تشير الكثير من المؤشرات أن عالم اليوم هو عالم التكتلات الكبرى بامتياز، في زمن كثرت فيه التحديات والمخاطر في أبعادها الداخلية والخارجية، وفي عصر تشابكت فيه العلاقات بين الدول وتنامى البعد الاقتصادي فيها. فالاتحاد الأوروبي الذي انطلق بصورة متدرجة انتقل في أدائه من التنسيق والتعاون إلى الوحدة، وحقق الكثير من المكتسبات التي طوت معها دول الاتحاد صفحات قاتمة من تاريخها المليء بالحروب الكبرى، وتمكن بذلك من الانفتاح على مستقبل طموح ومشرق يترجم إرادة الشعوب نحو الحرية والديمقراطية وتحقيق التنمية والرفاه. في السابع عشر من شهر فبراير/شباط لسنة 1989 أبرمت معاهدة الاتحاد المغاربي بمدينة مراكش، وقد رافقت هذه الخطوة المهمة آمال وطموحات وانتظارات كبرى في أوساط الشعوب المغاربية، باتجاه تحقيق الوحدة والاندماج، وتجاوز مختلف الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ترزح فيها مختلف أقطار المنطقة. ومنذ ذلك الحين، شهد مسار الاتحاد مدّاً وجزراً، تبعاً لطبيعة العلاقات القائمة بين مختلف أعضائه، والتي تنوعت بدورها بين التناغم تارة والتوتر تارة أخرى، بفعل خلافات عابرة أو تاريخية، بالإضافة إلى الإكراهات والمشاكل التي فرضها الواقع الدولي المتحول في كثير من الأحيان. وعلى عكس بعض التجمعات الإقليمية التي استثمرت التحولات الدولية لصالحها ونجحت في بناء تكتلات وازنة تليق بحجم التحديات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي فرضتها تحولات ما بعد الحرب الباردة، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على تأسيسه، جاءت حصيلة الاتحاد المغاربي هزيلة وصادمة، بفعل جمود مؤسساته، وعدم تفعيل مختلف الاتفاقات المهمة المبرمة، وعدم اتخاذ مبادرات شجاعة على طريق هذا البناء. إن التكتل في عالم اليوم هو خيار ضروري وحيوي تفرضه التحديات الدولية التي تجعل من التجمعات الإقليمية وسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية المتزايدة في أبعادها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. ومدخلاً لربح رهانات التنمية الشاملة. ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل المحفزة على تفعيل الاتحاد المغاربي والتعجيل بتحقيق التعاون والتنسيق بين أعضائه اليوم قبل الغد، فعلاوة على المقومات البشرية والطبيعية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.. التي تمثل أرضية صلبة وجديرة بخلق تكتل إقليمي قوي قادر على دعم مشاريع تنموية رائدة في المنطقة، تمتد الدول المغاربية على موقع استراتيجي مهم، كما تواجه دول المغرب الكبير مجموعة من التحديات الاقتصادية والأمنية والبيئية والاجتماعية والتي لا يمكن التعاطي معها بنجاعة إلا في إطار من التعاون والتنسيق المغاربي. فالإكراهات الاجتماعية والاقتصادية (ارتفاع معدلات الفقر، والبطالة..) التي تمر بها مختلف هذه الدول، بالإضافة إلى تزايد التهافت الخارجي على هذه المنطقة الاستراتيجية بموقعها والغنية بخيراتها الطبيعية، ثم ضعف القدرة التفاوضية المغاربية في مواجهة الاتحاد الأوروبي وغيره من القوى الدولية الكبرى.. التي تتقاسم معها عدداً من الملفات والمصالح المهمة، كلها عوامل تفرض بحدة التعجيل باستثمار مختلف الإمكانات والمقومات الاقتصادية والبشرية.. المتاحة لتفعيل وتطوير آليات الاتحاد. كما أن تزايد المخاطر الإرهاب في المنطقة، منذ ظهور تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وتمدد الجماعات المتطرفة وتنامي الصراعات على امتداد المناطق المجاورة للدول المغاربية، إضافة إلى استغلالها للارتباكات الأمنية التي تشهدها ليبيا، وتزايد الهجرة السرية نحو أوروبا من وعبر الأقطار المغاربية، كلها عوامل تفرض مزيداً من التنسيق والتعاون بين هذه الدول مجتمعة في مختلف المجالات، وبخاصة الاقتصادية منها، أسوة بالاتحاد الأوروبي الذي انطلق انطلاقة سليمة ومتدرجة تنبهت إلى أهمية المكون الاقتصادي كأساس لبناء إطار إقليمي قوي. وتوفر رغبة الشعوب المغاربية وتوقها إلى الوحدة والاندماج، قاعدة تدعم هذا البناء، الذي سيسمح في كل الأحوال بإرساء دعائم تنمية إنسانية واعدة لأعضائه، تمكنها من ردم الهوية التي تفصلها عن دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، بالشكل الذي يمنحها وزناً في هذه المنطقة الاستراتيجية، وقوة تفاوضية تكفل لها مقاربة مختلف القضايا والملفات المشتركة مع دول الاتحاد الأوروبي (الأمن الإقليمي، والإرهاب الدولي، وقضايا اللجوء والهجرة السرية، والصيد البحري، والتبادل التجاري، والاستثمار..) من موقع مريح وندّي. وبغضّ النظر عن مختلف الإكراهات والتحديات المطروحة في هذا الصدد، يظلّ بناء الاتحاد المغاربي، بحاجة إلى انخراط فعال لمختلف مكونات المجتمعات المغاربية من مجتمع مدني، وأحزاب سياسية، ونخب مثقفة وجامعات وإعلام.. تؤسس لقاعدة مغاربية صلبة، قادرة على خلق شروط الحوار والتواصل ومواجهة مختلف التحديات والصعاب التي تواجه مطلب الاندماج، وتدفع باتجاه تحفيز السلطات السياسية بالمنطقة لاتخاذ قرارات حاسمة في هذا الإطار، علاوة على تقوية أساس هذا البناء بمقترحاتها وأفكارها، لإخراجه من طابعه الفوقي ومن ركوده الحالي، والسير به قدما نحو مصاف التكتلات الإقليمية الواعدة، كما هو الشأن بالنسبة للتجربة الرائدة للاتحاد الأوروبي. إن انخراط مختلف هيئات وفعاليات المجتمع المدني في تحقيق هذا المطلب المغاربي، سيسهم حتماً في دمقرطة الاتحاد، بصورة تكفل تجاوز الإكراهات الحالية، وسيخلق مرونة على مستوى اتخاذ القرارات التي تسمح بإيصال آراء وطموحات شعوب المنطقة إلى صانعي القرارات، ويوفر الشروط الموضوعية لإعادة النظر في بعض أجهزته (الاتحاد)، بل وتطويرها بما يكفل اتخاذ قرارات فعالة وحاسمة على طريق بناء اتحاد مغاربي قوي. إذا كانت الشعوب المغاربية تؤمن بالوحدة وتتطلع إليها، فإن ذلك يبقى بحاجة إلى قرارات تترجم هذه الرغبة واقعياً، وبخاصة أن الاندماج هو ضرورة وخيار استراتيجي بكل المقاييس، تفرضه الظرفية الدولية المتميزة بتحدياتها الكبرى، والتي تؤكد يوماً بعد يوم أن أفضل وسيلة لمواجهة إشكالات العصر بكل تعقيداتها هو التكتل. وتبرز العديد من التجارب الاندماجية الوازنة، أن إحداث تنظيمات إقليمية مبنية على أسس ديمقراطية قوية، يسهم من جانبه في تطوير وتقوية المسار الديمقراطي لأعضائها. ومما لا شك فيه أن استمرار الأوضاع راكدة وجامدة على حالها، سيكلف شعوب المنطقة هدر مزيد من الفرص والطاقات المتاحة لولوج عالم متغير لا يؤمن إلا بالتكتلات. *أستاذ جامعي ورئيس منظمة العمل المغاربي [email protected]