جلالة الملك محمد السادس يعين عددا من السفراء الجدد    الملك يستقبل وزراء خارجية بلدان تحالف دول الساحل    البقالي يُشرف على أشغال المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بالحسيمة    اضطرابات في مطارات المملكة بسبب انقطاع التيار الكهربائي في إسبانيا    عضو في الكونغرس الأمريكي يؤكد دعم "انتفاضة الشعب التونسي" ضد قيس سعيّد    الملك محمد السادس يهنئ بنكيران    ببلوغ نهائي كأس إفريقيا للأمم .. "لبؤات الفوتسال" يتأهلن إلى المونديال    فاتح ذي القعدة غدا الثلاثاء بالمغرب    الأمن يوقف أصحاب شركات وهمية    حصيلة الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب    انقطاع الكهرباء في إسبانيا والبرتغال وفرنسا يوقف خدمة الإنترنت لشركة أورونج في المغرب    وزير العدل.. مراجعة الإطار القانوني للأسلحة البيضاء أخذ حيزا مهما ضمن مشروع مراجعة القانون الجنائي    التوفيق: إجمالي المكافآت التي قدمتها الوزارة للقيمين الدينيين في 2024 بلغ مليارين و350 مليون درهم    "الأخضر" ينهي تداولات البورصة    برلمانات الجنوب العالمي تعوّل على منتدى الرباط لمناقشة "قضايا مصيرية"    رئيس الحكومة الإسباني.. استعدنا التيار الكهربائي بفضل المغرب وفرنسا    الرباط.. انعقاد الاجتماع ال 11 للجنة العسكرية المشتركة المغربية-الإسبانية    تداعيات الكارثة الأوروبية تصل إلى المغرب .. أورنج خارج التغطية    الكهرباء تعود إلى مناطق بإسبانيا    قضايا الإرهاب .. 364 نزيلا يستفيدون من برنامج "مصالحة"    مهنيو الصحة بأكادير يطالبون بحماية دولية للطواقم الطبية في غزة    ‪بنسعيد يشارك في قمة أبوظبي ‬    التحالف الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي يؤكد دعمه للوحدة الترابية للمملكة ويرفض أي مساس بسيادة المغرب على كامل ترابه    الرياح القوية تلغي الملاحة البحرية بميناء طنجة المدينة    دوري أبطال أوروبا.. إنتر يواجه برشلونة من دون بافار    شبهات هجوم سيبراني بخصوص الشلل الكهربائي الشامل في إسبانيا    نزهة بدوان رئيسة لمنطقة شمال إفريقيا بالاتحاد الإفريقي للرياضة للجميع    يضرب موعد قويا مع سيمبا التنزاني .. نهضة بركان في نهائي كأس الكونفيدرالية الإفريقية للمرة الخامسة في العقد الأخير    أزيد من 3000 مشاركة في محطة تزنيت من «خطوات النصر النسائية»    الدار البيضاء.. توقيف عشريني بشبهة الاعتداء على ممتلكات خاصة    بوتين يعلن هدنة مؤقتة لمدة ثلاثة أيام    منتدى الحوار البرلماني جنوب- جنوب محفل هام لتوطيد التعاون بشأن القضايا المطروحة إقليميا وقاريا ودوليا (ولد الرشيد)    منظمة الصحة العالمية: التلقيح ينقذ 1.8 مليون شخص بإفريقيا في عام واحد    لماذا لا يغطي صندوق الضمان الاجتماعي بعض الأدوية المضادة لسرطان المعدة؟    هشام مبشور يفوز بلقب النسخة الثامنة لكأس الغولف للصحافيين الرياضيين بأكادير    403 ألف زاروا المعرض الدولي للكتاب بمشاركة 775 عارضا ينتمون إلى 51 بلدا    مزور يؤكد على التزام المغرب بتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين في إطار المنتدى الصيني العربي    مصر تفتتح "الكان" بفوز مهم على جنوب إفريقيا    ترايل أمزميز.. العداؤون المغاربة يتألقون في النسخة السابعة    ندوة توعوية بوجدة تفتح النقاش حول التحرش الجنسي بالمدارس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الذهب يهبط وسط انحسار التوتر بين أمريكا والصين    خط جوي مباشر يربط الدار البيضاء بكاتانيا الإيطالية    انطلاق جلسات استماع في محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل الإنسانية    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    بريطانيا .. آلاف الوفيات سنويا مرتبطة بتناول الأغذية فائقة المعالجة    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    ثروة معدنية هائلة ترى النور بسيروا بورزازات: اكتشاف ضخم يعزز آفاق الاقتصاد الوطني    شهادات تبسط مسار الناقدة رشيدة بنمسعود بين الكتابة والنضالات الحقوقية    "جرح صعيب".. صوت عماد التطواني يلامس وجدان عشاق الطرب الشعبي    مي حريري تطلق " لا تغلط " بالتعاون مع وتري    العرائش: عزفٌ جنائزي على أوتار الخراب !    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام وشروط تحقيق التعايش السلمي

التعايش السلمي مصطلح معاصر معناه القبول بالآخر المختلف إيديولوجيا ودينيا وعرقيا.
بالرغم من التقدم الذي أحرزته البشرية في مجالات احترام حقوق الإنسان وحق الأقليات في العيش المشترك، فقد استفحلت النزاعات واستمرت الحروب، وتمّ الركوب على تلك الآليات الأممية والمعاهدات الدولية، من أجل تدخل الدول الكبرى في شؤون الدول الضعيفة، تحصينا لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
وبعد الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق، طفت على السطح الصراعات الدموية الطائفية والإثنية والدينية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تمت صناعة خرائطها في مختبرات الاستراتيجية الأمريكية.
يؤكد بهذا الصدد الناقد السياسي الأمريكي البارز "نعوم تشومسكي" أن الغزو الأمريكي للعراق خلق انقسامات طائفية كبيرة، تولى تنزيلها على الأرض الحاكم المدني الأمريكي "بول برايمر" باقتدار كبير، وذلك من خلال فصله للطوائف والإثنيات إلى سنة وشيعة، وعرب وأكراد، ومسلمين ومسيحيين..في حين كانت التركيبة السكانية لمدينة بغداد سنة 2002 قبل الغزو الأمريكي، متجانسة بتواجد جميع الطوائف جنبا إلى جنب، والتعايش والزواج بينهم في تجانس تام، دون أن يسأل أحدهم الآخر عن الطائفة أو المذهب الذي ينتمي إليه، إلى غاية 2006 حيث توسع الخلاف الطائفي ليشمل المنطقة برمتها.
فكانت النتيجة ظهور تنظيمات متطرفة دموية، مثل "داعش"، تمتح من مرجعية جهادية خارج العصر، تستحل القتل على الهوية الدينية والتهجير القسري للأقليات الدينية أو العرقية، والذبح الطائفي، واختفى التعايش السلمي بين مكونات المجتمع الإسلامي الذي بناه الإسلام عبر قرون على قاعدة الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
مبدأ العيش المشترك في ظل الدولة التي بناها النبي صلى الله عليه وسلم:
عقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العهود والمواثيق مع الكفار ودعا إلى احترامها وعدم نقضها، تلك العهود التي تضع أسس التعايش السلمي المشترك، ولا تُلزم أحدا على الملة، بل تقرّ الاحتفاظ للجميع بدينه وشريعته واحترام معتقداته ؛ وذلك انطلاقا من مضمون سورة "الكافرون" (لكم دينكم ولي دين)،وأيضا بناء على عدة آيات قرآنية، كما في قوله سبحانه: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)، وقوله جل وعلا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
كان النبي صلي الله عليه وسلم أول من قام بالتطبيق العملي لما نص عليه القرآن الكريم من مبادئ التسامح مع غير المسلمين، وكانت بداية التطبيق العملي لمبدأ التسامح ذلك منذ قدومه صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة المنورة،فعمل على إبرام وثيقة/معاهدة بين المسلمين وطوائف المدينة، تؤسس لأسس العيش المشترك وحقوق الأفراد والجماعات وواجباتهم،من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وهي الوثيقة الدستورية الأولى، التي اشتملت على سبع وأربعين قاعدة في تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم.
و مما جاء فيها:
"وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم"؛ وهو بند ينص على ضرورة مناصرة المواطنين غير المسلمين والوقوف إلى جوارهم.
"وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته".
ومبدأ التعايش هذا من كليات الدين التي لا تقبل النسخ، ولهذا سار على نهجها الخلفاء الراشدون، ونكتفي هنا بما قررته "العهدة العمرية" لأهل القدس، بعد أن فتحها المسلمون على عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا نصها:
( بسم الله الرحمن الرحيم:
هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء "أهل القدس" من الأمان.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.. لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن؛ وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا أمنهم؛ ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية؛ ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم..فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم؛ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك: خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان).
فهذه الوثيقة التاريخية شاهدة على التسامح الإسلامي تجاه المخالف في العقيدة والدين، وعلى التعايش بين مكونات المجتمع الجديد..
أما فيما يتعلق بهذه الضريبة "الجزية"، فقد كانت تؤخذ منهم مقابل الدفاع عنهم، وتسقط عمن يدافع عن نفسه منهم.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده عند تفسير آية "الجزية": (ومتى أعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم ، والدفاع عنهم وعن حريتهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية ، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين ، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين).
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": (إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة..).
ويورد الأستاذ محمد عبده في تفسيره "المنار"عدة شواهد تاريخية على مبدأ "ضريبة الجزية مقابل الحماية"، نذكر منها شاهدين فقط:
الأول: ما كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب ، وبين شهر براز، كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهذا نصه:
(هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا ، وأن ينفروا لكل غارة ، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا، على أن يوضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك ، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء ، فإن حشروا وضع).
الثاني : ما كتب خالد بن الوليد ل"صلوبا بن نسطونا" حينما دخل الفرات وأوغل فيها، وهذا نصه :
" هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه ، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذمة والمنعة وما منعناكم ( أي حميناكم ) فلنا الجزية وإلا فلا ؟" ..
هذا وقد تولى غير السلمين مناصب سامية في هرم السلطة داخل الدولة الإسلامية، وهذا أكثر من أن يحصى، نشير إلى واحدة ذات دلالة:
يقول "المستر داربر" أحد المؤرخين وكبار الفلاسفة الأمريكان: (إن المسلمين الأولين فى زمن الخلفاء لم يقتصروا فى معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرا من الأعمال الجسام ورقوهم إلى المناصب فى الدولة..)
ويعرض فى هذا الصدد العديد من أسماء غير المسلمين الذين تولوا مناصب عامة فى الدول الإسلامية القديمة، من أبرزها "يوحنا بن ماسويه"، الذى وضع هارون الرشيد جميع المدارس تحت مراقبته، معلقا بأنه لم يكن ينظر الى البلد الذى عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذى ولد فيه بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة..
هذه المعاملة الراقية من المسلمين لأهل الذمة سببها وصايا القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بهم.
يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: " من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"؛
ويقول أيضا : "من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله"..
ويقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
وقد سار الفقه الإسلامي على هذا المنوال، حتى امتلأت كتب الفقه بقواعد وأحكام تنصف الأقليات الدينية وتؤسس للتعايش السلمي بين الطوائف، نذكر منها ما صحّ عن كبار مجددي المنهج السلفي الذي يزعم أولئك الجهلة أنهم يقتفون أثره ويمتحون من مرجعيته:
أولا: في كتابه النبوات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وكما دل عليه الكتاب والسنة..)
ويقول الإمام ابن القيم موضحا هذا المبدأ في (أحكام أهل الذمة): (القتال إنما وجب في مقابلة الحراب، لا في مقابلة الكفر..)
ويقول أيضا في (هداية الحيارى) ما نصه:
(ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تبيّن له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وإنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده).
ويجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (قاعدة في قتال الكفار) بقوله: (ولا يقدر أحد قط أن ينقل انه (أي النبي) أكره أحدا على الإسلام، لا ممتنعا، ولا مقدورا عليه، ولا فائدة من إسلام مثل هذا..).
ثم قال: (فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله، لم تكن مضرّة كفره إلا على نفسه).. أي أنه لا يكره على الإسلام ولا يقاتل.
قلت : والبشرية اليوم تتجه نحو مزيد من الحريات لذوي الرأي أن يبدو آراءهم، ولذوي الديانات والدعوات أن يبشروا بها حيث ما حلوا وارتحلوا، وأغلب التضييقات إنما هي: إما نتيجة مخالفة القوانين الجاري بها العمل (نموذج منع طالبة من الدراسة بسبب لباسها المحتشم)، أو بسبب الأحداث الإرهابية؛ فأخطر ما يضيق الخناق على الدعوة لدين الله اليوم هي تلك الأحداث الهمجية، فوجب محاربة المتلبسين بها، لا محاربة الكفار الذين لا يمنعون الدعوة إلى الرأي المخالف والدين المخالف، ونحن نرى انتشار الإسلام اليوم في بلاد الغرب والمساجد دون ما حاجة للفتوحات التي كانت الوسيلة الوحيدة في زمان الخلفاء ومن بعدهم.
شواهد على التعايش السلمي في الغرب الإسلامي:
ومن الشواهد التاريخية الدالة على التعايش السلمي في عصور الإزدهار بالغرب الإسلامي ، يكفي استحضار النموذج والمثال الأندلسي الذي تعايش فيه المسلمون ويهود الأندلس بسلام وطمأنينة، وخير دليل على ذلك طائفة يهود السفارديم التي طردت من الأندلس بقرار أصدره الملكان فريناندو وإيزابيلا في 30 مارس 1492م، والقاضي بأن يغادر سائر اليهود الذين لم يتنصّروا من إسبانيا في غضون أربعة أشهر من تاريخ القرار، ولا يعودوا إليها أبدًا، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة.
وما كان من هجرة يهود الأندلس السفارديم إلى المغرب وتعايشهم السلمي مع الموريسكيين حتى بعد سقوط الأندلس، كما ان أحياءهم كانت تقام في مواقع آمنة للمدن المغربية، تلك الأحياء التي تعرف باسم الملاح.
وفي العصر الحديث وقع هذا التعايش السلمي الذي يضرب جذوره في تاريخ المغرب في اختبار حقيقي في عهد الحماية الاستعمارية في تونس والمغرب والجزائر، عندما سقطت فرنسا في يد الاحتلال الألماني بعد غزوها سنة 1939 ، وتعيين ألمانيا النازية لحكومة فيشي، التي قامت بسن قوانين مماثلة لقوانين ألمانيا النازية ضد اليهود،إذ رفض المغاربة آنذاك باسم السلطان محمد الخامس،ومحمد المنصف باي في تونس، تلك القوانين العنصرية لحكومة فيشي، رفضها محمد الخامس، ومحمد المنصف باي أثناء التفاوض والتوقيع عليها، رغم أن السلطان كان في موقف ضعف نظرا للظرفية السياسية الاستعمارية آنذاك، فلم يسمح محمد الخامس لنفسه التمييز بين المغاربة وقبول إجبار المغاربة اليهود، الذين كانوا يشكلون ما نسبته 10% من سكان المغرب، تعليق الشارة السداسية، وتسليم لائحة للمواطنين المنتمين للطائفة اليهودية للماريشال بيتان، قائلا:
( لو فرضت هذه القوانين سأعتلي وأفراد عائلتي تلك النجمة السداسية).
عشر شروط لتحقيق العيش المشترك:
لتحقيق عيش مشترك تحترم فيه كرامة الإنسان وخصوصيات الأفراد والجماعات وحقوق الأقليات، لابد من توفر شروط تظللها قوانين يحتكم إليها الجميع، وتحترمها الدولة قبل الأفراد؛ ومن أهم هذه الشروط:
أولا : المساواة أمام القانون لكافة المواطنين بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين أو الموقع الاجتماعي.
ثانيا: احترام عقيدة وثقافة الأغلبية، وعدم التعرض لها بالاستفزاز أو التهكم أو الاستهزاء.
ثالثا: احترام حرية الرأي وحرية النقد، ، وتشجيع لغة الحوار والتسامح وثقافة الاختلاف بين مكونات المجتمع الواحد، وتجريم القذف و السب أو الاستهزاء بأي وسيلة كانت من وسائل التواصل والإبداع.
رابعا: عدم المس بالرموز الدينية أو الوطنية في الفضاءات العامة ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
خامسا:السماح بنقد الأديان والرموز الدينية والوطنية في الفضاءات الخاصة، مثل الندوات العلمية أو مراكز البحث المتخصصة أو أثناء الدرس الجامعي، شريطة أن يبتعد النقد عن الخوض في الأعراض أو الاستهزاء والتهكم.
سادسا : احترام حقوق الأقليات الدينية واللغوية والعرقية، وفسح المجال لتدريسها في شعب خاصة، وإيجاد الفضاءات الملائمة لتمثل تلك الحقوق، مثل المدارس ودور العبادة وقنوات إعلامية خاصة وغيرها.
سابعا: تجريم "التكفير" إلا أن يكون صادرا عن هيئة علمية وقضائية معترف بها من طرف الدولة.
ثامنا : تقليص الفوارق الطبقية من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي والإحسان للفقراء والمساكين والاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة.
تاسعا: إقامة العدل بين الناس، وتحقيق نظام ديمقراطي يوفر الفرص لكافة شرائح المجتمع المدني ان تتكتل في أحزاب ونقابات وجمعيات، وتقدم مشاريعها الإصلاحية للمواطنين من أجل اختيار الأصلح أو الأولى.
عاشرا : نقل هذه الشروط بعد تحقيقها على المستوى القطري، إلى المستوى الدولي لأننا اليوم تقلنا جميعا مركبة صغيرة، هي هذا الكوكب، إذا لم نحقق شروط العيش المشترك، فلن يكون البديل إلا مزيدا من المآسي والحروب وتهجير الملايين وانتعاش الإرهاب والاقتتال أو الهرج بالتعبير النبوي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.