إن المجتمعات العربية بسبب طبيعتها التقليدية والسماعية والشفاهية هي الأقرب إلى الخطاب الديني، وتكون الأسرع استلابا من قبل الأيديولوجيات الدينية المطروحة...(المقال) كان نظام فرعون يعتمد على السحرة في تضليل الناس تماما كاعتماد الأنظمة الإستبدادية العربية على الفقهاء والمثقفين من أجل تضليل الناس! إن أي نظام سياسي استبدادي يسعى لاختراق المجتمع بما يحفظ الإيديولوجيا - أو الأدلوجة أو الفكرانية - السائدة والتي تشكل عنصرا أساسيا من عناصر القيت الغنية بمركبات الجهل والأمية والتعليم المضروب والإعلام المسخر ونخبة انتهازية ثقافية أو سياسية ! إن التعليم والإعلام والأحزاب السياسية هي القنوات التي يتم من خلالها تمرير هذه الفكرانية الرسمية ولا مجال لمعارضة من داخل هذه القنوات في ظل الأنظمة المطلقة ، ولكن بالطبع لابد من السعي إلى خلق معارضة الواجهة والأخذ بقشرة الديمقراطية أو قل إجراءاتها دون لبها أو جوهرها. إن المثقفين والسياسيين[1] و"الفقهاء" الإنتهازيون لا يصرحون بأنهم - كما قال تقي الدين المقريزي - مع السلطان مضللين للناس ، وبأنهم في تواطؤ لخنق الشعوب وسرقتها ثم المن عليها والتفضل ببعض الفتات وجزء ضئيل من المسرات تختزل فيما يشحذ الغرائز ويعطل الملكات ويمسخ إنسانية الإنسان بل ويخرج الإنسان من الإنسان ! إن هؤلاء يعتبرون موضع استثمارات لهذه الأنظمة لأنها تعول عليهم في ترديف التناقضات وتلبيس الواضحات وإنتاج الديماغوجيات ! إنه تلبيس إبليس، وأبالسة الإنس أشد خطرا من أبالسة الجن ، لأن إبليس جاء بزي واضح ، أما هؤلاء فيأتون الناس بأزياء متلونة ، تماما كمجيء بعض الفقهاء للدنيا بزي الآخرة ! إن الإنتخابات تتحول إلى أداة لتسويق اللصوص وعصابات المافيا والإجرام ، وتتآلف الأضداد في تحالفات لتقسيم الكعكة كسايكس بيكو مصغرة ومتكررة في غفلة من الدهماء والعوام أو شئت قلت "الدبان" والجرذان ! تصبح الديمقراطية هي اللاديمقراطية حيث يعتبر الإقصاء أولى مبائها الأبجدية ، وتشرعن التعددية خصومات سياسية وإيديولوجية وتكون حرية التعبير أداة للإستفزاز والإفتتان ، ثم يدعي كل حزب أنه يمثل الشعب ويصور نفسه ضحية في مشهد الدعارة السياسية "كل حزب بما لديهم فرحون" ثم يحتال على الناس بخلطات عجيبة هجينة في مسخ بلبوس ديني أو فكري..هكذا تتوغل سياسة النظام المستبد وتهيمن على سنة فرعون وسيرته " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا " لا على محجة رسول الله الذي وإن كان سيد الناس أجمعين وأعظم عظماء التاريخ خاطبه الله قائلا " وشاروهم في الأمر" لكن فقهاء السلاطين استطاعوا أن يحتالوا باستقصاء أحاديث الطاعة مبتورة من سياقها التاريخي لتنقلب الآية وتصبح الطاعة في معصية الخالق بالنهب والسرقة وموالاة القتلة وخدمتهم ونشر الفاحشة في المؤمنين واستتباع الدين، طاعة واجبة مأجورا عليها وثباتا على الكتاب والسنة، وتحرم المعارضة رغم المعارضة ويحرم الإحتجاج السلمي ويصير خروجا حذر خير البرية منه في تجارة سافرة بالمحجة البيضاء ! وحين يدلي أحد الشرفاء برأي الدين في هدر المال العام واستقدام الشواذ لبلاد قيل عنها إنها بلاد الإسلام وحاضرته وأميرها حامي الملة والدين ، يقال من المجلس العلمي ويخرس صوته ، فلادين في السياسة حين يتعلق الأمر بفضح الظلم والدين في السياسة حين يحتاج السلاطين لإزار الدين ورداء الشرع لقمع المعارضين والتدخل في حقول الدولة حينها يذكر فقهاء الرواتب بسخط الله وعذابه الواقع على كل من يخالف الأمراء بل ويهدر دم من يقول لا للظلم ولم يرفع سلاحا أو دعا لقتال ! يستحضر منهج الجبرية ونصوص لعن الدنيا والصبر والتصوف والإنعزال في تمويه يظهر فيه الإلتباس دليلا ناصعا. إن دور النخبة السياسية والثقافية والدعوية لم يعد هو التأطير والتوجيه والتنوير والوصل بهموم الناس وتطلعاتهم عبر تماس معيشي ميداني بعيدا عن شرنقات التأمل وأبراج التفلسف ودائرة الكتب القديمة كما فعل "جون بول سارتر" مثلا حين شارك الناس مظاهراتهم ولم يكتف بالتنظيرات الغامضة ، بل إن هذا الدور آل إلى خطاب ديماغوجي وإلى التشويش والتلبيس على الناس الذين تصنفهم الطاغوتية الثقافية والدينية في دائرة الجهلاء والعوام من أجل فرض رأي المثقف أو فتوى الفقيه وعدم إبداء أي نقاش حولها لأن الأمي لا يكون من حقه حتى أن يقول أحسنت للعالم بله تصويبه كما قال بن حمزة أحد الدعاة المغاربة ! وكل رأي ضد كلام النخبة السياسية يصبح ظلامية وعدمية ورجعية ، وكل رأي ينتقد كلام الفقيه الموظف الذي يتقاضى مرتبه بالإضافة للإمتيازات والهدايا يصبح لغوا وضلالا وفتنة بل وخروجا على السلطان ، رأينا في مصر وغيرها كيف تم إسقاط الخروج بالسلاح على السلطان على احتجاجات سلمية بنظرة تبخيسية تجزيئية ، وينعت المحتجون ب "الطبالة والغياطة" عند بن كيران الذي قال بأنهم يتشبثون بالملك أكثر مما يتشبث الملك بهم ولم يسأل نفسه إن كان الملك يتشبث بهم فعلا ! هكذا يتم التلاعب بالمصطلحات في فوضى عارمة وتيه مفهومي فتان في ظل وجود مجتمعات لم توفر لها الدولة العربية أبسط حقوق المعيشة منذ الإستقلال ، بل وفرت الهراوات والرصاص على امتداد نصف قرن أو يزيد ! هكذا يتم التشويش على الناس في ظل أمية لا نظير لها حتى في أفقر دول العالم وتعليم مسبوك مفصل على مقاس النظام السياسي يخرج أفواجا استطاعوا أن يفكوا الحرف وأوهموا أنهم تخلصوا من الأهمية في ظل الثورة المعلوماتية والفيضان المعرفي ، ولم يقل لهم أحد أن الأمية تجاوزت فك الحروف إلى المعرفة والثقافة ومنهجيات عميقة ! وكيف يكتسب من خدعتهم المدارس والجامعات الخربة وأوهمتهم أنهم تعلمواالمعرفة ؟ عن طريق الوسائل الشفهية والسمعية والبصرية والإخبارية والحشوية لا عن طرائق قرائية تمعنية ونقدية ! متابعات متقطعة أو مستمرة لبرامج على قنوات دينية كافية لتكوين "فقهاء" يفتون في كل شيء ويرددون العبارة الشهيرة :"هم رجال ونحن رجال" ، ومتابعات على قناة الجزيرة أو هسبريس تكفي لتكوين متضلعين في العلوم السياسية ، وقراءة كليشيهات على الأنترنت وسماع برامج فرنسية فرنكفونية أو قراءة لترجمات عربية لفلاسفة الألمان كافية لتخريج المفكرين والفلاسفة يسارعون في سب الله ويعتزون بذلك ويفخرون ! إن تشكيل ذهنيات الناس يتم عن طريق وسائل الإعلام بشكل رئيسي (الرسمي وغير الرسمي)، ثم وسائل الخطاب الديني (المسجد، والإمام)، ثم وسائل نقل المعرفة التقليدية -تبادل وتوارث المعلومات والأفكار من المحيط العائلي أو القبلي أو الطائفي.أو يملأ شخص معين بأدبيات تنظيم أو تيار أو حزب أو طريقة يتنمي إليها بعدما كان قبل الإنتماء لايعرف عنها شيئا ! من هنا نفهم التعصب المقيت لهؤلاء المنتمين وتعاملهم مع زعماءهم كأنهم معصومون..فراغ قرائي وضعف في التكوين استغل من ماكري هذه التنظيمات والتيارات، وكلها قنوات لتصريف فكرانية النظام ! وليس هناك أي عجب مثلا في أن تلقى خطبة عن فوائد الملح في المسجد أو عن السيدا أو حتى استعمال لوسيور في الطبخ،كل شيء ممكن حتى "تشميش" خطباء المساجد ، أو أن تحذر شميشة من برنامجها من احتراق الطبخة الدستورية إن زادت الوصفات الإحتجاجية عن المقادير الممنوحة ! لاشك أن هذه الفئة - وغيرها ممن لم تتح له فرصة فك الحرف في إطار مبدأ تكافؤ الفرص - المشبعة بخطابات الإنتهازيين على أصنافهم التي أومأنا لها ستتحول إلى كتلة حاسمة وفي حالات الإستبداد أو الدمقرطة الجزئية في تحديد الخيارات الوطنية ونتائج الانتخابات ! هذه الكتلة تصبح العنوان الأكثر ارتيادا للمرشحين لأية انتخابات وإن تطلب الأمر دق الأبواب والرجاء ودفع المال، و بسبب طبيعتها التقليدية والسماعية والشفاهية التي أُشير إليها فإنها الأقرب إلى الخطاب الديني، وتكون الأسرع استلابا من قبل الأيديولوجيات الدينية المطروحة. تطرق " موريس ديزموند" في كتابه الشهير "القرد العاري" إلى سلوك القرد المغلوب إزاء القرد الغالب، فالقرد المغلوب يتخذ وضعا أنثويا تجاه القرد الغالب، كالسلوك الأنثوي للسائق أمام شرطي المرور،وكسلوك المثقفين والفقهاء أمام الملوك والرؤساء،وهو سلوك يقتضي إنتاج خطاب مناسب لرغبات هؤلاء المستبدين،وإنتاج ديماغوجيا و مصطلحات ومفاهيم وفي حالة العجر يتم الإسقاط من المأخوذ القديم أو المأخوذ الجديد الكوني ! ثم فبركة وبيع وتزييف. [email protected] http://www.anrmis.blogspot.com facebook : hafid elmeskaouy *** [1] ملاحظة : صيغة العموم لا تفيد التعميم دائما.