لمّا نص الدستور المغربي في فصله ال 111 على ما يلي : "للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفّظ والأخلاقيات القضائية؛ يمكن للقضاة الانتماء إلى جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون؛ يُمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية"، بادر مجموعة من القضاة إلى تأسيس "نادي القضاة"، وشرعوا في إقامة أنشطة وحضور ندوات، وكتابة دراسات ومقالات. حدث أن وزارة العدل، باشرت حوارا وطنيا من " من أجل إصلاح منظومة العدالة"، وأشركت بعض القضاة في هذا الحوار، ولأن الأغلبية الحكومية حاولت أن تتراجع عن مُخرَجات الحوار وفرضت بعض الأمور التي تعارض الدستور وتقوّض الحماية القانونية التي توفّرها المواثيق الدولية للقضاة، إذ تمنع بنود المشاريع المقترحة القضاة من تأسيس جمعية غير مهنية (م 38 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة ) في انتهاك صريح للفصل 111 من الدستور والبندين الثامن والتاسع للمبادئ الدولية لإعلان استقلالية السلطة القضائية. ولأن القضاة غير مُمثّلين في غرفة البرلمان ولا يمكنهم أن يدلوا بآرائهم في هذه المواضيع التي تتعلّق بهم ولهم فيها موقف يقترب من الصواب نتيجة الخبرة النظرية والعَمَلية، فإنهم راموا الاستفادة مما يتيحه لهم الدستور (حرية التعبير وحرية الانخراط في جمعيات مهنية كانت أو غير مهنية)، وكتبوا مقالات وبحوث علمية تبيّن العَوار الذي تتضمنه مشاريع القوانين التنظيمية للسلطة القضائية، رغبة منهم في تجويدها وتنبيه المشرع إلى خطورة ما يُقدِم عليه نتيجة مخالفته للدستور والقوانين الدولية، (وهذا حال مقال ذ. الهيني بعنوان: "فرق الأغلبية البرلمانية وتبعية النيابة العامة لوزير العدل: ألا في الفتنة الدستورية سقطوا؟" الذي يُعبر فيه مواطن - لديه خبرة في الموضوع - عن همومه سواء لأنه مارس مهنة القضاء ويعرف خباياها، وساء لأنه منضوٍ في جمعية مهنية من شأنها رصد حرية القضاة، ومنتسب لجمعية حقوقية تهدف إلى تطوير منظومة العدالة في المغرب، وهو بمقاله هذا لم يتّخذ موقفا سياسيا، لأن انتقاد بعض المواقف في الهيئة التشريعية حاولت الالتفاف عن نتائج الحوار الوطني الذي صُرفت عليه الملايين، واستغرق الكثير من الوقت والسجال، لا يُعتبر موقفا سياسيا إطلاقا، بل هو موقف وطني بامتياز يتعلق بمصلحة العدالة في بلد يسعى إلى التخلّص من الماضي السلبي، ويسعى إلى وتكريس استقلالية القضاء ويسمُو به على التصنيفات السياسية، فهذا يدخل في باب حرية التعبير والمشاركة في النقاشات كما هو حال كاتب هذه السطور. ما الذي حصل إذن؟ الذي حصل هو أن فرق الأغلبية الحكومية تقدّمت بشكاية تقول فيها أن مقال القاضي الهيني يتضمن ٍرأيا يكتسي طابعا سياسيا، ولم يلتزم بواجب التحفّظ. لكن هل أخطأ المشتكي؟ أم أن القاضي تجاوز القانون؟ من حيث الشكل: من حق فرق الأغلبية أن تقاضي أي شخص سواء كان قاضيا أو قائدا أو مواطنا عاديا، لكن التظلم ينبغي أن يكون أمام المحاكم، وليس لدى وزير العدل. لأن فرق الأغلبية شأنها شأن باقي الهيئات والمواطنين ليست استثناء حتى تلجأ لوزير العدل بدل سلك مسطرة التقاضي العادية، التي توفر للمواطن الهيني –لأنه كتب المقال بصفته مواطنا وليس بصفته قاضيا- درجات التقاضي التي يتوفر عليها كل مواطن. أما اشتكاء الرجل أما المجلس الأعلى، فهو يمنع الرجل من حق نقض الحكم، ويحرمه من كافة الحقوق. ماذا مثلا لو أن القاضي الهيني كتب مقالا بصفته الشخصية ضد فريق رياضي، هل سيشتكيه رئيس الفريق إلى وزير العدل أم إلى المحكمة؟ فلقد حرم القاضي الهيني من حقوق الدفاع وما تفرضه المحاكمة العادلة في مسطرة المحاكمة التأديبية، بحيث مُنِع من الحق في الاطلاع على الشكاية والحصول على نسخة منها والحق في المؤازرة أمام المفتشية والمقرر، وتم تجاهل الدفع بتجريح المقرر والوزير رغم توافر موجباته، من خصومة ثابتة يعلمها العام والخاص. فهل بعد هذا نتحدث عن دور القاضي في حماية حقوق وحريات المواطنين وهو مجرد من أي حماية تذكر ؟ من حيث المضمون: إن حرية التعبير تضمن للقضاة إبداء رأيهم في كل الأمور المطروحة للنقاش العمومي ما لم تكن مطروحة أمام محاكمهم بصفتهم قضاة موضوع، وهذا هو التمييز الوحيد الذي ينبغي أن يحضر في هذا المستوى، فمثلا لا يمكن لقضاة المحكمة الدستورية أن يكون لهم رأي في الموضوع خارج ما تصدره المحكمة عندما يُعرض عليهم المشروع، كما أن رأي القضاة لا يتّخذ طابعا سياسيا ما لم يواكبه انخراط صاحبه في حزب سياسي، لأن مسألة التمييز بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي تبقى مستحيلة، فالأفكار تنتمي لعالم النسبية، وما يبدو بعيدا عن السياسية في نظر البعض قد يراه البعض الآخر من صميم العمل السياسي، فكثيرا ما مُنعت روايات وأعمال أدبية ولوحات فنية بدعوى أنها تحمل أفكارا سياسية، لكن بعد ذلك بعقود أو بقرون تَبيّن أن هذا الأمر مُجحف وأن تلك الأعمال تدخل ضمن دائرة حرية التعبير. علما أن الاختلاف بين المدارس العلمية لا يقتصر على تحديد الأفعال السياسية من غيرها، بل انصبّ قبل ذلك على السياسة في حد ذاتها، فإذ رأى بعض العلماء أن السياسة "فعل يهدف إلى حسن التدبير والاهتمام بالشأن العام"، فإن البعض الآخر رأى فيها "فن إلهاء الناس عن شؤونهم، أو هي القدرة على خداع المواطنين"، وفي تعاريف علماء الاسلام للسياسة هي "سياسة شؤون الناس ومساعدتهم على النهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، وتحت هذا التحديد يمكن إدخال جميع الأعمال النبيلة في دائرة ممارسة السياسة. لذلك اتجه علماء السياسة إلى الاقتصار على التمييز الضيق للسياسية بما هي انخراط الناس في هيئات سياسية تروم الوصول إلى السلطة وممارسة الاصلاح من فوق، وفي هذا السياق يأتي التمييز بين المجتمع السياسي الذي من سماته الرغبة في الوصول إلى الحكم وبين المجتمع المدني الذي من سماته التوعية والتثقيف والتربية أي أنه يهدف إلى الاصلاح من تحت. وبالتالي، فإن ما يقوم به بعض القضاة في المغرب يدخل ضمن ما تتيحه لهم المواثيق الدولية، وما يكفله لهم الدستور، ولا يمكن أن يتعرّضوا بموجِب ذلك إلى التأديب أو التوقيف، تحت أي مبرر كان ما داموا قادرين على مزاولة مهامهم، ولا تأثير لمواقفهم وآرائهم على القضايا التي يحكمون فيها، كما لا يمكن أن يخرجهم ذلك عن واجب التحفّظ الذي يليق بهم، ما داموا لا يفشون أسرارا استودِعوها، ولا يُحابُون طرفا ضدا آخر، ولا يناصرون جهة ضد أخرى، ولا يتورطون في قضايا جنائية أو مادية أو أخلاقية تجعلهم عرضة للتشنيع وفقدان الثقة، أما غير ذلك فهو ضمن حرية التعبير بصرف النظر عن التوصيف الذي يعطيه البعض لمضمون هذا التعبير ما لم تؤدي حرية التعبير إلى إلحاق الضرّر بالغير. ما الذي حدث بعد عزل القاضي الهيني؟ بعد 17 سنة خدمة في سبيل تحقيق العدالة، وجد القاضي الهيني نفسه من دون دخل ولا تقاعد باستثناء 400 درهم تعويضات عائلية. أما الوزير و البرلماني، مثلا، فهما يتحصّلان على التوالي على تقاعد يقدر ب 39000 درهم و5000 درهم عن 5 سنوات "خدمة"، ويمكن للوزير أن يحصل على تقاعده حتى إذا أقيل أو عزل، بل تصرف له تعويضات نهاية الخدمة. وقد برّروا تقاعد الوزراء بالعبارة التالية: واش بغيتيوا الوزير يمشي يطلب من بعد 5 سنوات في الوزارة؟ أما القاضي الذي عُزل بسبب آرائه الشخصية وليس بسبب الفساد أو الرشوية، فليس مهمًّا كيف سيعيش وكيف سيربي أولاده، وما شعوره، وكيف يؤدي أقساط قروضه السكنية (كشف القاضي الهيني عن ممتلكاته التي تتضمن سكنا اقتصاديا مشتركا مع زوجته اقتناه عن طريق القروض، وسكنا مخصصا لوالدته اقتناه أيضا عن طريق القروض، وسيارة عادية استشراها قبل خمس سنوات) المطلوب: أولا: إنصاف القاضي الهيني، وباقي القضاة الذين تعرضوا للعزل ومنهم القاضي عادل فتحي الذي يعمل بمدرسة خاصة بأجر يساوي 3000 درهم شهريا، بحيث يتخذ الانصاف طابعا معنويا ومادّيا. ثاينا: الاسراع بإحداث مجلس الدولة، وهو المؤسسة القضائية التي يمكنها أن تبث في القرارات التأديبية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتلقي طعون قرارات محاكم الموضوع الادارية. *باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة [email protected]