يقول المثل الشعبي التونسي "هاذي نحكيها لحفّار قبري" ويستعمل للتعبير عن الاستغراب من موضوع ما، لدرجة عدم التصديق، بمعنى أنه من المستحيل أن أصدق ذلك، كما أنه من المستحيل أن أتقابل مع من سيحفر قبري، لكن الاستثناء في المثل والعادة فرضه سكان مدينة تستور، من محافظة باجة بالشمال الغربي لتونس، لكونهم يحفرون قبورهم قبل مماتهم. "ساحة النّارنج" أو"ساحة برتقال إشبيليا"، وهو برتقال بمذاق مرّ، تعتبر القلب النّابض لمدينة "تستور" منذ تأسيسها خلال وصول المُورسكيين،قادمين من الأندلس، ممن اختاروا هذه السّاحة لتنظيم "مصارعة الثيران"، وتحوّلت اليوم إلى ساحة يطيب فيها الجلوس والولوج إلى الحضارة الأندلسيّة، فمنها يبدأ سوق المدينة العتيق، كما تحيط بها أهمّ المعالم كالجامع الكبير بساعته ذات الدوران المعاكس، والمقبرة القديمة التي تتميّز بقبورها الخاوية. في السّاحة المذكورة يجلس يوميا رشيد السّوسي (67عاما) رئيس جمعيّة صيانة مدينة تستور؛ حيث يتصدّر المشهد اليومي بين أبناء الجهة للحديث عن تاريخ "تكلّا"، وهو الاسم الروّماني للمدينة، محمّلا بمخطوطات وكتب يستدلّ بها ويستند اليها بين الحين والآخر. من السّاحة ومن تحت أشجار النّارنج يراقب رشيد الحركة التي تكاد تكون يوميّة بمقبرة المدينة. وعن سرّ هذه الحركة يقول السوسيّ، مشيرا إلى الحيّ الذي يسكن به، "هناك منزلي وهنا مَنزُولي"، مشيرا إلى المقبرة .. و"المنزول" عبارة عن قبر فارغ. ويضيف: "نحن الوحيدون الذين نختار أماكن قبورنا، ونعلم أين سندفن، ونحن بهذه العادة نعبّر عن استعدادنا للموت في أيّ وقت، فهذا المنزول يذكّرني دائما بالآخرة، وبأن أعمل صالحا لملاقاة ربّي". هي عادة أندلسيّة نبعت من التعاليم الإسلامية، جعلت من "المنزول" صلة بين الحياة الدنيا والآخرة، وهي عادة ظهرت مع وصول الموريسكيين إلى تستور، وانتشرت اليوم بين جميع سكّانها، بجميع أصولهم ودون استثناء، هكذا قال السوسي قبل أن يزيد: "هذه العادة انتشرت بين جميع السكّان، فامتزجت عاداتهم وثقافاتهم مكوّنة مزيجا مجتمعيّا أضاف لتستور ميزة ديمغرافيّة انفردت بها عن مثيلاتها من المدن". عن منشأ هذه العادة يقول السوسي، حسب ما تواتر إليه من حكايات، إنّ عددا من النّساء اللّواتي نُكّل بأزواجهن وبأبنائهن، غداة سقوط مملكة غرناطة سنة 1492، توفّين قهرا وظللن أيّاما دون دفن، فظهرت هذه العادة بين من بقي على قيد الحياة، كما أنّ الإسلام يدعو إلى إكرام الميّت والإسراع بدفنه، وهذا دافع عقائدي آخر لظهور هذه العادة، حتّى إذا مات أحدهم يكون قبره جاهزا لدفنه، ويكفي إزالة طبقة التراب والاسمنت التي تغطّيه لفتح "المنزُول". سبب آخر، يربطه المتحدث بالظروف المناخيّة وخاصّة خلال فصل الشتاء، إذ يتطلّب حفر القبور وقتا طويلا ومن هذا المنطلق فالمنزول يمثّل الحل الأنسب عندما تسوء الأحوال الجويّة. أستاذ الحضارة والتاريخ زهيّر بن يوسف، نفى وجود نصوص تاريخيّة حول ظهور المنزول، مشيرا في كلامه إلى عدّة تأويلات تتصدّرها دوافع عقائديّة منها الاستعداد الدّائم للموت. وأضاف بن يوسف أنّ هذه العادة ظهرت في بعض المدن الأندلسيّة، منها طبربة وسليمان، إلاّ أن هذه العادة أخذت طريقها نحو الاندثار على عكس مدينة تستور التي احتفظت بها. في المقبرة تواجد عبد العزيز الهمّامي (62عاما)، وهو "حفّار قبور"، يمارس هذه المهنة منذ 14 عامًا، حفر خلالها ما يزيد عن ألف قبر، لم يبق منها اليوم سوى 350 منزولا، منها 50 خصّصها ميسورو الحال للفقراء والمحتاجين، الذين يعجزون عن توفير تكاليف بناء المنزول، والتي يقدّرها عبد العزيز بنحو250 دينار، أي حوالي 1200 من الدارهم المغربيّة. لبناء المنزول الذي يستغرق يومين، يستعمل "الحفّار" ثمانين آجرّة وأربعة أكياس من الاسمنت، وكيسًا من الجبس، إضافة الى كمية من الرّمل، ويصل عمقه إلى متر واحد، أمّا طوله فيقدّر بمترين، في حين يبلغ عرضه 50 سنتمترا، وهي مقاسات تعتمد مع جميع النّاس، مهما كانت أحجامهم أو أجناسهم. يتكوّن المنزول، وفقا لكلام الهمامي، من جزأين اثنين، هما الحوض، أو الجزء الأسفل الذي يدفن فيه الميّت، ويعتلي الحوض جانبان أكثر اتّساع منه، الجانب الأيمن ويبلغ عرضه 35 سنتمترا، ويوضع عليه الجثمان لتسهيل وضعه لاحقا في القبر، والجانب الأيمن يبلغ عرضه عشرين سنتمترا، ويستغلّ الجانبان فيما بعد في وضع اللّحود عليهما. بعد الانتهاء من بناء المنزُول تفرش أرضيته بالرّمل وتوضع اللّحود على شكل هرم، ثمّ تغطّى بطبقة من التراب، وأخرى من الاسمنت الهشّ، حتى يسهل فتحه عند الحاجة، وفي النّهاية يوضع "الشاهد" لمعرفة صاحب المدفن. * وكالة أنباء الأناضول