لا خلاف حول "الفتنة" ! لفظ وقعه بغيض منفر مدان مدفوع مخلوع، هكذا في الذاكرة والوعي الإسلاميين، وهكذا هو حكم مسماه في نصوص الشريعة: لا يطلب ولا يسعى إليه، وتجتنب أسبابه ويستعاذ منه، وإن حصل يسأل معه الثبات ويستعان عليه بالصبر والاستمساك بالوحي... لكن التوظيف الخبيث لمشتركات الوعي الإسلامي، ذات الحمولة الإيجابية أو السلبية، والقوة الانجدابية أو التنفيرية، في سياسة العامة وتوجيهها، يقتضي عند الذين يتولون كبره تمييع المدلول، واستعمال الدالِّ بعد فصله بحمولته الآنفة الذكر عن مدلوله، ثم تحويله إلى مجرد ملصق منقول قابل للإلصاق على أي شيء لإحداث الأثر المطلوب، ترهيبا أو ترغيبا، جدبا أو تنفيرا، و ذلك تمهيدا و تبريرا لإجراء قابل: سلما أو حربا، دفعا وقمعا أو احتضانا و ترسيخا... وقد اعتُمدت هذه التقنية منذ القديم من قبل المبطلين الظالمين في سياستهم للعامة وتوجيههم للرأي العام وتبرير حملاتهم على مناوئيهم وتبريرهم لطغيانهم، وذلك بتلبيسهم الحق بالباطل.. لم يكن فرعون أولهم حين فصل لفظ "الفساد" عن مدلوله الحقيقي، وألصقه بحركة موسى عليه السلام الرسالية التغييرية، تبريرا لما أضمره من الإجهاز عليها، وطلبا للتفويض في القضاء عليها {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }غافر26- ولن يكون فراعنة العصر الحالي آخرهم عندما فعلوا الشيء ذاته بلفظ "الإرهاب" الذي ألصقوه بحمولته السالبة _ وإن كان اللفظ يحتمل أيضا حمولة موجبة ممكنة مشروعة تم إهمالها عمدا_ ثم ألصقوه بكل فرد أو مجموعة أو مؤسسة أو دولة يبيتون نية الإجهاز عليها. فلا فرعون يقبل كبره واستعلاؤه مناقشة مسمى"الفساد" وبيان حدوده، ولا الفراعنة الجدد قبلوا تعريف "الإرهاب" المذموم وإقامة حدوده. بل إنهم جميعا ينطلقون من مُسلَّمة و منطق: مسلمة الأول أنه "الإله" الأوحد وأنه الصلاح والرشاد { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }غافر29- ومنطقه يقود إلى أن كل من يعارضه يمثل الضلال والفساد، ومسلمة المتأخرين أنهم "الخير و الحرية و الديمقراطية" ومنطقهم يقود إلى أن كل من يناوئهم يمثل " الشر و التطرف والإرهاب". و اليوم، ينتفض فقهاء " الرموت كونترول" فجأة ويكتشفوا أن لهم ألسنة تنطق وقد كادت من طول الرقاد تَنفِق، فيبعثون تسمية "الفتنة" من مرقدها، وهم طبعا يبطلون سند ومتن "الفتنة نائمة،.....موقظها"، ثم يستنسخون ما يكفي منها لتغطية واجهات كل الحركات الاحتجاجية والتغييرية التي تهز أركان كراسي ولاة الأمور دون غيرها مما تهتز له أركان الخصوم.. فالمظاهرات في مصر وتونس "فتنة"، وهي "أشد من القتل" في دويلات فقاعات الخليج، ولكنها غير ذلك وتستحق الدعم من مجلس الخليج أو الجامعة العربية ولو ببيان و إذن بالحظر الجوي في ليبيا، أو في ساحة 14 آذار إذا تعلق الأمر بتحالف الدفاع عن مطلب إسرائيل بنزع أنياب المقاومة. ولقد استعمل المنافقون هذا المصطلح في زمن النبوة على نحو مماثل حين ألصقوا تسمية "الفتنة" بالخروج إلى أرض العدو لملاقاته، وذلك تهربا من الجهاد و تورية للتخاذل والجبن. فقد طلبوا الإعفاء من الخروج للجهاد لمبرر مشروع هو الهروب من الفتنة وحفظ الدين، وذلك بعد أن ألصقوا تسمية الفتنة بغير مسماها، ووضعوها في غير موضعها، تحايلا وتذاكيا ومكرا، فأعاد الله الأمر إلى نصابه، و رد الإسم إلى ما يجسد حاله، وفوت على المنافق مكره واحتياله، فقال:{أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} التوبة49- فهل بلغ عمى الألوان ببعض علماء النعمة و ولي النعمة، أن تبدى له الأبيض أسودا والأسود أبيضا؟ نعم فإن المنكرين لحق الدفاع عن الحق والعدل والحرية، بذريعة الفتنة، قد في الفتنة سقطوا! لأن من علامات الفتنة ضبابية الرؤية، حتى يُلتمس الحق فيلتبس بالباطل، فيقع من يقع في الباطل من حيث أراد الحق، وهذا مع الصدق في طلب الحق وعدم الانحياز إلى النعمة و ولي النعمة. وهو أمر عبر عنه الحديث الشريف: كَيْفَ بِكُم إذا فَسَقَ شَبَابُكُم وطَغَتْ نِساؤكُم وكَثُرَ جُهَّالُكُم؟ قَالُوا: أو إنَّ ذلك كائنٌ يا رسولَ الله؟! قالَ: وأَشَدُّ من ذلِكَ. كيفَ بِكُم إذا لم تأمروا بالمعروفِ، وَتَنْهوا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالُوا: أو إن ذلِكَ كَائِنٌ يا رَسُولَ الله؟! قالَ: وأَشَدُّ مِنْ ذلِكَ. كيفَ بِكُم إذا أَمَرْتُم بالمُنْكَرِ ونَهَيْتُم عَنِ المَعْرُوفِ؟ قَالُوا: أو إنَّ ذلك لكائِنٌ يا رسولَ الله؟! قالَ: وأَشَدُّ مِنْ ذلِكَ. كيفَ بِكُم إذا رَأَيْتُم المَعْرُوفَ مُنْكَرًا ورَأَيْتُمُ المُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟) أبو يعلى والطبراني في "الأوسط " والرواية لأبي يعلى ) و روى ابن عبد البرِّ في الاستيعاب عن حذيفة رضي الله عنه أنه سئل أي: الفتن أشد؟ قال: (أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب). فهل الفتنة فيما كان عليه الحال على عهد مبارك وبن علي أم في خروج الناس وقد ضاقوا بالذل والمهانة والظلم والجوع والفقر والحرب على الإسلام، و قد أعياهم انتظار نصرة الأشقاء أو إنصاف البعداء، فخرجوا يسمعون صوتهم لمن بغى عليهم؟ هل يرى فقهاؤنا أعزهم الله أن الوضع السابق الذي طال ليله كان على هدى من الله ورسوله وأن الخروج عليه بدعة ومنكر وفتنة وانقلاب على الشرعية؟ هل ينطبق وصف "ولي الأمر" على الحاكم العربي حتى تُطرق رؤوس الثوار بأحاديث السمع والطاعة له وإن جلد ظهرك وأخذ مالك؟ استفيقوا فإن العالم كله يرقب بيتنا الزجاجي، وإنكم لو أُخذ ما تقولون في تبرير الظلم على محمل الجد، وعلى أنه صوت الإسلام، لكنتم من الصادِّين عن سبيل الله، تماما كما صدت الكنائس دهرا عن سبيل الله، ودفعت أوروبا دفعا إلى اللادينية، بتحالفها مع الإقطاع الظالم و الملكيات المستبدة. و إنما أقبل كثير من الناس إبان الفتوحات على الإسلام، و تنكروا لسلطان الفرس والروم، لِما رأوا من عدله وما خَبِروا قبل ذلك من ظلمهم! لم نسمع صوت منكري الفتنة يتجاوز تراقيهم دهرا طويلا والنظامان المصري والتونسي يعلنان دون حياء أنهما علمانيان لادينيان، وأنهما يتبرآن من حكم القرآن وأحكام شريعة الإسلام في بلاد الإسلام، و يملآن بأهل الصلاح والإيمان السجون، ويطلقون في بلاد الله العنان لأهل الفسق والإفساد و المجون، يُثَورون أبناء المسلمين على الزنا والربا والخمر وهتك الأعراض والمجاهرة بالفسوق والعصيان، ويروضون على هذا وعلى الدياثة الأجيال بالإعلام والتعليم والفنون، ويوالون الكفار ويعادون أهل الإيمان، ويشرعون لليهود والنصارى اغتصاب أرض الإسراء ويساعدونه على ذلك بالمدد والاستخبارات، ويحاصرون المرابطين على أرض الرباط ويجوعونهم ويمنعون عنهم المؤن والتبرعات... هل كانت مصر مبارك خارجة عن دائرة الفتنة، أم تونس بن علي آمنة على دينها وأعراضها وأموالها ونفوسها، فجاء الثوار بتهديد الدين والعرض والمال والنفس؟ وهل الفتنة إلا فتنة الدين ياعلماء الدين؟ وهل فُتنت الأمة في دينها يوما كما فتنت في عهد فراعنة الاستبداد الصريح أو المقنع، الذين استرهبوا المسلمين وجاءوا بسحر عظيم من الإعلام ومرتزقة السياسة وانتهازيي الاقتصاد، يوارون به تآمرهم على الأمة و دينها وخيراتها، و أوقفوا بعد أربعة عشر قرنا مُسلَّمة توحيد مرجعية الحكم في شريعة الإسلام، التي لم يجرؤ أحد قبلهم حتى في ظل فترات استبداد سابقة من تاريخ الأمة على المساس بها؟ هل ترون الفتنة في مناوأة الشعب الحاكمَ سلطانه، ولا ترونها في منازعة الحاكم الله سلطانه؟ مالكم كيف تحكمون؟ هل إذا كان المرء طاعما بطنه كاسيا جسده وحرمات الله منتهكة من حوله، تُداس وتهان و يُستهزأ بآيات الله في بلاده، و يُستعبد من دونه عبادهُ، ويغتصب في أرضه سلطانه، هل للمسلم إن فقه دينه وصح ولاؤه أن يجد نفسه والحال هذه قرير العين راضي النفس ، يحمد الله على السلامة من الفتنة، ويسأله أن يديمها نعمه؟ أم إن عين الفتنة أن يُسخط الله ورسوله و يُستهزأ بالله وآياته ويُجاهر بمعاداته ، كل ذلك و مُدَّعي موالاة الله ورسوله راض بالمِعلفة في عنقه، قانع بفتات موائد الظالمين، لم يتمعر وجهه، ولم يؤرق الغضب لله جفنه؟ أهكذا تفقهون الولاء ياعلماء الولاء لولي النعمة؟ يا فقهاء الفتنة ، مالبديل الذي تقترحونه على الأمة؟ قال أحدهم وهو يصلح كساء رأسه على شاشة صقيلة: المظاهرات بدعة، والسنة في هذه الحال التوبة والاستغفار وأن يقتسم المسلم طعامه مع أخيه، ... ثم ..ثم.. لا شيء تم! ليسعك بيتك وابك على خطيئتك! صدق والله الحديث، و كذب المنتقي لنصه دون غيره، المنزل له في غير منزله! و انتصب غيره وهم كثُر حول موائد الفضائيات، يبشرون بالبديل: النصيحة لولي الأمر بالمعروف! كلمة حق أريد بها تقديم خدمة لمن يهمه الأمر، فإن كانت مدفوعة الأجر فهي مصيبة، وإن كانت مجانية فالوقيعة أعظم. نسألكم ياأهل الفضيلة: هل جربتم النصيحة لولاة الأمر؟ إن كنتم فعلتم ف هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ{72} أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ{73} الشعراء-؟ فإن كانوا لا يسمعون، فخلوا بين حناجر الناس وبينهم. وإما أنكم لم تفعلوا فأنتم شركاؤهم، وأنتم إذن من يتولى كبر ما أصاب الأمة!! فلا أنتم أسمعتم، ولا أنتم تركتم الناس تحاول الإسماع بما تيسر لهم من حناجر و كلمات، في حدود ما سمح به جهدهم وقاد إليه اجتهادهم. فيا من تتبجحون بأنكم وحدكم من يطبق شرع الله في العالم الإسلامي، وبأن حاكمكم مثال الانتصاح وتمكين العلماء من توجيه دفة القيادة: - هل نصحتم ولي أمركم أن من بديهيات عقيدة الولاء و البراء عدم موالاة الظالمين والبراءة من مودتهم، ومنه رفض استقبالهم واستضافتهم على أرض الحرمين وهم الذين انتهكوا الحرمات، ونصبوا أنفسهم آلهة من دون الله يحادونه، فيحلون ما حرم ويحرمون ما أحل، ويمنعون عبدا إذا صلى، وأمة إذا احتجبت، ويأكلون مال العباد أكلا لما، و يستبيحون أعراض البلاد؟ - هل نصحتم ولي أمركم أنه من الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أن يبيح حاكم لنفسه أن يتنازل بنفسه أو نيابة عن غيره عن شبر من أرض الإسلام لأعداء الله؟ وهو الذي تباهى بمبادرة استسلام عربية مقتضاها اعتراف بالمغتصب وتنازل عن الأرض وقبول بشروط ذل لم تكن مع ذلك كافية لإغراء العدو بالالتفات إليها؟ فأين انتم من قول الله عز وجل: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }محمد35- ؟ - هل نصحتم ولي أمركم أن مال المسلمين أمانة لا مغنم؟ وأنه ليس له منه إلا أُعطيته، ولا يحق له أن ينثره بهواه، و أن ذَرَّ الرماد في العيون ببعض النفقة على الحرمين لا يغطي على الأضعاف المضاعفة التي تبذر في عربدة الأمراء والمحظوظين في مختلف مواخير العالم، أو التي تموِّل عمليات الكفار وفواتير الحرب على الإسلام باسم محاربة الإرهاب، أو التي تنهب في صفقات وهمية أو في شكل عمولات لصفقات سلاح حقيقية؟ - هل نصحتم لولي أمركم أنه لا يحل أن تطلق أيدي الأمراء و ذوي الامتياز للاغتناء من جيوب الحجاج وابتزازهم ورفع تكاليف الخدمات والسكن و إرهاق الفقراء الذين هوت قلوبهم إلى البيت الحرام وتاقت نفوسهم لزيارة مسجد سيد الأنام؟ - هل نصحتم ولي أمركم أنه لا يحل أن يُستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأنتم تفرضون على فقراء المسلمين الذين دفعتهم الحاجة لطلب العمل في بلاد الحرمين ألا يدخلوها إلا تحت عقد استعباد يسرق به الكفيل عرق جبينهم، ويمنعهم من جمع شمل أسرهم، في وقت تضمن فيه دول كافرة للعمال المسلمين كل هذه الحقوق وزيادة؟ إن كنتم فعلتم، وما أظنكم فعلتم، فهل يا ترى أسمعتم حيا؟ و هل نصحكم أحظى عندهم من نصح السفارات والاستخبارات الأجنبية؟ ثم هل تبرأتم بعد ذلك و ما ركنتم؟ وإلا فكفاكم ليا لأعناق النصوص، فأن تسكتوا عن بعض الحق عجزا أو خوفا أهون من أن تسوقوا باطلا، وإن الفتنة التي تحذرون منها هي التي فيها سقطتم. [email protected]