إن الانتفاضات الشعبية و حركات العصيان المدني التي قامت بها عدد من الشعوب في العالم العربي، جاءت كرد فعل في مواجهة الظروف غير المستقرة الناتجة عن التحولات الديموغرافية الواسعة النطاق، و الإخفاقات المتعددة في المجالات الاقتصادية، إذ بدأت حركات التغيير هذه على شكل ثورات سياسية، و سعت إلى تأسيس أنظمة سياسية جديدة، لكن دون الاعتماد على أي دور واضح للثقافة العضوية للشعوب. و هذا الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في تكريس النظام السياسي الجديد وتثبيته يعتبر محددا هاما لترسيخ التغيير، لكن يلاحظ انه تم إغفال الدلالات والمفاهيم الثقافية بشكل صارخ، سواء التقليدية منها أم الجديدة، مما أدى إلى تراجع مجموعة من المجتمعات العربية، وعودتها لاستنساخ نظام الدولة العميقة في أشكال ثقافية هجينة تتشدق بالشعارات الرنانة والخطابات الخشبية التي صمت آذان المجتمعات العربية حتى الأمس القريب. و يكمن الخطر الذي يحف بهذه التطورات السياسية المعاصرة بالعالم العربي في إمكانية تحولها إلى نماذج سياسية تستند إلى مرجعيات ومفاهيم ثقافية قديمة تعمل على ضمان استمرارية بنيات الدولة العميقة، لأنها لا تستطيع التخلص من إرث الماضي، وهكذا يصبح التغيير المعاصر مؤقتا، فيعيد إنتاج أوضاع متردية قد تجر عليه سخط الجماهير التي تقبع في قاع المجتمع. ومن الآن فصاعدا، لزم علينا أن نعتبر أن الوعي الثقافي، و في أحسن الأحوال ، الابتكار، عاملان مجددان يجب الاعتماد عليهما باعتبارهما قاطرة القيادة التي تتمركز في مقدمة التغيير، وإذا لم نتمكن من بناء جسور تلملم الفجوات والتصدعات التي طالت المؤسسات السياسية والاقتصادية المعاصرة بسبب إهمال النهوض بالأشكال الثقافية المواكبة للتغيير، سيحدق الخطر بنا لا محالة، فتمسي هذه المؤسسات معزولة عن شعوبها، وغير قادرة على تمثيلها وتلبية مطالبها. ويلاحظ أن واقع حال الأغلبية الصامتة في الشعوب العربية التي شهدت مخاضا سياسيا، ينبئ أنها لم تستطع التأقلم مع الوافد الجديد، بسبب عدم تدريبها وتطبعها الثقافي على هذا النوع الجديد من الممارسة السياسية. و في هذا السياق، تظهر احتمالات شتى من أبرزها انزلاق هذه الإمكانات الجديدة في المسارات القديمة التي تحكمها ذهنية ثقافية مؤسسة على القبلية و الانقسامية و اصطياد الغنائم، وهذه الظواهر الأخيرة كلها موروثات عقائدية عن ثقافة دولة الريع، و هي تتجسد في تهافت النخب العربية الحاكمة وبطانتها على حصد رأسمال اجتماعي كبير، و بناء إمبراطورية من العلاقات النافذة، تتسم أحيانا بالفساد و النهب والاستغلال. إذن، ما هي الموارد الثقافية القديمة والجديدة التي يمكن استعمالها بصفتها محولات حقيقية نحو أخلاقيات ديمقراطية، والتي يمكن استبطانها بطريقة سلسة من طرف الطبقات الدنيا للشعب أو أهل القاع؟ هل هناك مجال لمحول ثقافي في المستويات الصغرى يكون فاعلا من خلال الوعي الثقافي و الوعي بالذات، و يمكن توجيهه نحو تلبية المطالب السياسية للشعوب؟ إذا نظرنا إلى المغرب، نجد أن النخب المهيمنة على السلطة تعمل بشكل جد مرتجل على ترقيع الأوضاع السياسية والاقتصادية، و "تسليكها" بشكل يومي تفاديا لاشتعال أي حراك شعبي. وانطلاقا من مبدأ "خلي الوقت هانيا"، تبذل هذه النخب كل ما في وسعها لضمان استمرارية القبول الشعبي بالحكم السلطوي، وتعمل على إعادة إنتاج الأشكال الثقافية الموروثة المتجسدة في القيام بالأعمال الخيرية لفائدة أهل القاع، والتركيز على حماية أمن المجتمع وسلمه. و خلال البحث الميداني الذي أجريناه حول احتجاجات حركة 20 فبراير بمدينة الجديدة خلال سنة 2011 (راجع معروف وويليس 2015)، قدم لنا معظم المستجوبين تصريحات مفادها أنهم ليسوا مستعدين للتضحية بأرواحهم، أو اللجوء إلى العنف لتحقيق تغيير سياسي في المغرب، حيث صرح أغلبهم أنهم أفضل حالا من المصريين الذين يضطرون إلى الوقوف في طوابير من اجل الحصول على الخبز و الدجاج، وذلك تبعا لما صورته لهم وسائل الإعلام من تجويع نظام حسني مبارك لشعبه. و من بين التصريحات المتكررة التي سمعناها : " الحمد لله! الخير موجود"، فحتى العاطلين عن العمل، أصبح بإمكانهم في الوقت الراهن القيام ببعض الخدمات في إطار التدبير اليومي للحياة (يدبر) للحصول على دخل يومي يقارب 100 درهم. ويضاف إلى هذا نماذج التغيير السياسي الفاشل بعدد من الدول العربية، مثل ليبيا، و سوريا، و اليمن، التي أضحت باعث خوف كبير بالنسبة لهم؛ فما يسعى إليه المبحوثون هو أن تسير حياتهم اليومية بطريقة سلسة، وبدون مشاكل، و تظل الصحة رأسمالا مهما في تصورهم، خاصة وأن معظمهم يكد يوميا ويصارع من اجل البقاء. إن سيناريو الحروب الأهلية التي تدور رحاها في بعض البلدان التي شملها الربيع العربي تمنع الناس من الانخراط في احتجاجات عنيفة ضد النظام، ويضاف إلى ذلك الأمل الكبير في أن يقوم الملك بمبادرة يرجى منها ترميم الوضعية الاقتصادية، ورفع الفقر عن أهل القاع. لحد الآن، لا توجد إشارات اثنوغرافية تبين ما إذا كان المغاربة مستعدين للمجازفة بمواجهة، قد تكون دموية، مع النظام، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الملكية توجد الآن داخل المعادلة السياسية، و تصر على قيادة التغيير السياسي. يتمتع الملك برأسمال ديني و اجتماعي و اقتصادي و رمزي هائل، وهو مدعوم من طرف جهاز دعائي يلمع صورته ويعزز هيبته في المجال العمومي، كما أن الطقوس الرمزية التي يقيمها الملك تسهم في دعم شرعية وضعه السياسي بصفته زعيما للأمة. تعزز التغطية الإعلامية والبث المستمر لأنشطة الملك و مشاريعه التنموية مكانته بين جماهير الشعب؛ إذ يعتبر الملك بالنسبة لأهل القاع، إن لم نقل بالنسبة لجميع المغاربة، الرمز الموحد للأمة، والمؤسسة الدؤوبة على خدمة رعاياها، و على الرغم من كل زخارف السلطة التقليدية التي تحيط بالملك، تظهر في الساحة السياسية والاقتصادية صورة ملك شاب حداثي يحمل مشعل التغيير والإصلاح، فقد وجه العديد من الرسائل إلى الداخل والخارج إبان مخاض الربيع العربي في نسخته المغربية، حيث حافظ على هدوئه، وتجاوب بذكاء مع المطلب الشعبي برفع المظالم، وذلك بتبنيه لرؤية سلمية للتغيير. و للتخفيف من حدة غضب الشباب الذين خرجوا محتجين إلى الشوارع، أعلن الملك عن إصلاحات سياسية هامة تتضمن وضع دستور جديد بسلطات أقل للملك، يوسع دائرة الحريات ويضمن حقوق المواطنة. و أبدى الملك رغبة في السماح للإسلاميين المعتدلين المتمثلين في حزب العدالة و التنمية، بالوصول إلى السلطة خلال الانتخابات التي تمت في نونبر 2011، كما لم تلجأ حكومته للتشهير بالمحتجين وتخوينهم و ممارسة القمع الممنهج العنيف عليهم، كما فعل بعض رموز الاستبداد في بلدان عربية أخرى. وبالرغم من أن شرطة مكافحة الشغب استعملت أحيانا، وبصفة انتقائية، العنف لتفريق بعض المظاهرات و التجمعات، فإننا لا يمكن أن نتحدث عن عنف الدولة في هذا الصدد، كما اصدر الملك عفوا في حق عدد كبير من المعتقلين الإسلاميين عقب التزامهم بنبذ العنف، و تعهدهم بالمشاركة في الحياة الاجتماعية بطريقة سلمية. ورغم هذا التقدم الواضح و الإصلاح التدريجي الذي أحرزه المغرب، مازال هناك شك في ما إذا كان هذا الأخير في طريقه لتحقيق ديمقراطية حقيقية بمؤسسات قوية، يمكن للجماهير أن تثق فيها عوض رفع مظالمها في كل مرة إلى الملك؛ فلحد الآن مازال المواطن العادي يعتبر الملك مسؤولا عن بناء طريق، أو مستشفى أو مدرسة في مدينته أو قريته، الأمر الذي يظهر أن الملك هو الشخص الوحيد الجدير بالثقة، وهو المؤسسة الفاعلة في البلد، في حين أن التقدم و الاستقرار الذي ننشده مستقبلا، يرتبط بترسيخ مؤسسات فعالة قوية شفافة و ذات تمثيلية، وينبغي أن يتم ذلك بالموازاة مع التطور الثقافي، و خلق فرص عمل حقيقية لجحافل العاطلين. يحتفظ لنا التاريخ ببعض الدروس التي يمكن أن نسترشد بها، فتاريخ المغرب شهد ثورة الخبز–( كوميرا) في الثمانينيات باعتبارها حالة دالة في الموضوع، تبين أن أعمال الشغب التي تحدث عقب الأزمات الاقتصادية، يمكن أن تنفلت وأن تخرج عن نطاق السيطرة، بل وربما، تتحول في ظروف خاصة، إلى ثورات شعبية. و نحن الآن في ظروف خاصة، و علينا أن نكون في حالة تأهب، وأن نتحلى باليقظة تجاه التغير الثقافي، و التغيرات الصغرى في القاعدة الاجتماعية، هذه التغيرات التي يمكن أن تكون حاسمة في تطور سير الأحداث؛ فبدون استثمار في الرأسمال الثقافي المحلي، وبدون إصلاحات اقتصادية ملموسة، يمكن أن تتحول الاحتجاجات الداخلية إلى حالة من اليأس المؤدي إلى شبح عدم الاستقرار والاصطدامات العنيفة في المستقبل. في الوقت الراهن، يمكن لإستراتيجية الاحتواء و الترقيع و "التسليك" اليومي و تلطيف الأجواء التي تمارسها الدولة أن تربح بعض الوقت، لكن مع احتمال حدوث عواقب وخيمة على المدى البعيد، خاصة إذا تمكنت عملية الصحوة التي بدأت ولا زالت مستمرة، بغض النظر عن كيفية إبلاغها، من أن تصل إلى أهل القاع، وتنتشر بين الجماهير الرابضة في أسفل الهرم الاجتماعي. إن الأنظمة السياسية التي تؤسس على مقاربات أمنية تفتقر إلى التعددية في الرؤى آيلة للزوال، كما أن الأنظمة التي تؤسس على إيديولوجية الهيمنة المستبطنة من طرف الجماهير يمكنها البقاء إلى أن تكافحها إيديولوجيات مناهضة للهيمنة وتقلبها، و بناء هذه الإيديولوجيات المناهضة للهيمنة قد يكون في طور التكوين ببلد كالمغرب يعاني من هشاشة اقتصادية، وتمزقه صراعات فئوية بذهنية غنائمية (ديل مالين الشكارة) في مجالات سياسية واقتصادية متعددة، نظرا لغياب شبه تام لبورجوازية مواطنة تستطيع خلق توازنات اقتصادية واجتماعية، وتصبح بذلك قاطرة تقود التغيير. إن المطالب السياسية واضحة، وهي: الإشراك السياسي، و بناء الديمقراطية و المجتمع المدني على أرض الواقع، و بناء نظام عدالة و نظام أمن مسؤولين و شفافين، و تأمين نمو اقتصادي مستقر مؤسس على الإنتاج، و كسب ثقة الشعب بخلق مؤسسات تمثيلية قوية تضمن حرية تعبير حقيقية، و مشاركة فاعلة في العملية المؤسساتية و صنع القرار، ورسم خطوات حقيقية نحو الحماية الاجتماعية و الضمان الاجتماعي، و تعليم الطبقات الدنيا، و احترام سيادة القانون. لا أحد ينكر الإصلاحات الاقتصادية التي قامت بها الدولة لحد الآن، لكنها تبدو محدودة بطيئة ومتدرجة، بحجة درء مخاطر التحولات السريعة، والإقلاع غير المدروس، ولهذا لم تصل بعد إلى القضايا الجوهرية.مازال المغاربة يطالبون بإصلاحات عميقة، لكن لن ينجح أي إصلاح بنيوي مهم دون الإرادة والتصميم الجماعيين لبناء سياسة متفاعلة مع المكون الثقافي، و مع التعبئة الجماهيرية التي تعطي الأهمية للثقافة من أجل المواطنة، ومع البناء على أسس تقاليد ثقافية لإدراك عمق التغيير و دلالته . و لدعم تيارات التغيير وتقويتها، يجب أن ترتبط الخطابات حول المواطنة و الديمقراطية و حقوق الإنسان بالممارسات الثقافية الملموسة، وبالدلالة الثقافية المحلية، حتى تلقن المواطنة في السياقات الشعبية للحياة اليومية، و تصبح واضحة في أذهان الناس العاديين، بوصفها مواطنة ثقافية مألوفة، الأمر الذي يقوي الأشكال الثقافية التحت-فوقية، و يدفع المواطنين العاديين إلى نقد الذات و التنمية الذاتية لنماذجهم الثقافية الخاصة؛ ذلك أن فهم التحول الثقافي، و تطوير المحولات و الفاعلين من اجل بناء محولات ثقافية مكروية صغرى، هما المكونان الأساسيان للصراع المضاد للهيمنة في مغرب اليوم. - أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة ترجمة د. محمد مفضل، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة