تقوم النخبة السياسية في المجتمعات المتقدمة بعدة أدوار وتتخذ مجموعة من المواقف تهدف من خلالها إلى تخليق الحياة السياسية والنأي بها عن العبث واللامعقول، ولا تتحمل النخبة السياسية هذه المسؤولية إلا لأنها تعد نفسها القاطرة الأساس التي تقود المجتمع نحو التقدم والرقي والتنمية، وهو الأمر الذي نعدمه في مجتمعاتنا الثالثية حيث للنخبة السياسية دور محوري في شد المجتمع نحو الخلف لما تتميز به من سلوكيات منحطة ومنظومة قيم متردية مثل تقديم المصالح الشخصية والعائلية على المصالح العامة وغيرها، ولعل سلوكيات النخبة السياسية المغربية لا تشذ عن النمط الأخير، وهي التي تعيث فسادا في العمل السياسي وتعمل على تشويهه وتنأى به عن المنطق والمعقولية، ومن تمظهرات هذا التخريب السياسي صباغة مجموعة من الأشخاص بألوان حزبية هي منهم براء بغية تعيينهم في مناصب وزارية (نوال المتوكل / أمينة بنخضرا ...) أو تعيين مجموعة من الوزراء والمسؤولين بناء على دعم أشخاص نافذين في هرم الدولة (ثريا جبران اقريطيف / إدريس لشكر ...)، وقد عملنا على رصد بعض مظاهر وتجليات ما أطلقنا عليه "البؤس السياسي" من خلال مواقف وممارسات وزيري التربية الوطنية في حكومة الأستاذ عباس الفاسي باعتبارها عينة يقاس عليها غيرها مما لم يذكر من الوزراء المغاربة في الحكومات المتعاقبة. وأول ما نتوقف عنده في هذه الحالة أن المنطق السديد يقضي بأن يكون القطاع الحكومي الذي يسيره وزيران اثنان أقل القطاعات مشاكلا، نظرا لتلاقح أفكارهما وتظافر جهودهما، لكن الواقع الحالي للقطاع يعكس نقيض ذلك، فالقطاع التعليمي يغلي غلي المرجل، وهو أكثر القطاعات اضطرابات ومشاكل، وكل فئاته تشتكي وضعها وترثي حالها، وأصبحت بوابة الوزارة بباب الرواح بالرباط مقصدا للمحتجين من كل حدب وصوب، ولم نعد نسمع بالإضرابات الإقليمية والجهوية والوطنية، بل تطور الأمر واستفحل في عهدهما إلى الإضرابات والاعتصامات المفتوحة، ويزيد الأمر سوءا أن الوزيرين لم يعمدا قط إلى المقاربة التربوية لمشاكل القطاع بقدر ما عمدا إلى المقاربة الأمنية، وبدل أن يحظى مقر وزارة "التربية" بحظ وافر من الجمالية أضحى شبيها بثكنة عسكرية نظرا لفيالق القوات العمومية التي تملأ ساحاته وبواباته طيلة اليوم. ومن مظاهر البؤس السياسي عند الوزيرين أنهما يكثران من الحديث عن المقاربة التشاركية، لكنهما لا ينزلانها على أرض الواقع إلا عند الاقتضاء، وأوضح دليل على ذلك إقدامهما على تنزيل البرنامج الاستعجالي بطريقة أحادية دون توافق أو تنسيق مع الشركاء الاجتماعيين، وسبب هذا الإقصاء سياسي بدرجة أولى، وذلك أن كاتبة الدولة غير منتمية إلى أية هيأة سياسية، وبالتالي فهي تشتغل كما تريد وتشتهي دون أن تنتظرها أية محاسبة انتخابية تخشى الوقوع في شراكها، أما الوزير فيستمد قوته من الرجل القوي في مغرب ما قبل 20 فبراير، لذا فهو لا يعبأ بأحد ولا يخشى أية محاسبة مادام أنه يحظى بمثل هذا الدعم. وقد يقول بعض المنافحين عن الوزيرين أنهما ينفتحان على الفرقاء الاجتماعيين قصد إشراكهم في حل مجموعة من القضايا، وهذا ما لا ننكره، إلا أن الإنصاف يقتضي منا أن نقر بانفتاحهما عند الضرورة والاقتضاء فقط، أما الأصل عندهما فهو الأحادية في التسيير وعدم الانفتاح، وأسوق دليلين يجليان ما سبق تقريره : أولا : إقدامهما بطريقة انفرادية على اقتطاع جزء غير يسير من أجور الشغيلة التعليمية بجهة سوس ماسة درعة، مما حدا بالقواعد إلى تصعيد وتيرة الاحتجاجات ليصل الاحتقان ذروته في كل مناطق الجهة، آنئذ - وليس من قبل - علم الوزيران أن هناك شركاء نقابيين يمكن الاستعانة بهم في حل المشكل. ثانيا : اعتصم الدكاترة العاملون بالقطاع المدرسي أمام بوابة الوزارة لما يناهز الشهر، ولم تجلس معهم الوزارة على طاولة حوار جدي ومسؤول رغم التغطية النقابية لهذا الشكل النضالي، ولم يرف لها جفن لأكثر من 140 ألف تلميذ ضحية، وانضافت إليهم مجموعة من الفئات المصطلية بنار التدبير السيء للقطاع، ولما سئم المعتصمون من صمم الوزارة اقتحموا مقر الوزارة لأكثر من أربع ساعات، هنا بالذات حين أجبرت الوزارة على الحوار ولم يبق لها بد منه استدعى كبار مسؤوليها الفرقاء النقابيين قصد الحوار في منتصف الليل ! ومن تجليات البؤس السياسي عند وزيرينا أن الأستاذة العابدة غير منتمية إلى أي تنظيم سياسي، وهذا ما يتعارض مع الإرادة الملكية المعبر عنها أخيرا في خطاب 9 مارس الذي شدد على ضرورة انبثاق الحكومة وأعضائها من صناديق الاقتراع، ولو كان عندها حس ولباقة سياسية لعبرت عن حسن نيتها تجاه الحراك السياسي في البلاد ولقدمت استقالتها من الحكومة خصوصا أن استقالتها لن تعرقل العمل الحكومي على اعتبار وجود من يعوضها، بل تستبطن عدة إيجابيات منها أنها تساهم في ترشيد النفقات وتقلل من سمنة الجسم الحكومي وتكسبه رشاقة أكثر. أما حالة الأستاذ اخشيشن فعصية على الفهم وعسيرة على الإدراك، لأنه تقلد منصبه الوزاري بصفته مستقلا عن التنظيمات السياسية، وبعد ذلك أسس بمعية بعض الرفاق حزبا سياسيا، ثم تخندق حزبه في صفوف المعارضة ومع ذلك استمر في تسيير الشأن العام، وخرجت علينا قيادة الحزب بتخريجة غريبة تسوغ بقاءه في منصبه الحكومي، وهي أنه عضو في حكومة جلالة الملك، ولا يهم آنئذ هل هو في المعارضة أم في الموالاة، ثم قيل بتجميد عضويته في الحزب، ليظهر بعد ذلك في الصفوف الأمامية لبعض أنشطة حزبه، ولعمري ما بعد هذه البلطجة السياسية بلطجة، لذلك انتشرت الجماهير المغربية في الشوارع العامة مطالبة برحيل رموز هذه البلطجة على جميع المستويات، ولم يشذ رجال التعليم عن هذا المطلب، فتوحدوا – وهم المختلفون في كثير من القضايا والشعارات – على شعار واحد : "اخشيشن .. ارحل .. ارحل" فهل يسمع الرجل ؟ لعل ذلك يكون قريبا.