فجأة، وبدون سابق إخطار، تدفقت ملايين الوثائق المالية التي تهم عددا من المشاهير في العالم، ومنهم قادة وزعماء بلدان، ونجوم في الرياضة والفن، بشأن "إخفاء" حسابات مالية وتوظيفها في دولة بنما، والتي تعد بحسب العارفين إحدى أكبر "الجنات الضريبية" على وجه الأرض. وبمجرد أن انطلقت فورة 11 مليونا ونصف مليون وثيقة سربتها الصحيفة الألمانية "زود دويتشه تسايتونغ، Suddeutsche Zeitung بالتعاون مع "الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين"، حتى انطلقت اتهامات بالتخوين والتهرب الضريبي لتطال العشرات من الشخصيات الواردة أسماؤها في الوثائق. هسبريس تحاول في هذا التقرير وضع "أوراق بنما" في ميزان كفتاه المنطق والتؤدة، حتى لا تذروَ رياح الحماسة المفرطة للكثيرين بتلك الأوراق التي أخذها البعض كأنها نزلت لتوها كتابا سماويا مقدسا، وتضع الوثائق في سياقها الراهن، قبل أن تسائل خلفيات ظهور "أوراق بنما" في هذا الوقت تحديدا. "أوراق" في مهب الريح؟ العديد من وسائل الإعلام العالمية اعتبرت "أوراق بنما" إحدى أكبر عمليات تسريب الوثائق للصحافة في التاريخ، بعد أن سلم مصدر مجهول 11.5 ملايين ملف سري من سجلات شركة "موساك فونسيكا" المتواجدة في بنما، تتعلق بخدماتها المالية إزاء العديد من القادة والشخصيات. وتشمل الوثائق المسربة من شركة "موساك فونسيكا" البانمية، التي اشتهرت بتقديمها خدماتٍ لأثرياء العالم قصد "إخفاء" أموالهم وحساباتهم تجنبا للفضول بشأن مصادرها، مراسلات بريدية، وحسابات بنكية، وسجلات زبناء يعود تاريخها إلى أربعة عقود خلت، موزعين على العديد من بلدان العالم. وتعد "موساك فونسيكا" في بنما، وفق "الغارديان" البريطانية، واحدة من أكبر 4 شركات في العالم متخصصة في مجال "الخدمات القانونية"، وتتعامل حصريا مع زبائنها من الشخصيات الدولية، من خلال إدارة أموال بالمليارات عبر تحويلها إلى شركات خارجية بأسماء غير مُلَّاكها الحقيقيين.. وفي غمرة الحديث عن "فضيحة عالمية" و"أكبر عملية تسريب في التاريخ"، وبعد أن هدأت العاصفة قليلا، طرحت أصوات "عاقلة" أسئلة ملحة بخصوص طريقة نشر ما سمي "أوراق بنما"، وتوقيت ترويجها، والخلفيات المراد تحقيقها من وراء التركيز على أسماء قادة وشخصيات بعينها. وأورد البعض أنه لا يتعين أخذ كل ما ورد في الوثائق البانمية على أنها الحقيقة كاملة، ودونها الباطل، انطلاقا من اتصال شخص مجهول سمى نفسه "جون دو" بالصحيفة الألمانية المذكورة، والتي حاولت إظهار الأمر كأنه استقصاء صحافي دولي ضخم، رغم أنه ليس سوى عرض لوثائق مسربة، ووصولا إلى التساؤل عمن له المصلحة في هذا التسريب المتعمد. وفي هذا الصدد يقول الدكتور خالد الشرقاوي السموني، مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والإستراتيجية، في تصريحات لهسبريس، إن "ما قام به "جون دو" بإرساله إلى الصحيفة الألمانية ما يقارب 11.5 ملايين وثيقة حول شركات وحسابات زعماء سياسيين ومشاهير، يبحثون عن "الملاذات الضريبية"، هو عمل غير بريء". وطرح السموني سؤالا عريضا: "من يقف وراء هذا التسريب؟ لأن هناك احتمالا كبيرا أن تكون إحدى الشركات المنافسة للشركة البنامية وراء هذا التسريب، في نوع من الضرب تحت الحزام"، مشددا على أنه "في الوقت نفسه لا يمكن الدفاع عن معاملات مالية وضريبية غير مشروعة". وأيد السموني من طرحوا السؤال بخصوص تعرض شركة في بنما تحديدا لهذا التسريب، علما أنها شركة قديمة تأسست في 1977، على يد المحامي الألماني يورجن موساك، بشراكة مع المحامي البانمي رامون فونيسكا، ولم يسبق لها أن تعرضت للتسريب منذ تاريخ تأسيسها، ثم لماذا لا يوجد أي أمريكي أو إسرائيلي فيما تم تسريبه من وثائق؟". الدكتور عبد اللطيف أكنوش، الأكاديمي والأستاذ الجامعي، حذر بدوره من الانجرار وراء متاهات "أوراق بنما"، وتساءل في مقال على صفحته "الفيسبوكية" عن الواقفين وراء التسريب، ولماذا التركيز أكثر من اللازم على بوتين، وعلى بلدان بعينها، وعلى ملك السعودية، والوزير الأول الإسلندي"، ليخلص إلى ضرورة الحذر "حتى نشوفو فاين غاديا هاذ البيعة وشريا". "جنات ضريبية" أوراق بنما التي تم تسريبها "بقدرة قادر" كشفت أن العديد من شركات "أوف شور" المسجلة من لدن مكتب "موساك فونسيكا" تقوم بنشاط وحيد، يتمثل في فتح والتصرف في حسابات بنكية يتم إحداثها من طرف زبناء غير أصحاب الأرصدة الحقيقيين، وهو ما يتيح "التعتيم" على هوية تلك الشخصيات. ويرى أخصائيون أن شركات "أوف شور" تعتبر ذات كيانات قانونية، يتم تسجيلها في بلد أجنبي غير بلد مؤسسيها، وقد تمارس نشاطها وعملها في بلد ثالث، وربما تدير هذا النشاط شركة أخرى في بلد رابع، ولا يحتاج تأسيسها سوى عقد تأسيس، ونظاما داخليا، كما لا تحتاج إلى مقر. وطرح الكثيرون على هامش اندلاع ضجة "أوراق بنما" تساؤلا مباشرا مفاده "هل وضع أموال في حسابات أو إنشاء شركات "أوف شور"، أو ما يسمى إيداع الأموال في جنات ضريبية، يعتبر عملا غير قانوني؟"..سؤال ناقشته صحف فرنسية خلصت إلى أن الأمر رهين بالتصريح بتلك الأرصدة. وأكد مسؤولون في إدارة الضرائب الفرنسية أن "إنشاء حساب مالي خارج بلد المعني بالأمر هو عمل مشروع في الأصل إذا كان مصرحا به من طرف إدارة الجبايات، التي تفرض التصريح بالحساب كل سنة، كما أن أنشطة شركات "أوف شور" قانونية مادامت تزاول أنشطة تجارية حقيقية في البلد الذي توجد به". وفي هذا السياق يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عمر الكتاني، في تصريحات لهسبريس، إن جزءا من الأنشطة المالية التي تمارس في "الملاذات الضريبية" يمكن اعتباره قانونيا، شرط أن يتم التصريح بتلك الأموال من طرف إدارة الضرائب في بلد الشخص المعني بالأمر". وتابع الكتاني بأنه "من الناحية المبدئية لا يوجد مانع قانوني من استثمار الأموال وإنشاء الأرصدة خارج حدود البلاد، باعتبار أحقية التصرف في الأموال، لكن ذلك يستوجب تنفيذ المسطرة القانونية المعمول بها في البلد، وإلا تم اعتبار الأمر تهربا ضريبيا". وذهب الخبير إلى أن "العيب ليس في أن يكون المرء رأسماليا يطمح إلى تنمية أمواله كيفما يشاء، ولكن يتعين مقابل ذلك أن يعمل على أن يستفيد المجتمع من أمواله، من خلال تأدية الضرائب القانونية عليها، وهو نوع من التعويض الذي يسدده الرأسمالي لفائدة المجتمع مقابل تطوير أرصدته". حالة المغرب "أوراق بنما" طالت العديد من الشخصيات والزعماء عبر العالم، حتى إنها لم تترك أحدا في شأنه، ونبشت في حسابات وأنشطة مالية رامت "الاختباء" في ملاذات ضريبية، موردة حالة مغربية تتمثل في محمد منير الماجدي، مدير الكتابة الخاصة للملك محمد السادس، بحسب ما نقلته صحيفة "لوموند" الفرنسية، التي شاركت في "الاستقصاء" الصحافي. ووجدت الجريدة الفرنسية الشهيرة الفرصة سانحة للحديث عن أموال وأرصدة العاهل المغربي، ووصفته بالمحب للجزر العذراء، وكشفت استنادا إلى ما توفر لديها من وثائق اسم الشركة التي أقرضت Orion SA مبلغ 40 مليار سنتيم لشراء فندق في إحدى الضواحي الراقية في باريس. وأوضحت الصحيفة، المعروفة بعلاقتها "الفاترة" مع النظام المغربي، بأن الشركة أحدثها مكتب الخدمات القانونية البانمي لفائدة الماجدي، قصد إجراء تلك المعاملة المالية، وبأنه في 2003 قامت شركة أخرى وفر لها مكتب فونسيكا مقرا في الجزر العذراء البريطانية، واسمها EPOS International Corp، بتحويل مبلغ 36 مليون أورو في 3 يونيو 2003 لشركة عقارية موجودة في اللوكسمبورغ، هي Orion SA. وفي هذا الصدد، يؤكد خالد السموني أن حشر اسم الملك محمد السادس في قضية أوراق "بنما" وراءه حسابات معينة، وأضاف متسائلا في تصريحات للجريدة: "لماذا تم حشر الملك في ملف أوراق بنما من قبل الصحافة الأجنبية، وبالخصوص المنابر الجزائرية المعادية للمغرب؟". وأوضح السموني أنه "لا توجد علاقة بين العاهل المغربي وهذه القضية، ولئن كانت هناك حسابات بنكية في اسمه خارج البلد فإنها قانونية ومصرح بها، وتُدفع عنها الضرائب"، مشيرا إلى أن ذكر اسم الملك جاء بسبب ورود اسم كاتبه الخاص في أوراق بنما، صاحب شركة "SMCD LIMITED"، التي كان يملكها منذ يناير 2006، وتمت تصفيتها عام 2013. ولم يقف الماجدي مكتوف الأيدي أمام ما ورد في تسريبات الوثائق البانمية، إذ أكد من خلال محاميه أن الشركتين المذكورتين في التحقيق الذي نشرته كبريات المجلات والمنابر الصحافية "خاضعتان للقوانين والتشريعات الجاري بها العمل، ومذكورتان في السجلات العمومية". بنما: العمليات قانونية وأمام الضجة العارمة التي أحدثتها الوثائق المسربة، سارعت الحكومة البانمية إلى التأكيد على أنها ترفض اعتبار البلد "ملاذا ضريبيا"، إذ أكد وزيرها في الشؤون الرئاسية، ألفارو أليمان، أن "بنما ترفض رفضا قاطعا أن يتم إدراجها ضمن أي لائحة للملاذات الضريبية". ولم يستبعد المسؤول الحكومي وجود "حملة دولية" للإضرار بصورة بنما، مبرزا أن التحقيقات الصحافية "أشارت إلى وجود 21 منطقة تسمح بإنشاء شركات أوفشور، لكن هناك من يحاول إلصاق هذا الأمر ببنما فقط"، مضيفا: "لن نقبل أن يتم تقديم بنما ككبش فداء للممارسات والأفعال التي يقوم بها الآخرون". وأضاف المسؤول ذاته أن الحكومة البانمية ملتزمة بالعمل على ضمان الاستعمال القانوني للنظام المالي والخدماتي بالبلد، مبرزا مجموعة من الإصلاحات والقوانين التي أقرتها السلطات مؤخرا، والتي مكنت من سحب بنما من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولي للبلدان الأقل تعاونا في مجال التهرب الضريبي. من جهته أكد مكتب موساك فونسيكا أنه تعرض لعملية قرصنة معلوماتية تمت من الخارج، وأن "لا أحد يتحدث عن القرصنة في الصحافة التي تستفيض منذ يومين في كشف الوقائع، في حين أنها الجريمة الوحيدة التي ارتكبت"، منتقدا "المس بالحياة الخاصة لزبناء الشركة".