"المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة، وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدين، وبتعبير الغربيين في سبيل الإنسانية أو سبيل الوطنية. والمولى تعالى المستحق التعظيم لذاته ما طالب عبيده بتمجيده إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم. وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم، وهو أضعف المجد، أو بذل العلم النافع المفيد للجمعية ويسمى مجد الفضيلة، أو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام ويسمى مجد النبالة، وهذا هو أعلى المجد وهو المراد على الإطلاق..." عبد الرحمان الكواكبي كل من يتابع مسار ربيع الثورات الشعبية التي تجتاح العالم العربي و الإسلامي إلا وتستوقفه مجموعة من التحولات الجذرية والعميقة التي لم يكن بالإمكان تحققها ولو في الأحلام ألا وهي وقوف الحاكم العربي مغبونا وقد حاصرته الجماهير الشعبية وصرخت في وجهه بالرحيل والتنحي أمام الشعب لإثبات حسن سيرته ولسرد تاريخه المجيد في خدمة الوطن والمواطنين، و ليحكي للجميع على عمره الذي أفناه من أجل كرامة شعبه، وعلى التضحيات الجسام التي قدمها ليحيا الشعب في عزة وسؤدد، و ليحكي أيضا على البذل العميم الذي قدمه من أجل الصالح العام بنكران منقطع النظير للذات في أيام السلم والحرب ليظل الشعب رافعا رأسه ينعم الطمأنينة والرفاهية، بذل من شأنه أن يديم سلطانه و يأبد أركان نظامه، ويكسبه مزيدا من الشرعية الحقيقية التي سقطت هذه الأيام عن كثير من الأنظمة القهرية التي حكمت كثيرا من الشعوب بالحديد والنار، معتقدة أن سياسة العصا الغليظة وحدة الكفيلة في الاستمرار في السلطة إلى ما لانهاية، ولأن منطق السلطة كما يبدو في المجال السياسي العربي والإسلامي هو تكريس قيم الثبات والاستمرارية من خلال شراء الولاءات و صناعة النخب الذيلية التي تهلل للسيد الرئيس و تمجد ذاته إلى حد التقديس، فإن حجم ما تبذله السلطة بسخاء من إمكانيات مادية ومعنوية هائلة لشراء الإرادات و الذمم، وما تقدمه من امتيازات وصلاحيات للمنعم عليهم يجعل مسألة البذل غير بريئة وغير مشروعة لأنها تساهم في تشكيل بيادق يدافعون على الظلم والجور، وينافحون عن سلطة ظالمة يعرفون في قرارة أنفسهم أنها غير شرعية، تمتص دماء الشعب المقهور، و تمعن في تركه يصارع الظلم والفقر والمرض و تسرق أحلامه ومستقبله لتقدمها غنيمة باردة لجوقة المرتزقة والوصوليين الذين يعرفون كيف ينفخون في بوق الدعاية الرخيصة للسلطة، و لا تقتصر السلطة على هذا فقط، بل تقدمهم في وسائل إعلامها الغبية كمناضلين طليعيين يبشرون بفجر الحرية والديمقراطية.. و كما درجت العادة فالسلطة في السياق العربي والإسلامي ونظرا لغياب فلسفة سياسية حقيقية تؤسس لحداثة سياسية تتخطى وتتجاوز الخطاب السلطوي المنبني على الايمان بمسألة الاستخلاف في الأرض الأمر الذي يتناقض ويتعارض و الحياة السياسية باعتبارها شأنا واختبارا وجوديا و إنسانيا خالصا يتعارض حوله الناس ويتفقون، يجعلها تفويضا إلهيا خص الله به إنسانا مقدسا وجب الإذعان له والامتثال لإرادته وإلا حلت بالأمة الفتن وعمها البلاء، وما أكثرهم علماء السلطان والأحزاب الدينية و النخب الذيلية التي تحاجج في نضالها على الأنظمة المستبدة بأن إمام جائر خير الفتنة، فلا أشد ما تخافه الأنظمة السلطوية من الفتنة ولهذا فإنها لا تغفل أية وسيلة وحيلة لتأبيد الوضع الراهن من خلال إيقاف حركية الزمن وتنميط الفكر و تبليد العقول في جغرافية الولاء الأعمى و التعزيمات الفقهية الغبية، وتسخير كل ما من شأنه أن يرسم في أذهان الجماهير المهمشة صورة مثالية عن الحاكم باعتباره النموذج الأعلى للكرم والفضيلة والتضحية، لكن لو تأملنا جيدا فسنجد أن الحاكم العربي وعلى امتداد التاريخ العربي لا يبذل إلا من أجل تأبيد شرعية زائفة و إشاعة صور معكوسة عن الجشع و الطغيان و الاستبداد والفساد والنهب، وحتى إن هو بذل ليقال كريم أو فاضل فإنه لا يعطي إلا ليصنع جوقة من المطبلين والمزمرين، وليخلق نخبا مفبركة تتمتع بخيرات الشعب المغلوب على أمره الذي يعاني تفقيرا ممنهجا، ويكابد سياسة لا ديمقراطية و لا شعبية عنوانها الأبرز إغناء الغني و تفقير الفقير وذلك لتقف عائقا أمام التغيير وبالتالي تكرس سياسة الأمر الواقع، لكن المفارقة الوحيدة التي تشغل بالنا في هذه الأيام وقد اشتعلت الثورات كما تشتعل النار في الهشيم، فهل رأينا أي حاكم عربي استمع لاحتجاجات الشعب المطالبة بالتغيير وقرر أن يتنحى عن كرسي الرئاسة بمحض إرادته! هل رأينا أي حاكم عربي اتخذ القرار الحكيم وقرر أن يبذل نفسه ويضحي بمنصبه وكرسيه من أجل تحقيق إرادة الشعب و الانتصار لحق الجماهير الشعبية في اختيار ما تريده، وبالتالي تجنب هذا الوضع المأساوي الذي تراق فيه الدماء البريئة و تتساقط فيه الأرواح الزكية ليس لشيء إلا لأن الحاكم العربي أصابه جنون الكرسي واستحلى الرئاسة رغم أنف الجماهير الشعبية التي أصبحت تدرك أن سبب فقرها و تهميشها لن يتم إلا بالثورة... *كاتب مغربي [email protected]