أكد الدكتور إدريس لكريني، مدير مجموعة الأبحاث الدولية حول إدارة الأزمات، أن التحولات السياسية التي شهدتها بعض الدول المغاربية في إطار الحراك العربي، تفرض على هذه البلدان سن سياسة خارجية ديمقراطية تستمد مقوماتها من مصالح الشعوب المغاربية، ورغبتها في تحقيق الاندماج". واعتبر لكريني، في مقال خص به هسسبريس، أن ترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل الأقطار المغاربية يعدّ أحد المداخل الرئيسية والهامة لبناء الاتحاد المغاربي على أسس متينة، مبرزا ما يكلفه الوضع الراهن من خسائر باهظة، وهدر للفرص والطاقات المتاحة لولوج عالم متحول لا يؤمن إلا بالتكتلات". وهذا نص مقال إدريس لكريني كما ورد إلى الجريدة: إن تكلفة الاستبداد في المنطقة العربية باهظة وخطيرة؛ إن على المستوى الداخلي في علاقتها بقمع الحريات والحقوق وصدّ أي تغيير سياسي بناء وإهدار الطاقات وتعطيل مسار التنمية.. أو الخارجي في علاقتها بتدهور النظام الإقليمي وتأزّم أوضاع مختلف المنظمات الإقليمية.. لقد أضحى التكتل في عالم اليوم خيارا حيويا؛ تمليه التحديات الدولية التي تجعل من التجمعات الإقليمية وسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية المتزايدة في أبعادها العسكرية والاقتصادية والسياسية..، ومدخلا لتحقيق التنمية الشاملة. ففي الوقت الذي حققت فيه مجموعة من الدول إنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية..في إطار تكتلات قوية؛ في كل من أوربا (الاتحاد الأوربي) وأمريكا(الأنديز) وآسيا (النمور الأسيوية)، فإن الدول المغاربية وعلى الرغم من الإمكانيات البشرية والموضوعية المتاحة (اللغة، والدين، والتاريخ المشترك، والإمكانيات البشرية والجغرافية، والخيرات الطبيعية والموقع الاستراتيجي..)؛ فشلت في بناء تنظيم إقليمي قوي؛ قادر على رفع التحديات الداخلية والخارجية، مما يجعلها ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية عرضة للتأثر السلبي بالتحولات الدولية الحاصلة على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري.. في المرحلة الراهنة. فالاتحاد المغاربي الذي أحدث بموجب معاهدة مراكش المبرمة بتاريخ 17 فبراير 1989؛ وخلف طموحات وانتظارات شعبية واسعة، لم يراوح مكانه؛ ولم تتبلور بعد الإرادة السياسية الكفيلة بتطويره ليكون في حجم طموحات شعوب المنطقة وتطلعاتها. فبعد مرور زهاء عقدين من الزمن على توقيع معاهدة مراكش؛ جاءت الحصيلة هزيلة وصادمة؛ بفعل الجمود المؤسساتي والسياسي للاتحاد وعدم تفعيل مختلف الاتفاقات المبرمة؛ وعدم اتخاذ مبادرات شجاعة على طريق الوحدة والاندماج.. وبجانب العوامل البنيوية التي حالت دون تطور الاتحاد وعلى رأسها ضعف التبادل التجاري بين بلدانه الخمسة؛ هناك أيضا عامل الإرث الاستعماري الذي تمخضت عنه مشاكل حدودية بين المغرب والجزائر؛ بالإضافة إلى تداعيات قضية الصحراء التي حالت دون تطوير العلاقات المغربية – الجزائرية؛ بل وأسهمت في تأزيمها، ثم غياب مشروع اقتصادي مغاربي واضح المعالم؛ ودخول بعض دول الاتحاد في أزمات سياسية داخلية أثرت في استقرارها(الجزائر في بداية التسعينيات من القرن المنصرم؛ موريتانيا إبان حدوث عدد من الانقلابات السياسية..). إن الظرفية المحلية والإقليمية والدولية أصبحت تفرض التكتل والاندماج؛ فعلاوة على التهديدات والضغوطات والتدخلات السياسية والعسكرية الخارجية التي أصبحت تتعرض لها الكيانات الدولية الضعيفة في كل حين؛ فإن العولمة بكل تجلياتها وأبعادها؛ أصبحت تفترض العمل الجماعي لمواجهة تداعياتها الكبرى. كما أن التحولات السياسية التي شهدتها بعض الدول المغاربية في إطار الحراك الذي شهدته المنطقة وما رافقه من تزايد الدعوات لبناء الاتحاد في الخطاب الرسمي لبعض الدول المشكّلة له؛ كما هو الشأن بالنسبة لتونس والمغرب؛ كلها عوامل تفرض اتخاذ قرارات شجاعة كفيلة برد الثقة إلى المجتمع؛ من خلال سياسة خارجية ديمقراطية تستمد مقوماتها من مصالح الشعوب المغاربية ورغبتها في التواصل وتحقيق الاندماج.. ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل المحفزة على تفعيل الاتحاد والتعجيل بتحقيق الاندماج بين أعضائه؛ فعلاوة على المقومات البشرية والطبيعية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.. التي تمثل أرضية صلبة وجديرة بخلق تكتل قوي قادر على فتح مشاريع تنموية رائدة في المنطقة؛ تواجه منطقة المغرب العربي مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية التي تجعل من الاندماج والتكتل قدرا وضرورة. الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية في علاقتها بالهجرة؛ وارتفاع معدلات الفقر؛ وتفشي البطالة.. التي تمرّ بها مختلف هذه الدول؛ بالإضافة إلى تزايد التهافت الخارجي على هذه المنطقة الاستراتيجية بموقعها وخيراتها الطبيعية؛ وضعف القدرة التفاوضية لدولها القوى الدولية الكبرى.. تفرض استثمار مختلف الإمكانيات المتاحة لتفعيل وتطوير الاتحاد. وتوفر رغبة الشعوب المغاربية وتوقها إلى الوحدة والاندماج؛ قاعدة أساسية تدعم هذا البناء؛ الذي سيسمح في كل الأحوال بإرساء دعائم تنمية إنسانية حقيقية لأعضائه؛ تمكنها من ردم الهوّة التي تفصلها عن دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط؛ بالشكل الذي يمنحها وزنا متميزا في هذه المنطقة الحيوية؛ وقوة تفاوضية تكفل لها مقاربة مختلف القضايا والملفات المشتركة (الأمن الإقليمي؛ و"الإرهاب"؛ والهجرة السرية، والصيد البحري؛ والتبادل التجاري؛ وجلب الاستثمار..) مع دول الاتحاد الأوربي بشكل ندي. إن جمود الاتحاد حرم الدول المغاربية وشعوبها من الاستفادة من مختلف الاستثمارات البينية أو الدولية التي تعد مدخلا للقضاء على عدد من الإكراهات الاجتماعية المطروحة؛ ولإعادة الأمل إلى نفوس الشباب المغاربي. تزداد ملحاحية هذا التفعيل في ظل وضعية من التشتت؛ فوّتت على المنطقة المغاربية برمتها فرصا عديدة. فقد أظهرت إحصاءات اقتصادية أن دول الاتحاد المغاربي تخسر نحو عشرة بلايين دولار سنويا، أي ما يعادل نحو 2% من ناتجها القومي الإجمالي، بسبب غياب التنسيق في المواقف الخارجية، وتعثر قيام سوق مغاربية مشتركة. إن ترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل الأقطار المغاربية وفي ضوابط وممارسات الاتحاد؛ يعدّ أحد المداخل الرئيسية والهامة على طريق بناء الاتحاد على أسس متينة. فالممارسة الديمقراطية هي التي دفعت بمجمل الدول الأوربية إلى نبذ خلافاتها التاريخية الكبرى؛ واستحضار مصالح شعوبها الاستراتيجية لتجعل من الاتحاد الأوربي نموذجا رائدا في الاندماج والوحدة ومنفتحا على المستقبل. وتؤكد مسيرة هذا الاتحاد أنه استفاد في تطوره من الأجواء الديمقراطية التي شهدتها مختلف الأقطار الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية؛ قبل أن يسهم من جانبه في تعزيز هذا المسلسل الديمقراطي في مناطق عدة من أوربا الغربية والشرقية؛ وبخاصة وأن الانضمام إلى هذا الاتحاد يظل مشروطا بوجود أنظمة تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان فكرا وتطبيقا. إن المركزية في اتخاذ القرارات التي تطبع ممارسة السلطة داخل الأقطار المغاربية؛ هي نفسها التي حرص مؤسسو الاتحاد على تكريسها ضمن المعاهدة المنشئة له؛ فالمادة السادسة من هذه الأخيرة تؤكد على أن: "لمجلس الرئاسة وحده سلطة اتخاذ القرار، وتصدر قراراته بإجماع أعضائه". الأمر الذي يفسر غياب أية مبادرة من الأنظمة المغاربية تقضي باستشارة شعوبها عبر أسلوب الاستفتاء بصدد الاتفاقيات المبرمة في إطار الاتحاد، ولذلك فمعظم القرارات والاتفاقيات اتخذت بشكل فوقي لتظل حبرا على ورق. وأمام تركيز مختلف الصلاحيات التقريرية والحاسمة في يد مجلس الرئاسة؛ لم تحظ باقي الأجهزة الأخرى من قبيل مجلس وزراء الخارجية أو مجلس الشورى.. إلا بصلاحيات محدودة؛ الأمر الذي كان له عظيم الأثر على مستوى بطء اتخاذ القرارات وعرقلة تطور بناء الاتحاد. كما أن اعتماد قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات بموجب المادة السادسة من معاهدة الاتحاد؛ تمكن أي عضو من تعطيل اتخاذ القرارات إذا ما اعتبرها في غير صالحه. لقد أضحى إعمال إصلاحات سياسية ديموقراطية مبنية على الحوار والحرية وحقوق الإنسان والانفتاح على المجتمع.. مطلبا ملحا في المنطقة؛ لكونها ستهيئ الأجواء اللازمة لبناء الاتحاد المغاربي الذي يعد مطلبا اجتماعيا في كل أنحاء المنطقة. وإذا كانت الشعوب المغاربية تؤمن بالوحدة وتتطلع إليها؛ فإنها تبقى بحاجة إلى أنظمة سياسية ديمقراطية تترجم هذه الرغبة واقعيا؛ وبخاصة وأن الاندماج هو ضرورة وخيار استراتيجي بكل المقاييس؛ تفرضه الظرفية الدولية المتميزة بتحدياتها الكبرى. وتؤكد العديد من التجارب الاندماجية الوازنة؛ أن إحداث تنظيمات إقليمية مبنية على أسس ديمقراطية قوية؛ يسهم من جانبه في تطوير وتقوية المسار الديمقراطي لأعضائها. ومما لا شك فيه أن استمرار الأوضاع راكدة وجامدة على حالها؛ سيكلف شعوب المنطقة هدر مزيد من الفرص والطاقات المتاحة لولوج عالم متحول ومتسارع لا يؤمن إلا بالتكتلات. * مدير مجموعة الأبحاث الدولية حول إدارة الأزمات [email protected] https://www.facebook.com/driss.lagrini