مرّةً أخرى أبانَ الشّعبُ المغربي عن وَطنيّتِه المعْهُودة.. حوالي ثلاثة ملايين مُواطن، نساء ورجالا، شبابا وكهولا، شاركوا في مسيرةِ الرّباط حول الصّحراء.. مسيرةٌ ناجحةٌ بكُلّ المقاييس.. صَدَحَتْ بالصّوتِ العالي أنّ الصّحراءَ مغربية، وألاّ مُساومة في قضيّة الصحراء.. وعلينا الآن أن نُعيد قراءةَ المسيرة الوطنية، ونُجيبَ معًا عنْ تساؤلٍ واحد: من المستفيد؟ الوطن، هذا مُؤكد.. الشّعب، هذا أيضًا مُؤكّد.. ومع ذلك، تعالوا نتأمّل من زاويةٍ أخرى: أليس هناك مُستفيدُون وهُم مُجرّدُ مُتفرّجين؟ هؤلاء مثل الموظّفين الأشباح، يتلقّون رَواتبَ دُون أنْ يشتغلُوا.. يدخلُون في خانة الرّيع.. والرّيعيُّون هم من يعيشونَ على ظهر غيرهم.. وهذا يُشْبِهُ الطُّفيْليّات التي لا تبذلُ أيَّ مجهود، ولا تُنتِج، ولا تعمل، هي فقط موجودة، تنتعشُ من ظهرِ غيرِها.. والسؤال: ألم تكُن خلفَ مسيرةِ الرباط عناصرُ لم تُشارك، وحتى إذا شاركتْ فشكليًّا فقط، وهي مُستفيدةٌ أكثرَ حتى من الشعبِ نفسِه؟ ولْنَقُلْ: هي الحكومةُ وتوابعُها.. لماذا الحكومة؟ لأنّ نُجوميّتَها فقدتْ بريقَها السابق، بسببِ الاحتجاجاتِ الشعبيةِ الكثيرة، ضدّ استغلالِ الدّين لتخديرِ الناس في حقوقِ الناس.. وبَلغَ الأمرُ درجةَ كوْنِ رئيسِ الحُكومةِ نفسِه عادَ من مدينةِ «وجدة» مَطرُودًا بصُراخاتِ الأساتذة المتدرّبين.. نفسُ الصّراخات طَردت بعدهُ وزيرًا من حُكومتِه.. وهذه ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها في تاريخ الحُكوماتِ المغربية.. الحكومةُ كانت أحوجَ ما تكون إلى «طوقِ نجاة».. وفي البرلمان وقع الاتفاق.. اتفقت الأحزابُ على تنظيم مسيرةٍ شعبية حاشدة بالرباط، في اليوم الوطني للمجتمع المدني (13 مارس)، لتأكيد مغربيةِ الصحراء، ضدّ التصريحاتِ المنزلقة للأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» الذي وصفَ التواجُدَ المغربي في الصحراء ب«الاحتلال».. ها هي فُرصةٌ إنقاذيةٌ تأتي إلى الحكومة.. فُرصةٌ تلميعيةٌ جاءتها من «بان كي مون».. والبرلمانُ «يتحرّك»، والأحزابُ تستيقظُ من حالةِ الشّلَل.. ووجوهٌ تُلقِي بتصريحاتٍ تفيدُ أنّ المسؤولَ هو الآخر.. ها هُم مسؤولون سياسيون يتملّصُون من المسؤولية، ويُحوّلُون قضيّةَ الصحراء إلى شمّاعة يضعُون عليها «بان كي مون».. هو أعطاهُم الفُرصةَ لتبريرِ فَشلِهم الدّبلوماسي.. لم يضبطْ لسانَه، فوَقعَ في الفخّ! وهذا يُذكّرُنا بالفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر» الذي ألّفَ كتابا حول إلقاءِ المسؤولية إلى الغير، بعنوان «الجحيمُ هم الآخرون».. وعلى هذه الفكرة تنبني فلسفةُ الوُجودية، وهي تَعْتبرُ أن الآخرَ ضروريٌّ لوجودِ كلّ واحدٍ منّا.. وقد اعتادَ كثيرُون منّا اعتبارَ أنّ الآخر هو المسؤولُ عمّا يقعُ لنا من متاعبَ ومشاكلَ وصعُوباتٍ وغيرِها... وبعده جاءَ المفكرُ الأمريكي «نعوم تشومسكي» فاعتبرَ أن حُكوماتٍ تجنحُ هي الأخرى إلى الغيْر، وتتّهمُهُ بكوْنِه المسؤولَ عما يَلحقُ البلدَ من تقَهقُر ومشاكل.. وهذا الآخرُ تستخدمُه حُكومتُنا لتبريرِ عقْليتِها اللامسؤولة.. والآخرُ قد يكونُ في الداخل، وقد يكونُ في الخارج.. وهذه الطريقةُ في إلقاء المسؤوليةِ على الغير، هي طريقةٌ إلهائية.. تهدفُ لإلهائِنا نحنُ المواطنين عن مَشاكلنا الحقيقية، وهي الحقوقُ الاجتماعية التي تَغْلي شوارعُنا بشأنِها.. أحزابُ الحكومة، والأحزابُ الموجودة خارج الحكومة، هي في مُجملِها أحزابٌ عقيمةُ الفكر.. لا تُنتجُ أفكارا بنّاءة.. كلُّ ما تستطيعُ هو اللعبُ على أوتارِ الوطن، ومنهُ قضيةُ الصحراء، والدّين، والأخلاقِ العامّة! أحزابٌ في مُجملِها فاسدة، تضُرُّ أكثرَ ممّا تنفع.. تتَمَسْرَحُ علينا.. تُلْهينا.. تُضلّلُنا.. تتآمرُ علينا.. لا يُمكنُ الاعتمادُ عليها.. في قضايا الداخل والخارج! تدُورُ حول نفسِها في حلقةٍ قديمة لا تُجدي نفعًا لا للبلد، ولا للشعب.. هذه الجماعاتُ الحزبية، بهذه الحال، هي نفسُها بحاجة إلى عمليةِ إنقاذ.. ها هي الحكومةُ تطلبُ إنقاذا، والأحزابُ تطلبُ إنقاذا.. ويستنجدُ غريقٌ بغريق، ونحنُ على أبوابِ الانتخابات.. وتأتي فُرصةُ «بان كي مون»، فينقضُّ عليها الطّرَفان، الحكومةُ والأحزاب، ومعهُما البرلمانُ بغُرفتيْه، وطبعًا تتحركُ السُّلُطاتُ المحلّية، والشّبكاتُ المالية، وغيرُها... ويتدخّلُ الوُلاةُ والعُمّالُ والقوادُ والمقدّمون وغيرُهم، ومعهم نقاباتٌ وجمعيات، فيمتطي أبناءُ الشعب سياراتٍ وشاحناتٍ وحافلاتٍ وقطاراتٍ وغيرَها، وتتوجهُ قوافلُ بشريةٌ من كلّ الجهاتِ إلى العاصمة الرباط، للمُشاركة في مسيرة الصحراء.. وأحزابُنا مثل حُكومتِنا تستعدُّ لانتخاباتٍ برلمانية ستَنبثقُ عنها التشكيلةُ الحكوميّةُ القادمة.. وكالعادة، «ثَعالبُ» لا يهمُّها لا وطن، ولا وطنية، ولا مُواطنين.. يهمُّها فقط أن تصلَ إلى مراكزِ القرار، لكي تُتاجرَ في الجميع.. هذا ما يهُمُّها.. ولعلّ هذه الحكومة أكبرُ مستفيدٍ من الحشدِ الجماهيري بالرباط، فمن «نادي الأحزاب» جاءت فكرةُ المسيرة، ومن «نادي الأحزاب» ستتَشكّلُ الحكومةُ القادمة.. وإذن، «مِنّا.. وإلَيْنَا!».. من النادي الحزبي تأتي مُكوّناتُ الوليمة، وفيها تُطْبَخُ الوليمة، وهي نفسُها تتقاسمُ الوليمة.. وتزدادُ انتفاخًا بالرّيع.. وما أدراكَ ما الرّيع! والأغنياءُ سيتقاسمُون الكعكةَ الكُبرى.. هم يُريدون الفُقراءَ مُحاصَرين في عالمِ الأحلام.. يحلُمون بالعدالة الاجتماعية.. يحلُمون بحُقوقِهم في ثرواتِ البلد: الفوسفاط، المعادن، وغيرِها... يحلُمون بالليل والنهار، ثم يصطدمُون بالواقع.. لا أحلامَ تتحقّق، إلا إذا كانوا بدورهم فاسدين مُفسدين.. وكَمْ مِنهُم خَرجُوا من الحضيض، وهم الآن من مالكي الثراءِ الفاحش.. هؤلاء أصبحُوا قُدوةً سلبيّةً لمجتمعٍ بحاجةٍ إلى قُدوةٍ إيجابية.. القُدوةُ السّلبيةُ هي ما أَعدّتْهُ لنا حُكومةٌ من أكْفَسِ ما خُلِق.. حكومةٌ مريضةٌ بعُقدةِ الخارج.. لا تُفكّرُ في الداخل حيثُ مُشكلَتُنا الرئيسية.. ومُشكلتُنا تتلخّصُ في الظُّلم الاجتماعي الذي تمارسُه علينا عقليّةٌ حزبيةٌ مُنحرفة.. ولا تُريدُ أن تسمع شيئا عن الديمقراطية الحقيقية.. إذا كانت عندنا ديمقراطية، وعدالة، وتعليم، وتوازُن اجتماعي في الحُقوق والواجبات، فإن كلّ صعبٍ سوف يهُون.. لكن يبدُو أنّ في نُخَبِنا السياسية من يستهويهم استغلالِ مفهُومِ الوطَنيّة! وعلينا بإصلاحِ حالةِ النُّخَب.. وعندما يُصلَحُ الدّاخلُ النُّخْبَوِي الوطني، سيَطلبُ كلُّ العالَم ودَّنَا ولن نحتاجَ «سوادَ عيُون» أيٍّ كان! ونحنُ في دارِنا.. والصحراءُ مغربية! [email protected]