم القوي الممنوح للجزائر من طرف الحلف الاشتراكي ومصر الناصرية عام 1963، ولا الأموال المتدفقة من تسويق الغاز والنفط عام 1976. وتأسيسا عليه، فالمخرجات المرتبطة بتنظيم البوليساريو على مستويات الخطاب والفعل، تعكس في نهاية المطاف إستراتيجية الجزائر العدائية تجاه المغرب، إذ يبقى هذا التنظيم مجرد أداة تنظيمية ودعائية توظف من طرف العسكر الجزائري في المرحلة الأولى -أي الراهنة- في حرب الاستنزاف ضد المغرب، وفي حالة فشل الطرح الانفصالي قد تستعمل كذلك كورقة لاستدراج المغرب لحرب مباشرة بهدف الانتقام وكسر شوكة المغرب إقليميا ودوليا. هذا الواقع جعل المغرب يراجع إستراتيجيته ونبرته تجاه الجزائر، بعدما بات الصراع مكشوفا على مصراعيه، ومفتوحا على جميع الاحتمالات. وفي هذا الإطار تندرج الانتقادات اللاذعة التي وجهها ملك المغرب في أكثر من مناسبة إلى الجزائر، ويبقى أبرزها الخطاب الذي وجهه من مدينة العيون يوم 6 نونبر 2015 بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، إذ اتهم الجارة الشرقية بتحويل سكان مخيمات تندوف إلى متسولين يعتمدون على المساعدات الدولية التي تصلهم. كما وصل الأمر في سياق المواجهة المباشرة والقوية إلى تساؤل الملك في خطابه بنوع من الاستغراب والعتاب وبنبرة غاضبة: "كيف تقبل الجزائر التي حولت أبناء الصحراء الأحرار إلى غنيمة حرب، ورصيد للاتجار غير المشروع...؟". *باحث في العلوم السياسية