لا شك أن الاتفاق الذي توصل إليه الاتحاد الأوربي يوم 19 فبراير الجاري حول مطالب الوزير الأول البريطاني، دافيد كاميرون، المتعلقة، إجمالا، بمنح بريطانيا العظمى وضعية خاصة داخل الاتحاد، قد شكل انتصارا أوليا لكاميرون الذي سارع إلى الدعوة بالتصويت بنعم خلال الاستفتاء الذي سيجري يوم 23 يونيو المقبل. وبصرف النظر عن هذه النتيجة، فإن الحدث في حد ذاته يعكس، مرة أخرى، مصاعب الاتحاد الأوروبي في السير إلى الأمام. فهو يقترن، بشكل حزين، بمرور ثلاثين سنة على توقيع ما سمي بالعقد الفريد في 17 فبراير 1986، والذي كان منطلقا لمسلسل تحرير المبادلات والرساميل وإطلاق حرية التنقل، بما يعنيه ذلك من تفكيك عملي للحدود الأوربية، عبر عدة محطات بارزة أشارت لها اتفاقيات "ماستريخت"، وإقرار فضاء "شنجن". لكن اليوم، وعلى الرغم من تجاوز احتمال خروج اليونان بسبب مصاعبها الاقتصادية، وتدجين مطالب بريطانيا المهددة بالانسحاب في انتظار نتيجة الاستفتاء المقبل، فإن عمق هذه الأزمة يكمن في كون المبادئ المؤسسة للبناء الأوربي قد ازدادت هشاشة. فمنح بريطانيا وضعية خاصة، وتكريس العجز الأوروبي على مواجهة مشكلات معقدة، من قبيل مشكلة اللاجئين، مؤشرات تطرح تساؤلات مقلقة حول مآل هذا البناء الذي ظل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حلم العديد من الشخصيات الأوربية، ولكن، في الوقت نفسه، هدفا لمنتقديه الذين يتساءلون حول جدوى استمراره. فما هي المآخذ البريطانية على سير الاتحاد الأوروبي؟ وما هي العناصر الأساسية للاتفاق؟ وما الاحتمالات المطروحة على ضوء الاستفتاء المقبل؟ أي وضع خاص لبريطانيا؟ لقد ظلت بريطانيا منذ انضمامها إلى المجموعة الأوروبية متشبثة بالتمتع بوضعية خاصة تجعلها متأرجحة بين العضوية في هذا التجمع وبين المحافظة على ما يمكن من مظاهر سيادتها. فهي لم تنضم إلى منطقة اليورو، بل حافظت على عملتها الوطنية، أي الجنيه الإسترليني، كما أنها ليست عضوا في فضاء شنغن، الذي يضبط حركة التنقل في الفضاء الأوربي. أكثر من ذلك، فإن اختياراتها الخارجية في كل اللحظات المتوترة في العلاقات الدولية اتجهت أكثر نحو مساندة الولاياتالمتحدة دون الاكتراث كثيرا ببناء سياسة خارجية أوربية موحدة. وتحت ضغط المتشددين في حزب المحافظين، فقد التزم كاميرون، خلال الحملة الانتخابية لانتخابات 2013، بتنظيم استفتاء على أساس مراجعة علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. ترتبط النقط الخلافية بين بريطانيا وحلفائها الأوروبيين بمجموعة من القضايا، تتعلق بالهجرة والسيادة، وخاصة ما يتعلق بالحكامة الاقتصادية. ففي ما يتعلق بالنقطة الأولى، فقد ظل المناهضون لأوروبا يعتبرون أن بريطانيا فقدت التحكم في الهجرة بفعل القوانين الأوروبية التي، بحسب رأيهم، تمنح امتيازات خاصة للمهاجرين القادمين من الدول الأعضاء في الاتحاد، وأساسا مما يسمى بدول أوروبا الشرقية. الشيء الذي يشكل منافسة غير مشروعة مع العمالة البريطانية. وكرد فعل، يعتبرون أن الحل يكمن في الخروج من الاتحاد حتى تتمكن بريطانيا من استرداد تحكمها في حدودها، وبالتالي في سياستها المتعلقة بالهجرة. وفي هذا السياق، استطاع دافيد م كاميرون انتزاع إمكانية التقليص، بشكل تدريجي ولمدة سبع سنوات، من المساعدات التي يحصل عليها بعض المهاجرين القادمين من الاتحاد الأوروبي، والذين يمثلون نصف عدد المهاجرين القادمين إلى البلاد، كما أنه سيتم وضع نظام يسمح بمقايسة التعويضات العائلية التي يستفيد منها العمال الذين تركوا أبناءهم على المستوى المعيشي لدولة الأصل. أما في ما يخص السيادة، ينتقد المتشككون في البناء الأوروبي كون الدول فقدت سيادتها، ومن أبرز مظاهر ذلك سن التشريعات، حيث إن 70 % من التشريعات الوطنية هي من أصل أوروبي نابعة، بحسب ادعائها، عن أجهزة تفتقد الشرعية الديمقراطية، وعلى رأسها المفوضية الأوروبية. في السياق نفسه، فإن محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تتمتعان بموقع يجعل منهما محكمة للنقض قمينة بنقض أحكام المحاكم الوطنية. لذلك فقد سمح الاتفاق الذي حصل بين بريطانيا وحلفائها بإمكانية منح حق الفيتو لتجمع البرلمانات الوطنية ضد كل تشريع أوروبي. بيد أن هذا الأمر ليس من اليسر إدخاله إلى حيز التطبيق، ومن شأنه أن يمثل تراجعا في مسيرة توحيد التشريع الأوروبي والرقابة عليه. فضلا عن ذلك، لا يتردد المشككون في الترويج لكون الاتحاد الأوروبي بات يمثل فضاء غارقا في المشكلات المعقدة، كما تشهد على ذلك الأزمة التي عاشتها اليونان، وكذا استمرار نسبة البطالة المرتفعة، وعجزه عن مواجهة أزمة اللاجئين الفارين من جحيم المآسي التي تعرفها بعض الدول كما هو الأمر منذ شهور بالنسبة لتداعيات الأزمة في سوريا والعراق وليبيا. وبفعل ذلك، يردد هؤلاء كون بريطانيا تؤدي عبئا ثقيلا يتمثل في المساهمة ب 71 مليون يورو يوميا، أو ما يعادل 25 مليارا سنويا، في ميزانية الاتحاد الأوروبي دون تحقيق فوائد ملموسة من ذلك. وبفعل ذلك يعتبر المشككون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يعيد إليها سيادتها، ويوسع من هامش تحركاتها في العالم. من الواضح أن الانتقادات التي يروجها المشككون في البناء الأوروبي ليست محل إجماع. فهناك شرائح أخرى لا ترى إمكانية حماية مصالح بريطانيا إلا في إطار اتحاد أوروبي يتسم بالنجاعة وبالمرونة وبالدينامية التي تسمح بالتوفيق بين متطلبات بناء فضاء واسع، واحترام بعض مرتكزات السيادة الوطنية لكل دولة. وينخرط الوزير الأول كاميرون في هذا التصور بعد التنازلات التي حصل عليها خلال المفاوضات الأخيرة، والتي دفعته إلى الدعوة إلى التصويت على بقاء بلده في الاتحاد الأوروبي. فما هي تداعيات هذا الخيار؟ أي مآل للاستفتاء؟ لا يبدو أن مهمة الوزير الأول البريطاني ستكون يسيرة، وإن كانت غير مستحيلة. فإجمالا يوجد في وضع لا يحسد عليه، إذ عليه أن يقنع الشعب البريطاني بجدوى الاتفاق وبمسايرته لمصالح بريطانيا، وهو يقر بأن البقاء في الاتحاد يفرض إكراهات، وهو أمر سيئ، لكن مع كل ذلك، فإن الأسوأ من ذلك هو الانسحاب من هذا الفضاء. إن من شأن ذلك أن يضعف بريطانيا، وقدراتها على التأثير في مسار العالم. يساند هذا الطرح عدد من شخصيات حزب المحافظين ورجال المال والأعمال، وكذلك زعيم الحزب العمالي المنافس، ولو لاعتبارات أخرى ذات طبيعة اقتصادية اجتماعية مرتبطة بالحماية الاجتماعية التي يوفرها البناء الأوروبي للعمال والفئات المستضعفة. لكن المعركة ستكون صعبة، حيث يجد كاميرون في طريقه معارضة شرسة. فحتى داخل الحكومة لم يتم إقرار الانضباط لموقف موحد، لذلك لم يتردد بعض الوزراء في الدعوة إلى التصويت بلا على الاتفاق، وبالتالي تأييد انسحاب بريطانيا من الاتحاد. فضلا عن ذلك، فإن شخصيات بارزة في حزب المحافظين، وفي مقدمتها عمدة لندن صديق الوزير الأول، قد اختار الاصطفاف إلى جانب دعاة الخروج من الفضاء الأوروبي. من السابق لأوانه التنبؤ بمآل نتيجة الاستفتاء الذي سيجري بعد أربعة أشهر. فاستطلاعات الرأي الراهنة متضاربة، وإن كان هناك اعتقاد سائد مضمونه أن الاتجاه الداعي إلى بقاء بريطانيا في الاتحاد سينتصر، اعتبارا لحجم التداعيات المعقدة التي قد تترتب عن خيار انسحاب بريطانيا من هذا التكتل الأوروبي: فمن جهة سيشكل سابقة في مسلسل البناء الأوروبي. فمنذ انطلاقته في سنة 1957، بموجب معاهدة روما التي جمعت ستة دول فقط، فإن هذا البناء مافتئ يتوسع ليصل إلى ائتلاف 28 دولة. وما زالت دول أخرى تطرق بابه اعتبارا للامتيازات والفرص التي يوفرها، خاصة بالنسبة للدول التي لا تتوفر على كل مقومات التنمية. وعلى الرغم من الأزمات التي مر منها، والتحديات المتعددة التي واجهها، فإن الحكمة دائما تنتصر اعتبارا لروح الحوار والبحث عن الحلول الوسطى التي ميزت سلوك الفاعلين الأوروبيين. وبالتالي لم يحدث أن غادرت دولة عضو هذه السفينة الأوروبية رغم تواصل الانتقادات الموجهة خاصة لأسلوب تدبير الاتحاد من طرف أناس غير منتخبين لا يتمتعون بالشرعية الديمقراطية التي توفرها صناديق الاقتراع. من جهة أخرى، فإن هذا الانسحاب سيزيد من هشاشة البناء الأوروبي الذي أصبح معطوبا وعاجزا عن التقدم، وفي الوقت نفسه سيقوي الاتجاه المناهض له، والذي يرتفع صوته لاسيما عند الاتجاهات المتطرفة، سواء المنتمية لليمين أو اليسار، أو تلك المدافعة عن السيادة الوطنية التي لا تفوت أية فرصة لتقويضه لاعتبارات مغايرة ومتباينة تعكس المنطلقات الإيديولوجية لكل طرف. من جهة ثالثة، فإن فرضية انسحاب بريطانيا قد تقوي من الميولات الانفصالية في هذا البلد نفسه، وعبر أوروبا. ومن المعروف أن بريطانيا قد تجنبت من خلال الاستفتاء الذي جرى في اسكتلندا، احتمال انفصال هذه الأخيرة عنها. ولا شك أن انسحاب انجلترا سيعطي شحنة للداعين إلى الاستقلال، وسيزيد من ضغوطهم للانسحاب من بريطانيا. لذلك رغم أن الكل يتوقع حملة قوية بين أنصار ومناهضي البقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن هذه الاستشارة التي ستتم في 23 يونيو ليست في نهاية المطاف سوى تعبير عن صعوبة تحقيق الحلم الأوروبي بفعل عناد الواقع الذي يزداد تعقدا يوما عن آخر، والذي يدفع بعض الدول الأعضاء إلى بناء حواجز جديدة بدل الاستمرار في مسلسل الانفتاح والتسامح والقبول بتعددية واسعة.