لقد شكل جيل من النخب من مختلف أطيافه و مواقعه وانتماءاته خريطة خربة لخطاب سياسي مقتول ،لا علاقة له ببناء المجتمع المسيس ومجتمع المواطنة. ومن أهم مواصفات هذا الخطاب أنه استكاني غير نقدي،يندرج فيما يطلق عليه بالأدوات " المستسلبة للمجتمع"أو بأدوات تنميط الوعي الكلي للمجتمع. ومن الملامح الطارئة على الخطاب الاستكاني ، ذلك الكلام المتستر بحركة 20 فبراير وما نتج عنها من إصلاح دستوري وتجاوب سياسي مع مطالب الحركة . يسعى هذا الخطاب أن يعبئ من حوله كل الحجج والمقارنات ،استنادا الى حصائل ثورات بعض الدول العربية، ليؤسس حججا تبريرية منغلقة، غير نقدية، من داخل رؤية النظام السياسي للدولة. وذلك هو حال النخب الممثلة للأحزاب السياسية والنقابات ،أغلبيتها ومعارضتها، والنخب الممثلة لهيئات المجتمع المدني ولجزء كبير من النخب المثقفة والأكاديمية. لقد استطاعت هذه النخب مجتمعة، اليوم، أن تنحرف عن مضمون خطاب حركة 20 فبراير بتحويل نقاشاتها من عمق الفكرة الاستراتيجية للحركة في ارتباطها بالديمقراطية والتحديث، إلى معانقتها العمياء للأجندات السياسية للدولة وعلى رأسها أجندة النموذج السياسي المتمثل في "رجالات الثقة"، الذين لا يبرحون كرسيا في الدولة حتى يشغلون كرسيا أكثر أهمية من سابقه . وهؤلاء هم الذين يصح أن يطلق عليهم "بعقارب الساعة السياسية للدولة " التي تضبط زمانها السياسي ،بدون توفرهم على أي مشروع مجتمعي برؤية ابتكارية ترسم معالم المستقبل القادر على المنافسة. إن مركزة الخطاب السياسي من داخل الرؤية السياسية للدولة ،والذي استفحل كالعدوى لدى النخب، لم يعمل على قتل الإبداع السياسي الذي تستوجبه تغيرات العالم اليوم ، والذي يعتبر أصلا للدولة التي تروم الصعود كضرورة تاريخية ، وإنما هو الآن بصدد محو كل الملامح التي تجعل من السياسة في بلادنا، سياسة بحق . قادرة على تمنيع المجتمع من الانحراف السياسي أو الوقوع في "السكتة السياسية". لقد كان من المفترض أن يتم التفكير من داخل الأبعاد المطلبية لحركة 20فبراير، وبمسافة موضوعية عن رؤية الدولة للإصلاح السياسي، لتحصين المكتسب الديمقراطي وتجديده ، وتمثل الدستور كأداة للديمقراطية وليس هدفا في حد ذاته. إن السهو عن جدية الفعل السياسي في تفاعله التام مع انسيابية المطلب الاجتماعي ورمزياته بما يتوافق والمهام التي ينبغي أن تطلع بها النخب النيرة في الإصلاح والتغيير، جعل من الممارسة السياسية في بلادنا اليوم ليست طقوسا غنائمية فقط، وإنما قوة مؤدية ، في سياق دولي تنافسي قاهر ، الى سلبية ارتجاعية سيكون من نتائجها مجتمعا معطلا تنتفي فيه شروط الأهلية لتحصين ذاته ،والارتقاء الى المجتمعات المنتجة. وتكمن جهة العطالة فيه بالتخلي عن دوره في بناء رؤية سياسية ديمقراطية مستقلة، قادرة على خلق خطاب مواز لخطاب الدولة ،قد يلتقي معه أحيانا و قد يختلف معه أحيانا. إن النجاح في بلورة خطاب مواز لخطاب الدولة ،حسب جاك روسو، هو القوة التي بوسعها حماية حيوية فصل السلط وكبح الرغبة في تمركز السلطة لدى جهة بعينها. وذلك شرط أساسي في قياس مؤشر إقرار الديمقراطية وحرية التعبير والحق في الاختلاف. ومؤشر موضوعي معبر عن وجود أحزاب جدية ، مستقلة وقادرة على خلق الفرق السياسي. إن الخطاب الببغائي المجتر لخطاب الدولة ، واكتفاء الأحزاب السياسية بلعب دور التابع ،وقبول المشاركة السياسية بمقاسات مشروطة ،أشياء لا تعمق فشل المجتمع والنظام السياسي فقط، وإنما تؤدي الى الفشل التاريخي ذي الصلة بتقهقر الفرد والجماعات وأسلبة وعيها التاريخي الموكول اليه مهمة التغيير والبناء. قد يتم تعميق الأسلبة وإشاعتها، بالخصوص، عبر اجتهاد جيل المقلدين المهووسين بإغواءات التماهي مع السلطة وإعادة إنتاج ممارساتها، ببيع أوهام تملك السلطة نفسها أو "التمخزن" عبر المنافع التي تتيحها المواقع السامية للإدارة ،أو المواقع الانتخابية التمثيلية، أو فرصة التموقع داخل العائلات النافذة . وبذلك فإن اجترار الأحزاب السياسية لصيغة التماهي مع السلطة وإقرارها في مواقفها الفاقدة لأية إرادة نقدية ،لا تستطيع أبدا أن تكون مجالا للتأطير وبناء السياسة بدلالة الوعي النقدي والتجديدي الذي يفضي إلى الكاريزمات الجماعية القوية و يشرعن التنافس الديمقراطي والتدافع العادل نحو التناوب الموضوعي على الحكم . أفادنا تاريخ الثورات ،أن فشل المجتمع لا يكون مصدرا لقوة الدولة أبدا، وإنما سببا في ضعفها وتمكين أعدائها المتزلفين لها من الصعود السريع ،بدون التحلي بشجاعة النقد ومخاطبة عيوبها . إن هؤلاء لا يهمهم أن يكون المجتمع و الدولة قويين أو فاشلين ، همهم الوحيد هو الانتفاع المغرق في الأنانية ، لذلك تراهم يبرعون في الانتقال عبر كراسي سلطة القرار. إذا كانت حركة 20 فبراير ،حركة احتجاجية اجتماعية بمطالب سياسية ،استطاعت أن تكون نقدية وحمالة لوعي سياسي تحذيري و استشرافي ، فإن الأحزاب السياسية والنخب بأطيافها المختلفة ،أدارت ظهرها عمليا عن تمثل هذا الوعي والوفاء لفكرته ، وفضلت الإستكانة و دفء الانتظارية والانتعاش السلبي، بالانخراط غير المنتج في الرؤية السياسية للدولة. * كاتب وباحث