ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاحتجاج الديني والسياسة الدينية بالمغرب
نشر في هسبريس يوم 08 - 04 - 2011


قراءة في الأسس والرهانات
يشهد الحقل السياسي المغربي حركية اجتماعية وسياسية نشطة - ربما غير مسبوقة - إسوة بالعديد من الأنساق السوسيو سياسية المماثلة في المنطقة العربية. وتبرز بموازاة ذلك عودة مكثفة للمرجعية الدينية على مستوى الشارع السياسي اليومي، كاستمرارية لشبكة مكثفة من الجمعيات، تستمد جزء مهم من عناصر قوتها من ضعف وعجز الفاعلين السياسيين على القيام بأدوارهم على مستوى السياسات العامة مركزيا ومحليا. مما سمح بتقوية حركية إسلامية إبان العقود الأخيرة، بدأت معالمها السياسية بعودة القوة الجماهيرية لجماعة العدل والإحسان إلى جانب التيارات الإسلامية الموصوفة بالمتطرف اجتماعيا وسياسيا للظهور مجددا. وبالتالي ضرورة مراجعة وضعية وإستراتيجية المغرب داخل " المنطقة الرمادية"، التي صنفها " جيل كيبل"، والمتواجدة بين مغازلة العناصر المعتدلة والضغط على العناصر المتطرفة[1].
فماهي أهم الأسس التي قام عليها تدبير المرجعية الدينية للنظام السياسي المغربي؟وماهي الرهانات التي سعى إلى تحقيقها؟
أسس السياسة الدينية بالمغرب
من الناحية التاريخية، ظلت سلطات السلطان بالمغرب ترتكز على النظرية السنية للحكم، والتي تمت ملاءمتها مع التقاليد المحلية في المجال السياسي؛ لذلك وعلى عكس العديد من الأطروحات، لم يكن السلطان في المغرب يمارس في العمق سلطة روحية/ دينية بالمعنى القوي للكلمة على الأقل خلال القرن [2] بل كان عمله يقتصر على الطقوس الرمزية كإقامة الصلاة يوم الجمعة. وبالتالي فالسلطان هنا لم يكن يمارس لا السلطة التشريعية التي كانت من صلاحيات العلماء، الذين يسهرون على تأويل القواعد الدينية كلما دعت الضرورة إلى ذلك؛ ولا السلطة القضائية، حيث كان دور السلطان يقتصر على تعيين قاضي القضاة في فاس والذي يختار باقي القضاة العاملين في البلاد.
لكن وبعد الاستقلال مباشرة سيصبح "الإسلام" أهم قوة لشرعنة الحكم بالمغرب، حيث ركزالملك محمد الخامس المقولات الإسلامية التي رددها حزب الاستقلال، والتي لم تعترض عليها أية قوة سياسية أخرى[3]. لذلك كانت السنوات الأربع الأولى للاستقلال (1956-1960) كافية ليحقق النظام السياسي المغربي التوازن بين التأويل السلفي للدين كما كان يدعو إلى ذلك زعماء الحركة الوطنية، وبين المنظور الرسمي للدولة الذي منح للعاهل المغربي دور الحامي لمختلف الفاعلين الدينين. فبعد أن اتضح للملك طموح حزب الاستقلال في التحكم في المجال الديني وتأويله، وذلك من خلال متابعته للطرق والزوايا، ستسمح بعض الأزمات الطارئة[4] للملك بلعب دور الحكم وتدشين عملية التحكم في الخطاب الديني والبدء في عملية تنظيم هيأة العلماء، ومن خلالهم الحقل الديني برمته.
لدلك وبعد حسم الصراع حول الشرعية الدينية لفائدة الملك، ستتمحور السياسة الدينية للحسن الثاني حول رهانين أساسيين متكاملين؛ يتمثل الأول في إضفاء قداسة دينية على النظام الملكي، بينما تمحور الثاني حول إضعاف السلطة الدينية والسياسية للعلماء:
أ- فبخصوص الرهان الأول، استطاع الحسن الثاني- أكثر من أي رئيس دولة آخر في المنطقة المغاربية وحتى العربية- أن يحتفظ لنفسه بنقط ارتكاز في المعسكر الديني من خلال إعادة ربط النظام السياسي القائم بطبيعته الدينية التي سادت قبل الحماية، وهو ما تكرس عبر الفصل 19، وإعطائه مكانة خاصة في قلب دستور 1962، دون أن يحول ذلك حيال حدوث درجة معينة من العلمنة داخل المجتمع المغربي[5]. وقد صرح الحسن الثاني في هذا الصدد لأسبوعية nouvelle observateur (أكتوبر 1987) قائلا: « أنا – كما تعلمون- أمير المؤمنين، أعطي لي هذا اللقب عندما ولدت دون أن أطلب ذلك، دون أن أرغب فيه، ومعنى ذلك أنني من ذرية النبي، وهذا شيء ناذر جدا [...] إن هذا اللقب يفرض على من يحمله قدرا كبيرا من التواضع ويفرض عليه كذلك –في بعض الأحيان- بعض المسؤوليات»[6]؛ لذلك سيشكل إحياء مراسيم البيعة من طرف الحسن الثاني وجعلها عنصرا أساسيا للسلطة، من خلال تقليص مكانة القانون الوضعي وجعله مجرد إطار شكلي لشرعية دينية وتاريخية؛ وهذا ما أعلن عنه الحسن الثاني نفسه بمجرد تتويجه ملكا على المغرب بقوله: « إن الدستور الذي وضعته بيدي والذي سيعرض على موافقة الشعب المغربي في جميع تراب المملكة في ظرف عشرين يوما، هذا الدستور هو قبل كل شيء تجديد للرباط المقدس الذي جمع دائما الشعب والملك»[7]؛ فكلمة "مقدس" لا تعني هنا سوى المكانة التي يجب أن يتمتع بها النظام الملكي داخل الهرمية الدينية والسياسية، وقدرة الملك الحسن الثاني على تجسيد الرمزية التاريخية وضمان استمراريتها، فصفة القداسة تختزن إذن كل معاني التعالي والتبجيل، وتفرض الاحترام والخضوع وتترتب عنها نتائج قانونية وسياسية هامة من أبرزها:
كون النظام الملكي والدين الإسلامي لا يناقشان.
كون شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته، فلا يكون محل نقد أو موضع سخرية.
كون القرارات الملكية غير خاضعة للطعن أمام القضاء، فهي تعتبر أعلى من كل قوانين الدولة[8]، مما يعطي لاختياراته وسياساته مرونة شبه مطلقة أمام أي نقض أو اعتراض محتمل.
ب-أما الرهان الثاني، والمتعلق بإضعاف السلطة السياسية والدينية للعلماء، فقد اتخذ ضمن السياسة الدينية للحسن الثاني مظهرين أساسيين: الحفاظ على مظاهر التنوع الديني، ثم التنظيم الرسمي للمجال الديني.
- الحفاظ على مظاهر التنوع الديني: حيث كان الحفاظ على تعدد الحركات الدينية، ومظاهر التدين الشعبي، أحد أهم الوسائل المفضلة لدى الحسن الثاني في سياسته الدينية. فبخلاف حزب الإستقلال الذي لم يتردد لحظة في المهاجمة العلنية لكل أولئك الذين لم يحاربوا إلى جانب الأورتدكسية السلفية، كان الملك يبدي "احتراما سياسيا "لمختلف مظاهر الإسلام الشعبي، مع التحكم في نفس الوقت في تطور نشاط الطرق والزوايا. فحتى بالنسبة للحركات الدينية التي ساندت بشكل علني قرار نفي محمد الخامس مثل الطريقة الكتانية، فإن الحسن الثاني قد سمح لها بالعمل من جديد بعد أن تم التمييز بين فرع فاس الذي بقي محظورا، وفرع سلا الذي ما زال ينشط لحد الآن. غير أنه ينبغي التمييز لاحقا بالنسبة للسياسة الدينية للحسن الثاني تجاه مظاهر الإسلام الشعبي بين "الطرقية" التي تم تركها لحالها، بحيث لم تهاجم ولم تدعم، مما أدى إلى اختفاء جلها تلقائيا؛ وبين "الصلحاوية" التي حظيت –في إطار استمرارية مخزنية- بتجديد «ظهائر التوقير» بالنسبة لشيوخ بعض الأضرحة والزوايا، وتقديم الهبات لبعض الشرفاء، كضريح "مولاي ادريس زرهون" و "عبد السلام بن مشيش" و "سيدي احماد أوموسى" و "ركراكة"، وإحياء المواسيم التي تحضرها الشخصيات الرسمية ورجال السلطة المحلية والبعثات الوزارية؛ وهو توجه سيتقوى أكثر فأكثر مع تصاعد التيارات الإسلامية[9]، والتي اتسمت شيئا فشيئا ب « طابع المعارضة السياسية الخبيثة»[10] من أجل إعطاء مظاهر الإسلام الشعبي وسائل جديدة لتعزيز نفوذه .
– التنظيم الرسمي لمجال الدين: فإذا كان الحسن الثاني قد استطاع في المرحلة الأولى من حكمه، كسر شوكة العلماء عن طريق دفعهم في أكثر من مرة إلى طلب التحكيم الملكي، ثم "تأميم" جامعة القرويين كأحد أهم معاقلهم الرمزية، فإن الإكراهات التي أصبح يفرضها تزايد شعبية الإسلام السياسي، خاصة بعد الثورة الإيرانية (1979)، قد حتم على الملك تبني استراتيجية أكثر صرامة في احتلال مجالات وقنوات إنتاج الخطاب الديني ووسائل نشره من خلال :
الرقابة الإدارية الصارمة على النشاط الديني، حيث انصب الاهتمام قبل كل شيء بوضع وسائل للإشراف الديني، كجزء من السياسات العامة للدولة. فغداة أحداث الدار البيضاء (1981) و الناظور ومراكش (1984)، تم الاعتراف الرسمي بوجود "خطر أصولي"، وفي نفس الوقت تطوير سياسة أمنية قائمة بالأساس على تقسيمات إدارية جديدة خصوصا بالدار البيضاء والرباط، وتزويد العمالات والأقاليم بمصالح متخصصة في الميدان الديني، قصد التحكم في استخدام وانتشار المساجد، وتعيين أئمة هذه الأخيرة من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعد استشارة عامل الإقليم، ثم الإشراف المباشر على خطبة الجمعة[11].
تنظيم "رجال الدين"، ذلك أنه وإذا كان الحسن الثاني، قد تعايش لمدة طويلة مع «رابطة علماء المغرب» والتي كانت تشكل نوع من النقابة التي تدافع عن المصالح الأدبية للعلماء بالمغرب، وتذكير النظام بوجودها المستمر كطرف فعلي في السياسة الدينية للبلاد، عن طريق التوصيات التي تصدرها؛ فإن العاهل المغربي قد وجد نفسه ابتداء من نهاية عقد السبعينات أمام تناقضين أساسيين، فمن جهة كان التحدي الإسلامي يفرض عليه إيجاد أجوبة مقنعة على الصعيد الديني، بل والقيام بمزايدة إيديولوجية تتمثل في التمسك ب "الإسلام الصحيح"[12]، أي الاعتماد على العلماء القادرين وحدهم على لعب هذا الدور؛ ومن جهة أخرى كان الحسن الثاني يبدي تخوفا واضحا من هؤلاء العلماء باعتبارهم معارضة دينية محتملة، عن طريق استثمار كل سياسة تتخلى عن إسلامية الدولة والمجتمع.
لذلك يمكن القول أن العلماء، ظلوا يشكلون بالنسبة للحسن الثاني "حلفاء مزعجين"، مما حتم عليه التوفيق بين دولنة وظيفة العلماء من خلال تحديد اختصاصاتهم بصرامة وتقوية مصداقية هيئة العلماء حتى تستطيع مواجهة الحركات الأصولية. في هذا السياق، يمكن فهم تكتيك إنشاء "المجلس العلمي الأعلى "[13]؛ والذي جاء في تقديم الظهير المنشئ له تحت عنوان «الأسباب الموجبة» التي تبرز المهام الموكولة إليه ما يلي : «كان الإسلام ولا يزال أهم مقومات الشخصية المغربية، وكانت وحدة العقيدة والمذهب التي من الله بها على المغرب منذ القدم الأساس المتين الذي قامت عليه وحدة الأمة، والعامل الفعال الذي ضمن لها التماسك والاستقرار، وجعلها بمأمن من التفكك والانقسام الذي أصاب كثيرا من الأمم الأخرى [...] وقد استقر رأينا بعد أن أصبحنا نشاهد ما ينذر به شيوع بعض المذاهب الأجنبية من خطر على كيان الأمة المغربية وقيمها الأصلية، أن يستمر عملنا المتواصل في إطار مؤسسات تنتظم فيها وتتناسق جهود العلماء (الفقهاء) الأعلام، للعمل تحت رعاية جلالتنا الشريفة، وإرشادها على التعريف بالإسلام، وإقامة البرهان على أن ما جاء به صالح لكل زمان ومكان في أمور الدين والدنيا معا، وأن فيه غنى عن ما عداه من المذاهب والعقائد التي لا تمت بصلة إلى القيم التي يقوم عليها كيان الأمة المغربية...»[14].
وبالفعل فقد شكل إحداث المجلس العلمي الأعلى، تنظيما هرميا يجمع كل علماء المغرب على المستوى المركزي تحت الرئاسة الشخصية للملك باعتباره "العالم الأول " حسب تعبير Remy Leveau .وتتلخص مهامه حسب (الفصل 4) من الظهير المذكور في :
التداول في القضايا التي يعرضها عليه جلالة الملك.
تنسيق أعمال المجالس العلمية الإقليمية.
ربط الصلات بالمؤسسات الإسلامية العليا ك "رابطة العالم الإسلامي" و "المؤتمر الإسلامي" .
لكن التنظيم الإداري للعلماء وللنشاط الديني لم يقتصر على المستوى المركزي بل تعداه إلى المستوى المحلي من خلال إنشاء مجالس علمية إقليمية يعينها الملك كذلك[15] كشبكة منتشرة مجاليا لمراقبة النشاط الديني
الحقل الديني في المغرب نحو: إستراتيجية شمولية للضبط والمراقبة
مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر/ 2001 في الولايات المتحدة الأميركية ثم أحداث 16 مايو 2003 في الدار البيضاء،تحولت السياسة الدينية بالمغرب من بعدها القطاعي نحو سياسة مابين قطاعية وأكثر شمولية تقوم على أساس إستراتيجية شمولية للضبط والمراقبة حيث أصبح يشمل ما صار يعرف بتدبير الحقل الديني العديد من الإجراءات الضبطية أهمها : قانون مكافحة الإرهاب، وقانون تنظيم التعليم العتيق ، وآخر لتنظيم بناء المساجد وأماكن العبادة، وإعادة هيكلة كل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجالس العلمية والإفتاء، ودار الحديث الحسنية وإغلاق عدد من المصليات الصغرى، وزيادة تخريج وإدماج المرشدات الدينيات للنساء في المساجد ابتداء من سنة 2006.
ويمكن رصد أهم ملامح هده الإستراتيجية فيما يلي:
أ-التأكيد على سمو إمارة المؤمنين : باعتبارها المرجعية الإسلامية العليا للشعب، و التي تقدم التفسير والتأويل المعتمد للدين، و ترجح بالتالي الاجتهاد اللازم الإتباع ( مدونة الأسرة مثلا) حيث حكم الحاكم يرفع الخلاف في الأمور الاجتهادية
ب-الدفاع عن وحدة المذهب المالكي : دفعا لكل منافسة دينية من الداخل أو الخارج بحجة أن وحدة المذهب هي ضمان انسجام ووحدة المغاربة ( قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران) لذلك فالدولة حريصة في نطاق تدبيرها للحقل الديني على إقصاء كل التيارات والتوجهات التي تحاول المس بوحدة المذهب المالكي بأي شكل من الأشكال. وتعتبر الالتزام بالمذهب شرطا أساسيا للسماح بالعمل للجماعات والجمعيات والحركات الإسلامية
ج- مغربة الدين: من خلال التأكيد على أن الإسلام له بعد مغربي ينبغي المحافظة عليه والالتزام به، ويعتبر العنصران السابقان (إمارة المؤمنين والمذهب المالكي) من مكونات هذه المغربة.
لذلك ترفض الدولة كل توجه إسلامي ذي طبيعة أممية، مما يفسر عدم انخراط الحركات الإسلامية الكبرى بالمغرب في أي تنظيم عالمي مثل الإخوان المسلمين أوالتوجه الثوري الإيراني.
ه- وتنظيم الفتوى:من خلال التحديد الصارم لوظائف العلماء ومحاصرة المبادرات المستقلة في مجال الإفتاء(الصرامة السياسية التي ووجهت بها فتوى المغراوي بخصوص زواج القاصر) فهيأة العلماء،وبعد تنظيمهم في نطاق مجالس علمية محدودة الاختصاصات والأدوار، فهي لا تفتي إلا في مجال ضيق وفي القضايا الفردية، كما تذيل فتواها بما يفيد بأنها غير ملزمة إلا في أضيق الحدود تلافيا لأي تنازع مع القضاء أوالإدارة
و- التنظيم الصارم للتعليم الديني: حيث سارع المغرب إلى إعادة تنظيم ومراقبة المدارس العتيقة والكتاتيب القرآنية، فصدر قانون التعليم العتيق في المغرب سنة 2002 لتنظيم الترخيص لهذا النوع من التعليم ومناهجه ومواده وضبط عمليات التفتيش والشهادات والتوظيف.
ز- حذر تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية: حيث منع قانون الأحزاب السياسية لسبة 2005 صراحة تأسيس الأحزاب على أسس دينية أو لغوية أو عرقية أو جهوية[16]
و-الرقابة المشددة على قنوات التنشئة الدينية : فالمسجد باعتباره منبرا وسلاحا للوعظ والإرشاد، يحظى بشعبية جمهور المصلين، قد يتحول إلى عنصر مقاومة ونقد إصلاحي للممارسة السياسية والاجتماعية السلبية المنافية للقيم الإسلامية . فبعدما جرت العادة على بناء المسجد من طرف المحسنين وليس من طرف الدولة، فإن هذه الأخيرة ستؤكد حرصها على الوصاية والإشراف عليها بموجب ظهير صادر بتاريخ 2 أكتوبر 1984 وفقا للقرار الصادر عن وزارة الأوقاف بتاريخ 10 مارس 2006. ومن أهم تجليات هذه الوصاية تعيين القيمين الدينيين على المساجد وتقنين ولوج هذه الأخيرة من خلال فتحها وإغلاقها في أوقات محددة بالصلوات الخمس، بالإضافة إلى إعداد الخطب النموذجية المكتوبة، خصوصا في المناسبات الدينية والوطنية. ويظهر الارتباط العضوي للمسجد بالمشروعية الدينية الرسمية للدولة كذلك من خلال الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية في أعظم مساجد المملكة وبحضور ممثلي مؤسسات الدولة تحت إشراف عمال وولاة جلالة الملك الذي يشرف بدوره على الاحتفال برمزيته الدينية وحضوره الفعلي لأحد مساجد المملكة. وهي ظاهرة ترسخت في السنوات الأخيرة
ة-التشجيع السخي للإسلام الشعبي : حيث أصبحت بعض الزاويا تسجل حضورا مكثفا في الفضاء الثقافي والفكري من خلال الندوات والتظاهرات التي يقوم بتنشيطها أتباعها ومن خلال الإصدارات المتنوعة التي ينتجها بعض رموزها ، وتأثير هذه الصحوة الصوفية الجديدة على الجامعة من خلال إشراف بعض أطرها العلمية على وحدات البحث والتكوين في التصوف والزوايا. وهو ما يساعد النظام السياسي المغربي إلى حد كبيرعلى استيعاب ظاهرة التطرف الديني بخطاب دعوي وتربوي معتدل وفي نفس الوقت محاصرة حركة الخطاب العلماني[17].
استنتاجات
لدلك وبعدما استشعرت الملكية خطر توغل الإسلاميين بين ثنايا المجتمع، فقررت الدولة ولوج المجال الاجتماعي. بالتزامن مع ذلك؟ عمدت السلطات العمومية إلى تيني دينامية في "الإصلاح الدين"؟ إدراكا منها فيما يبدو؟ أن الأداة الخشنة لا يمكن أن تؤتي أكلها على المدى المتوسط والبعيد؟ إذا لم تتم مزاوجتها بأدوات ناعمة؟ تطاول منظومة الأفكار والتصورات؟ عبر تقنين إنتاج الخطاب الديني. لدلك فليس من الهين؟ معرفة المضمون الحقيقي والدقيق للعبارات الرائجة سياسيا بهذا الخصوص؟ بين ضرورة "هيكلة وتأطيرالحقل الديني" و "تدبير الشأن الديني" أو "تجديد الخطاب الديني" الخ وهي توصيفات عامة وطروحات شاسعة الأبعاد والآفاق؟ لكنها تستهدف بلوغ ثلاثة أهداف مرحلية أساسية:
أ- إعادة هيكلة البنية المؤسساتية ابتداء من القيمين الدينيين على المستوى الترابي؟ وصولا إلى حدود المجلس العلمي الأعلى؟ مرورا بالمجالس العلمية الوسيطة؟ الفاعلة على المستويات الجهوية. مما يمكن السلطة المركزية من تتبع دقيق بما يدور بالمساجد أو الزوايا أو المشيخات أو بالآلاف من الكتاتيب القرآنية المنتشرة هنا وهناك؟ والعاملة في العديد من الحالات؟ بعيدا عن عيون السلطة.
ب- وعي الدولة؟ صراحة؟ بضرورة إيلاء أهمية خاصة لهشاشة الوضعية المادية؟ للعديد من الأئمة والقيمين الدينيين ومؤذني الجوامع وما سواهم؟ مما يجعلهم إما غير قادرين على تأدية وظائفهم؟ أو موضع استقطاب؟ من لدن بعض "المشوشين على الخطاب الديني الرسمي.
ج- تجديد مضمون الخطاب الديني. من خلال التأكيد على ثوابت المنظومة الدينية الرسمية؟ المرتكزة على العقيدة الأشعرية ومذهب الإمام مالك؟ والتصوف السني؟ ومن خلاله التأكيد على أن إمارة المؤمنين هي قلب المنظومة إياها؟ على مستوى الفتوى؟ كما على مستوى الاحتكام النهائي والقطعي في أمور الدين.
لائحة المراجع
- Clifford Geertz / Savoir local ؟ savoir global : les lieux du savoir / (traduit de L'anglais par Denise Paulme ) éd. PUF collec. "sociologie d'aujourd'hui" Paris (1986).
-Mohammed Tozy / L'évolution du champ religieux marocain au défi de la mondialisation/ Revue internationale de politique comparée. Volume 16 (2009)
Malika Zeghal؟ /les islamistes marocains et le défi à la monarchie/؟ Ed. le fennec )2005(
-Malika Zeghal / les islamistes marocains؟ le défi à la monarchie/ (entretien avec) in Revue électronique Sezame 16 Janvier 2007
ريمي لوفو / الإسلام والتحكم السياسي في المغرب/ "المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي" السنة IV. ع 13-14. الدار البيضاء (1991-1992).
- فرانسوا بورجا / الإسلام السياسي : صوت الجنوب / (ترجمة ذ. لورين زكي ) مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء 1994.
- محمد طوزي /الإسلام والدولة في المغرب العربي (المغرب، الجزائر ، تونس)/ ، المجلة "المغربية لعلم الاجتماع السياسي " ، السنة 4 ، عدد 13-14 الدار البيضاء (1991-1992 )
- عبد القادر باينة / الهيئات الاستشارية بالمغرب / دار النشر المغربية. الدار البيضاء (1991)
- جيل كيبل / من اجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية في الإسلام وآفاق الديمقراطية في العالم العربي/، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، أكتوبر )2000 (الرباط ،
هوامش
[1] - جيل كيبل/ من اجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية في الإسلام وآفاق الديمقراطية في العالم العربي/، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، الرباط )2000 (، ص 45
[2] - Clifford Geertz / Savoir local ؟ savoir global : les lieux du savoir / / (traduit de L'anglais par Denise Paulme ) éd. PUF collec. "sociologie d'aujourd'hui" Paris (1986). p 169.
[3] - فخلال محاكمة الدار البيضاء لسنة 1960، والتي أدت إلى منع "الحزب الشيوعي المغربي"، استند المجلس الأعلى في إصدار هذا الحكم على الحيثيات التالية:
- إن الدولة المغربية هي ملكية دينية حيث أن العاهل المغربي هو قبل كل شيء ملك وأمير المؤمنين
- إن الدولة المغربية هي دولة إسلامية ليس فقط لتطبيقها الإسلام بل لأن الإسلام يشكل مضمون وجودها.
- إن أي مس بالدين هو مس بالأمن العام .
- إن جلالة محمد الخامس كثيرا ما أصر بأن كل إيديولوجية مادية تتنافى و مبادئ الإسلام تعتبر مرفوضة.
(ريمي لوفو / الإسلام والتحكم السياسي في المغرب/ "المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي" السنة IV. ع 13-14. الدار البيضاء (1991-1992) ص 169).
[4] - يتعلق الأمر أساسا ب « أزمة القرويين» ثم « أزمة محاكمة البهائيين» :
- فالأزمة الأولى برزت عندما تم تنظيم احتفال بمناسبة الذكرى الألفية لإنشاء القرويين، من طرف مجموعة من النخب العلمانية، الشيء الذي جعل العلماء يرون في ذلك تقليصا من صلاحيتهم وانتزاعا لبعض حقوقهم. وقد عبر " عبد الله كنون " ممثل علماء المغرب عن هذا الموقف بقوله : «لقد قاطعنا الاحتفالات التي أخرت لمدة 6 أشهر، وتطلب الأمر التدخل الشخصي لمحمد الخامس، كي نقبل بالحضور فاستمعنا فقط للخطاب ثم انسحبنا».
لكن هذه الأزمة ستتعمق أكثر عندما بلورت وزارة التربية الوطنية سنة 1960 مشروعا لتوحيد نظام التعليم، من خلال إدماج التعليم الديني للقرويين والسلك الأول في التعليم العام، وإلحاق القرويين بجامعة محمد V، مع تعيين مديرا لها من خارج مجلس العلماء؛ فتمثل رد العلماء من خلال اجتماعهم بالرباط يومي 18 و 19 شتنبر 1960 لتدارس مشاكل التعليم الديني والمخاطر التي تهدده. مما أسفر عن تدخل الملك وإصدار مرسوم ينظم جامعة القرويين .
- أما الأزمة الثانية فتمثلت في محاكمة البهائيين بالناظور، والتي عكست وجود تيار علماني قوي لدى بعض المسؤولين الكبار في جهاز الدولة، ولد بالمقابل جبهة دينية تزعمها "علال الفاسي " وزير الأوقاف حينها. مما أدى كذلك إلى تدخل الملك لترجيح كفة التيار الديني على حساب التيار العلماني، رغم تعاطفه مع "أحمد رضا اكديرة" الذي تزعم هذا التيار.
( محمد طوزي / الإسلام والدولة في المغرب العربي (المغرب، الجزائر ، تونس)/ ، المجلة "المغربية لعلم الاجتماع السياسي " ، السنة 4 ، عدد 13-14 الدار البيضاء (1991-1992 ) ص 29).
[5] - فرانسوا بورجا / الإسلام السياسي : صوت الجنوب / (ترجمة ذ. لورين زكي ) مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء 1994 ص 311.
[6] - نفس المرجع، ص 312.
[7] - محمد طوزي / الإسلام والدولة في المغرب العربي .../ م س ص 34.
[8] - نفس المرجع، ص 34.
[9] - نفس المرجع، ص 33-34.
[10] - فرانسوا بورجا / الإسلام السياسي: صوت الجنوب/ م س ص 313.
[11] - ظهير 2 أكتوبر 1984.
[12] - محمد طوزي / الإسلام والدول في المغرب العربي ../ م س ص 46.
[13] - ظهير رقم 270-80-1 بتاريخ 8 أبريل 1981. (ج .ر .ع 3575. بتاريخ 6 ماي 1981) ص 543-544.
[14] - عبد القادر باينة / الهيئات الاستشارية بالمغرب / دار النشر المغربية. الدار البيضاء (1991) ص 35.
[15] أما المجالس العلمية الإقليمية فتتحدد مهامها حسب (الفصل 8) من نفس الظهير في :
- إحياء كراسي الوعظ والإرشاد والتثقيف الشعبي بالمساجد والسهر على سيرها.
- توعية الفئات الشعبية بمقومات الأمة الروحية والأخلاقية والتاريخية، وذلك بتنظيم محاضرات وندوات ولقاءات تربوية.
- الإسهام في الإبقاء على وحدة البلاد في العقيدة والمذهب في إطار التمسك بكتاب الله وسنة رسوله.
- العمل على تنفيذ توجيهات المجلس العلمي الأعلى.
[16] - Mohammed Tozy / L'évolution du champ religieux marocain au défi de la mondialisation/ Revue internationale de politique comparée. Volume 16 (2009) p 63
Voir aussi :
-Malika Zeghal / Les islamistes marocains؟ le défi à la monarchie (entretien avec) in Revue électronique Sezame(Chicago) 16 Janvier 2007
[17]- Malika Zeghal؟ les islamistes marocains et le défi à la monarchie؟ Ed. le fennec 2005؟ p:7
*أستاذ باحث بجامع القاضي عياض-مراكش وعضو رابطة الكفاءات من اجل التنمية بالصويرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.