الدولة الدينية المتنوّرة انتهت مع الأنبياء عرفت البشرية نموذجين للدولة الدينية: النموذج الأول هو الذي أسسه وبناه الأنبياء بوحي من الله جلّ في علاه، كمملكة داوود ومملكة سليمان عليهما السلام؛ قال تعالى :(يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)، أما سليمان عليه السلام فقد دعا ربه عزّ وجل فقال: (ربّ هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي)، فاستجاب الله دعاءه إذ قال جلّ وعزّ :(فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بنّاء وغوّاص وآخرين مقرّنين في الاصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب). وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة التاريخيّة بقوله فيما رواه البخاري: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون؛ قالوا فما تأمرنا؟ قال فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم)؛ وأحيانا كان ينفصل الملك عن النبوة في عهد بني إسرائيل كما حدثنا بذلك القرآن والتاريخ : (وقال لهم نبيئهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، قالوا: أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يِِؤت سعة من المال، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤت ملكه من يشاء). ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسّس أركان الدولة بالمدينة ووضع لها دستوراُ عرف ب"الوثيقة"، وهو أول دستور عرفته البشرية، فصل في العلاقات بين مكونات الدولة القبلية والدينية: قريش وأهل يثرب واليهود والمسلمين، في إطار قانوني واضح يعطي لكل ذي حق حقه، ويضبط العلاقات والتحالفات والحقوق، وكانت التشريعات يتنزّل بها القرآن ويطبقها النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه عزّ وجل، محذرا إياه من اتباع الهوى :(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أم يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون؛ أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). أول من سيعلن عن نهاية الدولة الدينية المتنوّرة التي يحكمها الأنبياء بتسديد من الله ووحيه، هو سيدنا أبوبكر الصديق الخليفة الأول رضي الله عنه، لمّا قام خطيبا في الناس مباشرة بعد أن بايعوه، حيث قال لهم: " أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني؛ الصدق أمانة والكذب خيانة، الضعيف فيكم قويّ عندي حتى أعيد إليه حقه إن شاء الله، والقويّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء؛ أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.." فالنبي لم يقل للناس: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني"، ولم يقل لهم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، بل كان يأمرهم بطاعته المطلقة في ما اتصل برسالته التي أوحى الله إليه بها، لأنه كان معصوما من الخطأ في ذلك، ولم يقل لهم: (وليت عليكم ولست بخيركم) كما كان يقول الخلفاء الصالحون، بل قال لهم: (إني أعلمكم بالله وأخشاكم له)، وقال للذي قال له: "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.." : (ويحك من يعدل إن لم أعدل؟)، وقال أيضا :(أنا خير ولد آدم ولا فخر)، وهذا لا يوجد في كلام الخلفاء الراشدين، بل كانوا يجتهدون في تنزيل الأحكام أو استنباطها من الكتاب والسنة أو استحداث قوانين وأحكام بقدر ما يحدث للناس من أقضية، وهم في ذلك كله يستشيرون غيرهم ويحملون الناس على آرائهم، ولا يزعمون لأنفسهم العصمة والقداسة، وإنما ظهر هذا في المجرمين الذين حكموا باسم الحق الإلهي ونسبوا لأنفسهم قداسة الأنبياء وعصمتهم كذبا وزورا ليأكلوا أموال الناس بالباطل، فأنشؤوا "الدولة الدينية الظلامية" التي تحالفت مع ملوك الإقطاع وحاربت العلم والعقل والحرية، وأدخلت أوروبا المسيحية في ظلمات الجهل لقرون، فلم يستيقظوا إلا على نور الإسلام الذي بنى حضارة هائلة شملت جوانب الحياة كلها، وهو النموذج السيئ للدولة الدينية، والذي علق بأذهان الناس إلى يومنا هذا، نموذج الاستبداد والقهر والتسلط في أسوء أشكاله. هل المغرب دولة دينية؟ المغرب الذي يرأسه اليوم أمير المومنين ويقود حكومته حزب بمرجعية إسلامية، اختار منزلة بين المنزلتين؛ فلا هو دولة علمانية تقصي الدين من الحياة العامة، ولا هو دولة دينية تحكم بالحق الإلهي، بل هو دولة مدنية بدستور صوت عليه أغلبية الشعب المغربي ينص على إسلامية الدولة، ويعطي حيّزا محدودا للفقهاء في ما يتعلق بالشأن الديني في إطار هيئة علمية يترأسها أمير المومنين، كما يعطي مساحة واسعة للمجتمع المدني بتشكلاته الحزبية والجمعوية والحقوقية والنقابية على اختلاف توجهاتها السياسية وانتماءاتها الإثنية والدينية واللغوية، وهذا الدستور غير منزّل من السماء، بل هو خاضع للتطوير والتغيير بحسب تطور المجتمع وحاجته إلى ملائمة قانونه الأسمى مع ما ينتجه من قيم متجددة قابلة للتكيف مع ما تعيشه البشرية اليوم من سرعة مذهلة في مجالات التواصل والاتصال، وتطور تكنولوجي هائل ألغى العديد من الخصوصيات الثقافية والحواجز الإيديولوجية، في عالم يتميّز بالصراع، عالم يحتكر فيه الأقوياء نسبة كبيرة من الثروات ونسبة أكبر من السلاح، ويسيطرون على الفضاء الإعلامي سيطرة شبه كلية، ويوظفون ذلك كله في خدمة مشروعهم الإمبريالي التوسعي الذي أضحى يهدد التوازن البيئي وينذر بمخاطر جمّة على حياة الإنسان فوق هذا الكوكب الذي يقلنا جميعا، وقد ارتفعت أصوات من هنا وهناك تنذر بالأسوأ. المغرب دولة صغيرة في هذا البحر المتلاطم الأمواج، لكنه متميّز بموقعه الجيوستراتيجي، فهو صلة الوصل بين الغرب المسيحي المنتج للتكنولوجيا، وإفريقيا السوداء الغنيّة بما في باطن الأرض من ذهب ومعادن، المفتقرة إلى عقول تحول ما في باطن الأرض إلى سد أفواه الجياع الذين تأكلهم المجاعات والحروب والجهل والاستعمار والأمراض. المغرب دولة صغيرة، لكنه متميّز بتاريخه العريق وحضارته التي استوعبت التنوع الإثني والإيديولوجي واللغوي والديني لحضارات عدّة مرّت من هذه الأرض منذ آلاف السنين، ثمّ استقرّت سفينته على احتضان آخر الرسالات السماوية :رسالة الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمرجعية القرآن العظيم، وهو الكتاب المهيمن على سائر الكتب قبله، كما قال تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه). اختار أجدادنا الأمازيغ هذا الدين واستقروا عليه، ونشروا رسالته في أوروبا وإفريقيا رحمة للعالمين، واعتنوا بلغته، وأسسوا الإمبراطوريات العظمى التي حكمت الأندلس وشمال إفريقيا لقرون تحت رايته (الدولة المرابطية والدولة الموحدية)، وبنوا المدارس والمستشفيات والمساجد ودور الأيتام، واعتنوا بالوقف الإسلامي، حتى جعلوا جزءا منه للطيور والبهائم المريضة، كما يشهد بذلك التاريخ القريب، كما طوّروا الفقه ونظموه في متون باللغة الأمازيغية، واختاروا المذهب المالكي المتميّز بأصوله وقواعده الغنية والمنفتحة على متغيّرات الواقع ومستجداته، ومنه استمدوا قوانينهم، واجتهد بعضهم في ملائمة أعرافهم معه، فيما عرف بالألواح السوسية، خصوصا أن المذهب المالكي يعتبر العرف مصدرا من مصادر الأدلة الشرعية فيما لم يخالف النصوص القطعية أو الإجماع والقياس المعتبر. قامت إذن الدول التي تعاقبت على حكم هذا البلد منذ الفتح الإسلامي على مرجعية القرآن والسنة في تشريعاتها وقوانينها، إلى أن جاء الاستعمار الحديث مطلع القرن الماضي، الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح معظم البلاد الإسلامية، وقام بنهب خيراتها، وأحدث تغييرا عميقا في بنية الدولة والمجتمع، لكنّه ووجه بمقاومة شرسة ألجأته إلى وضع آليات للتحكم عن بُعد في مصير تلك المجتمعات المستعمرة، من أهمها: أولا: تغيير أحكام الشريعة واستبدالها بالقوانين الأوروبية (الفرنسية عندنا)، إلا في مجال الأحوال الشخصية، أي أحكام الأسرة وما يتعلق بها من زواج وطلاق وحضانة وإرث...إلخ، وهذه كانت بداية علمنة الدولة، مع محاولات يائسة لنشر المسيحية، خصوصا في البوادي التي تعاني هشاشة أكبر. ثانيا: زرع نخبة فرنكفونية متغربة معادية لدينها وهويتها، تكونت في مدارسه وعلى يده، زرعها في مفاصل الإدارة المغربية التي أحدثها الاستعمار. ثالثا: خلق أقلية برجوازية مستحوذة على ثروات البلاد ونزع أراضي وأملاك من يد السكان الأمازيغ الأصليين ومنحها لتلك الأقلية، وجعل مصالحها مرتبطة بمصالحه. رابعا: نشر الخمر والدعارة على أوسع نطاق ("بوسبيير" أكبر ماخور بإفريقيا، تمّ إحداثه بالدار البيضاء على يد المستعمر)، وجعل عائدات تلك التجارة المربحة بيد بعض النافدين لضمان استمرارها ورعايتها وانتشارها على أوسع نطاق. خامسا: خلق بؤر للتوتر على الحدود من أجل استنزاف الدول المستعمرة في معارك لا تنتهي. سادسا: نهج سياسة "فرق تسد"، فالسياسية الاستعمارية كانت قائمة على النظرية الانقسامية؛ التي تقسم المغرب إلى بلاد السيبة وبلاد المخزن؛ ومن هذه النظرية الاستعمارية انطلقت فرنسا من منطق (فرق تسد) الذي حكم السياسة الاستعمارية، وأحدثت ما سميّ آنذاك ب"الظهير البربري"، من أجل التفريق بين الأمازيغ والعرب في القوانين. سابعا: إن أخطر آلية صدّرها الاستعمار من أجل استمرار هيمنته، هو ما يسمى ب"الدولة الحديثة" بأجهزتها القمعية، والتي أنشأها على أنقاض "دولة الشريعة"، وما يميّز الدولة الحديثة وعاؤها المادي المتمثل في أجهزتها المركزية المتمثلة في قوى الردع والقهر، كالجيش والشرطة والمخابرات والسجن، والنتيجة أن أصبحت الطبقة الحاكمة تمتلك السلطة والثروة معا وتديرها من أجل فرض الولاء لها بالقوة. لم يستطع الاستعمار أن يغيّر رأس النظام بالمغرب، رغم محاولاته، فعجز عن تصدير علمانية متكاملة، كما فعل في تركيا/أتاتورك أو تونس/بورقيبة، كما أنه اكتفى بتصدير شعارات الديمقراطية الفارغة من كل مضمون،بل صمّم على وضع أول دستور للمملكة في مطلع الستينات منطو على أصول الاستبداد. بعد رياح الربيع العربي كان للثورة مذاقها الخاص بالمغرب الأقصى، حيث أنها صادفت أجهزة الاستقبال غير معطلة بتعبير الأستاذ محمد اليازغي، كما وجدت ملكا شابا تفاعل بسرعة مع الأحداث، ووضع في خطابه التاريخي ل 9 مارس 2011 اللبنات الأساسية لدستور منفتح على القواعد الديمقراطية التي تؤسس لإشراك حقيقي للشعب في تقرير مصيره، دستور صوّت عليه المغاربة في فاتح يوليوز من نفس السنّة، ثم انتخبوا أول حكومة في ظل ذلك الدستور غير مطعون في شرعيتها يوم 25 نونبر من نفس السنة. وبعد هدوء العاصفة التي أطاحت برؤوس كبار في المنطقة تحركت آليات الدولة العميقة من جديد لعرقلة المسار الديمقراطي والعودة إلى عهد التحكم، وسيستمرّ هذا الصراع لبعض الوقت، لكن الذي نجزم به أن العودة إلى الاستبداد، سواء من خلال تزوير إرادة الشعب أو من خلال إحياء ثقافة الدولة الدينية البائدة، ستكلل بالفساد، ولو كان الثمن غاليا، (والله غالب على أمره وكن أكثر الناس لا يعلمون).