طفى من جديد للسطح النقاش حول العلاقة بين الدين والسياسة بعد أول خروج إعلامي للأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة إلياس العماري، حيث صرح أن مشروعه قائم على مواجهة الإسلاميين. لكن ماذا نعني بفصل الدين عن السياسة؟ هل بإمكان المجتمع المدني مثلا، أن يقوم مقام الدولة في تنظيم شؤونه الدينية، في بناء المساجد وتعيين أئمتها، وفي الإعلان عن هلال رمضان والأعياد، وفي تنظيم شعيرة الحج، وفي جمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها..؟ دون الحديث عن تنزيل أحكام شرعية نص عليها القرآن بالدلالة القطعية، وأحكام الجهاد وضوابطه، والتي كان معمولا بها إلى أن وطئت قدم الاستعمار أرض المسلمين فألغاها، واستبدلها بقوانين مدنية، مع استثناء الأحكام المتعلقة بالأسرة؟ نعم، قبل ثورة الاتصال التكنولوجي الهائلة، كانت الجماعة تقوم بالعديد من هذه الأدوار الدينية مستغنية عن دور السلطان إلا في إعلان الجهاد،وكان للعلماء والقضاة الدور الحاسم في تنزيل تلك الأحكام الشرعية، لكن مع مجيء الدولة الحديثة واحتكارها لتنظيم شؤون المجتمع، في الصحة والتعليم والقضاء والإدارة والدفاع وتوزيع الثروة وغيرها من المجالات الحيوية، همشت دور العلماء في تنظيم الشأن الديني، وتولت إدارته، واستغلت الدين لتثبيت قراراتها أو تعزيز مواقفها أو تعبئة المجتمع لتبني بعض سياساتها .. وهكذا أصبحت الدولة الحديثة في أرض الإسلام غير مستغنية عن الدين في الأدوار التي يلعبها داخل المجتمع، ومن غير الممكن أن تستغني عنه، ليس فقط لأنها دولة استبدادية توظف الدين لمصلحتها، بل لأنها تدرك أن التفريط في هذا الحقل يجعل معارضيها أشد شوكة وأقوى حجة وأوسع مساحة في منازلتها. وحتى إذا كان خيارها ديمقراطيا، فإن رفع يدها عن الشأن الديني ربما يجلب متاعب على مجتمعات تخترقها اليوم تيارات دينية قوية، سلفية وصوفية وحركية وجهادية وإخوانية وشيعية، وبينها خلافات عميقة تصل أحيانا حد التكفير، خلافات قد تنتقل إلى المساجد والزوايا والأحياء فتؤدي إلى الاحتراب والفتن، ونحن نرى ونسمع عن الصراعات الطائفية وأحيانا تفجير دور العبادة بسبب الاختلاف المذهبي في بعض الدول التي تعرف التعددية المذهبية. في الدول الأوروبية العلمانية، حصل تعايش بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وإثنياتهم وطوائفهم، فهناك أتراك وعرب وآسيويون وأمازيغ تعايشوا على اختلاف مذاهبهم: سنة وشيعة، سلفية وصوفية، إخوان وغيرهم،ينظمون شؤونهم الدينية؛ لكن هذا التعايش هش..لماذا؟ لأن ثقافة الاختلاف والتنوع واحترام الرأي الآخر التي كانت حاضرة إبان ازدهار الحضارة والثقافة الإسلامية، حل محلها إضفاء القداسة على الاجتهاد، والتعصب للرأي، وتقديس أقوال الشيخ، واللجوء للعنف بدل الحوار في تنظيم الاختلاف.. وهذه الآفة غير مقتصرة على المتدينين، بل تتعداهم إلى العلمانيين والحداثيين على اختلاف مدارسهم وتوجهاتهم، فثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر والتداول السلمي على السلطة تكاد تنعدم من فضائنا التداولي، وتأمل مقولة السيد إلياس العماري التي دشن بها دخوله السياسي الرسمي، والتي سبق أن نحتها في أول خروج إعلامي له منذ خمس سنوات، حين قال في حوار مع جريدة "الحياة": "هل أشكل خطرا لأنني أتبنى آراء تختلف حد التناقض مع مشروع بنكيران؟ إذا كان الأمر كذلك فلي شرف عظيم أن أشكل هذا الخطر على مشروع حزب العدالة والتنمية..". وزاد: "لا يمكن أن أسمح أن يكون بلدي ضد الديمقراطية، وضد دولة الحق والقانون، وضد المواثيق الدولية وضد الحداثة..".."خياري الفكري والسياسي ضد أسلمة الدولة والمجتمع، وسأصارع فكريا وسياسيا هذا المشروع ومن مختلف المواقع..". وواقعه إحراق صورة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، وهو رئيس الحكومة والرجل الثاني في سلم السلطة، من تيار أمازيغاوي متطرف، لا يمثل الحركة الأمازيغية، لها أيضا دلالة عن غياب الدرس الديمقراطي في الوسط العلماني. والاقتتال الطلابي في الجامعة بين فصائل تزعم أنها تنتمي للمرجعية الكونية لحقوق الإنسان، والنقاش الدائر على الفايسبوك، والتعليقات على التدوينات التي تتسم بكثير من العنف اللفظي والسباب والتهديد، كلها تشي بوجود احتقان وعنف لا تكبح جماحه إلا السلطة. لسنا بحاجة لفصل الدين عن السياسة، ولا لفصل المقدس عن المدنس؛ لا..نحن بحاجة اليوم لفصل القداسة عن اجتهاداتنا وتنظيم الاختلاف والحوار واستعمال القانون مع من يلجأ للعنف. لقد أدرك الفقهاء الكبار والأئمة الأعلام هذه الحقيقة، أعني فصل القداسة عن الاجتهاد، فكانوا يردون بأدب وعلم ودليل قول المخالف، ولولا إيمانهم بهذه الحقيقة لما نشأت المذاهب وأثرت الفكر الإسلامي، فكان الواحد منهم يقول : "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، أو يقول : "كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم"..يعني النبي صلى الله عليه وسلم. بل في مجال السياسة أيضا كان لهم نفس سعة الصدر للمخالف، وما كانوا يزعمون أنهم يسوسون الناس بالحق الإلهي أو أنهم يتكلمون باسم السماء ولا ينطقون عن الهوى؛ فهذا الخليفة الأول أبو بكر الصديق في أول خطبة بعد توليه الخلافة يميز أمام الناس بين رأيه السياسي والوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيقول: (أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم..). وفي " تفسير ابن كثير " عن مسروق قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :( أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء؟ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما الصَّدُقات فيما بينهم أربع مائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربع مئة درهم..) ، قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيتَ النَّاس أن يزيدوا في مهر النساء على أربع مائة درهم ؟ قالت : أما سمعت الله يقول { وآتيتُم إحداهنَّ قنطاراً } الآية ؟ قال : فقال : اللهمَّ غفراً ، كل النَّاس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال :( أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مائة درهم ، فمن شاء أن يعطى من ماله ما أحب) . ونظير هذا في سيرهم كثير..قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه الواقعة في منهاج السنة: (هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له ، وأنه يقبل الحق من امرأة ، ويتواضع له ، وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة ، وليس من شرطِ الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمرٍ من الأمور..). ثم يأتي اليوم، في عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، من يذكرنا بخطبة الحجاج بن يوسف، مباشرة بعد انتخابه أمينا عاما لحزب التحكم..هيهات.. (يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق و مساوئ الأخلاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، و لقد كنت ادعوا الله أن يبتليكم بى، و لقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم به، فاتخذ هذا مكانه – و أشار إلى سيفه – ثم قال : و الله لآخذن صغيركم بكبيركم، و حركم بعبدكم، ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، و الخباز العجينة.. أما و الله إني لأحمل الشر محمله ، و احذوه بنعله،واجزيه بمثله، و إني لأرى رؤوساً قد أينعت و حان قطافها،و إني لأنظر إلى الدماء بين العمائم و اللحى . . إن أمير المؤمنين عبد الملك نشر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً و أصلبها مكسراً، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن و سننتم سنن الغي، أما و الله لأضربنكم ضرب غرائب الإبل ..).