يعتقد المتطرّفون من شبابنا أن العلاقة بين الإسلام والكفر علاقة حروب وقتال إلى قيام الساعة، ويرون أن الأسلوب الوحيد للتعامل مع الشعوب الكافرة هو الجهاد والعنف حتى تخضع للشريعة كرها. وهذه الأفكار مقرّرة عند جماهير العلماء السابقين كما أوضحنا في مقالات سلفت، ومن بين حججهم الفارغة الواهية، ما رواه المحدثون والمؤرخون والمصنفون في السيرة النبوية من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمشركي مكة يوما: ( يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح ). وفي رواية أقبح وأنتن: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا بِالذَّبْحِ»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ. ه وهذا الكلام المنكر مكذوب على نبي الرحمة عندنا، لكنه حديث صحيح عند السابقين، ومحل قبول وتسليم عند المعاصرين. فالمتقدمون يدخلونه بكل سذاجة وغفلة في باب المعجزات ودلائل النبوة، وكأنهم لا يجدون ما يغني ويكفي. ويستشهد به المحدَثون على شجاعة رسول الله وثباته، وكأنهم لا يعرفون من أخباره ما يشفي. فغفر الله لهم هذا الخطأ الشنيع، وهدانا بعدهم إلى الصواب والفكر البديع. أقوال مضحكة: قال الإمام البيهقي في "دلائل النبوة": فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَوْعَدَهُمْ بِالذَّبْحِ، وَهُوَ الْقَتْلُ، فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، ثُمَّ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فَقَطَعَ دَابِرَهُمْ، وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَمْ». وقال الحافظ ابن رجب في كتابه: "الحكم الجديرة بالإذاعة بناء على الكذبة المبحوثة في هذا المقال: (وقد كان –يعني رسول الله- يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة...) وفي دروس سعيد بن مسفر (94/9): ثبت -أيضاً- من طرق صحيحة في مسند أحمد في بعض الأحاديث، أن أشراف قريش اجتمعوا... إذ طلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم... فقال لهم: (يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح)... وهذا يدل على قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته... وقال نبيل العوضي في دروسه(19/4): وكان يتحمل بعض أقوالهم ولكن بعزة، فجاءهم عليه الصلاة والسلام وقال: (...أما والذي نفس محمدٍ بيده، لقد جئتكم بالذبح) يعني: سوف يأتي يوم فيه جهاد، فيه قتال، أما الآن فسلم ودعوة بالتي هي أحسن... أبعد هذا تستغرب ما تعتقده التنظيمات "الإرهابية" وتمارسه من إجرام باسم الدين والجهاد؟ وإذا كنا نعذر العلماء المتقدمين على أخطائهم القاتلة، نظرا للعوامل السياسية والمذهبية والاجتماعية والعلمية المانعة لهم من التحقيق الجدّي النّزيه فيما يروى عن رسول الله من كلام مستهجن، فإننا لا نعذر "العلماء" و"الدعاة" المعاصرين، فقد ثبت لديهم بالمشاهدة ما تسبّبه "الأحاديث" العنيفة من تطرف لدى شباب المسلمين، وتوفّرت لهم الوسائل والظروف المساعدة على تمحيص الروايات وتحقيقها، لكنهم لا يملكون الجرأة على إعادة النظر فيما قرّره الأوائل، فهم أهل تقليد لا يبصرون، ويا ليتهم يعرضون عن تلك الأخبار المستقبحة شرعا وعقلا وخلقا، لكنهم لا يعقلون. وللموضوعية، فهناك قوم يتحرّجون من تضعيف القولة المكذوبة خوفا من تهمة الطعن في "السُّنة"، ويفرّون إلى التأويل المتكلّف المتعسّف: جاء في "فتاوى الأزهر" (7/359) عن المفتي جاد الحق علي جاد الحق: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد جئتكم بالذبح)، ليس المراد به المعنى الحقيقي للذبح، وإنما المقصود به معنى مجازي هو التهديد. قلت: صحيح أنه تهديد، لكنه حقيقة لا مجاز، وهل يعقل أن يهدّد نبي مستضعف قوما مشركين في عقر دارهم؟ وللأمانة، فقد وجدت رجلا واحدا ضعّف هذا القول المنكر المنسوب إلى رسول الله، وهو المفتي المصري عطية صقر في فتاوى الأزهر (10/123)، لكنه قصّر في تخريجه، وترك للعاطفيين المقلّدين مجالا لإبطال رأيه من الناحية الحديثية، فإنه عزاه للطبراني فقط، وهو في دواوين أجلّ من معاجمه الطبراني، ولم يبيّن أسباب الضعف. المحور الأول: إبطال الأكذوبة بمعارضة القرآن صراحة: إن رسول الله معصوم من التلفظ بما يعارض كتاب الله، والقولة المنسوبة إليه باطلة بنصّ القرآن، فهي مكذوبة جزما، وهذه أهم أوجه نقضها بالقرآن: الوجه الأول: إن القرآن المكّي خال تماما من أي إشارة إلى كون القتال أو القتل من شريعة مولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مشحون بالآيات الداعية له ولأصحابه إلى الصّبر على الأذى مهما اشتد، وعامر بالآيات الدالة على أنه لم يبعث جبارا ولا مسيطرا على قومه. والمقولة المروية عنه، تتضمن أن شرعته مؤسّسة على القتال والحرب أسلوبا ومنهجا، فهي ناقضة لكتاب الله، مكذّبة له، فتكون مختلقة مزيّفة لا محالة. ولا مجال للقول بأنه كان على دراية بالمرحلة المدنية حيث كان القتال، فإنه لم يكن يعلم ذلك، ولا أنه سيؤمر بالقتال، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الأخبار والأحكام إلا ما جاء في القرآن وفسّره له معلّمه جبريل عليه السلام. الوجه الثاني: إذا كان كتاب الله يقول للنبي، معلّما وموجها، في سورة "الأنبياء" المكية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، أي رحمة لكل الناس مؤمنهم وكافرهم، عربهم وعجمهم. وإذا كان القرآن المدني يؤكد رحمة سيدنا محمد بقومه المشركين، فيخبرنا أنه كان حريصا على عدم إهلاكهم، متألما بسبب ما هم فيه من عنت ومشقة، حيث قال سبحانه في آخر سورة التوبة مخاطبا المشركين المعتدين: ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ). فإن الرواية العنيفة المصحّحة عند علمائنا المساكين تخبر بعكس ذلك، إذ تنسب إلى رسول الرحمة أنه بعث عذابا ونقمة وحربا على قومه، فقبّح الله واضعها، وغفر لرواتها الدراويش الغافلين عن كتاب ربهم، المغترين بالمرويات كيفما كانت. ولأنني على يقين من أن المقلّدة سيعمدون للرّدّ عليّ بسياق آية الرحمة، فإنني مضطر لعرضها في سياقها مع الشرح والتأويل الرشيد. سيقولون: قال الله سبحانه: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء، وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ) فقوله تعالى: (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ)، تهديد صريح بوعيد شديد، وفي ذلك إشارة للقتال والجهاد قبل الهجرة، فيكون ما قلناه في الوجه الأول ساقطا. فنقول: إنكم واهمون متلاعبون بكتاب الله، فالوعيد الذي لم يكن رسول الله يدري أهو قريب أم بعيد، هو موعد القيامة وإدخال الكافرين النار، وهو واضح صريح في الآيات السابقة على ما ذكرتم، فقال الله جل جلاله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكتاب، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء، وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). الوجه الثالث: يشهد القرآن المكي لرسول الله بالإمامة في الأخلاق، فقال سبحانه في سورة "ن": ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ). ومن أخلاق الأنبياء أولي العزم الصبر والحلم والكلام الطيب اللين مع الفراعنة والمشركين تأليفا لقلوبهم، وطمعا في خضوعها لله. وقد تجلّت إمامته ونبوته العظمى في رفض إهلاك القرى التي أهانته وآلمته قبل الهجرة أكثر مما آلمه قريش، بل إنه دعا بالهداية والمغفرة لهم، وهذا هو خلق الأنبياء العظيم. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن مولاتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ». فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ». ويوم غزوة أحد، قتل خيرة أهله ومثّل به، وأدمي نبي الله وكادوا يقتلونه، فدعا لهم وقال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وترسخت نبوته ورحمته بقومه قبل ذلك، فكان يعلم ما يلقاه أصحابه الضعفاء من تنكيل وتعذيب كآل ياسر وبلال رضي الله عنهم، فيأمرهم بالصبر، ويعدهم الجنة، ولم يثبت أنه هدّد المشركين المعتدين بالقتل والذبح. لكن الرواية المنكرة تخبرنا أن النبي كان ناقصا في صبره وحلمه، قاسيا في قوله، لمجرّد أن بعض قومه تجمعوا حوله وضربوه بأيديهم، فداه أبي وأمي. إنه مشهد مهين مؤلم، لكنه بسيط مقارنة بجريمة أهل الطائف وأحد، وبما تعرض له أحبابه وإخوانه المستضعفون قبل الهجرتين، فلا يقبل عقل المؤمن، المستبصر بكتاب الله وسيرة رسوله المتواترة، أن تصدر تلك الجملة المنتنة من ذي الخلق العظيم ولو انفعالا، فهي كذبة وربّ الكعبة. الوجه الرابع: سبّحوا الله معي وصلّوا على نبي الرحمة: سبحان الله والصلاة والسلام على نبي الله. مباشرة بعد سورة الأنبياء المكية، تطالعك سورة "الحج" المدنية، الأولى تبدأ وتنتهي بالوعيد من الله لمشركي قريش بالنار يوم القيامة جزاء إعراضهم عن دعوة نبيه وعنادهم. والثانية تبدأ بالتأكيد على القيامة والحساب: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ...) ثم تلتفت إلى قريش فتقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). وهذه صريحة في أن سورة الحج نازلة بعد السنة السادسة، ففيها صدّت قريش المسلمين عن أداء العمرة، ويتأكد ذلك بالآيات المشرّعة لركن الحج فإنه كان بعد الحديبية. والعجب العجاب ليس هنا، بل في قول الله بعد ذلك بيسير: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...). فأخبرنا الله جل وعلا، وقوله الصدق، بأن قريشا ظلموا النبي وأصحابه، حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق، وكان الإخراج والتهجير إلى الحبشة ثم إلى المدينة بعد سنوات من التنكيل والاضطهاد لضعفاء المسلمين، ثم العزم والتخطيط لاغتيال رحمة العالمين. والسؤال الخطير الفاصل الآن: هل يعتبر اضطهاد من يهدّد قومه بالذبح والحرب والقتال عند امتلاك القوة مظلوما؟ الجواب: كلا ورب الجِنة والناس. إنه لو صحّ أن نبي الرحمة هدّد قريشا بقوله: (جئتكم بالذبح)، لكان اجتهادهم في حصار دعوته، ثم تنكيلهم بأصحابه، فسعيهم لاغتياله، ثم ملاحقته بعد هجرته وقبل استقوائه مقبولا عقلا وشرعا، وحينئذ لا يكون ما جاء في القرآن عن الظلم والاضطهاد حقا. فإما أن نصدّق كتاب الله الذي: ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، وهو الواجب عقيدة ومنطقا، أو نصدّق الرّواة والأخباريين، إذ لا مجال للتوفيق بين كلام الله الصّريح وتلك الرواية الخبيثة بأي وجه مقبول. ونحن مستعدون لتكذيب ما في الصحيحين وأجمع المحدثون على تصحيحه إذا ناقض كتاب الله، وقد فعلنا سابقا، فكيف بما شذّ عنهما واشتدت نكارته وفاحت نتانته، ونتحدّى من يعارضنا بقواعد الشريعة ومبادئ الدراية والرواية لا بالهوى والدعاية. المحور الثاني: إبطال الأكذوبة بالصنعة الحديثية: اعلم أيها المسلم المتحرّر من الهوى والتقليد الأعمى، أن كل حديث يناقض كلام الله أو السنة النبوية المتواترة أو الحسّ والعقل والحقيقة العلمية، سهل التضعيف استنادا إلى مبادئ علم الحديث الشريف، إذ يستحيل أن تجد حديثا سليما من العلل القادحة، كما قرّرها المحدّثون، ثم يعارض شيئا ممّا تقدم. وهذه قاعدة ذهبية يعلمها فقهاء الشريعة وحفّاظ السنّة، لكن الهوى المذهبي والهيبة من الأكابر والتقليد للمتقدمين موانع تحول دون تفعيلهم لهذه القاعدة الجليلة على كثير من الروايات والأخبار، ومنها رواية المقال المنكرة. ونحن نتوكّل على ذي القوة والعزة، الذي حرّرنا من العاطفة المعوجّة، وأنقذنا من التعصب للأقوال المرتجّة، ورزقنا الجرأة في الحق مهما زفرت النفوس المهتزّة. ومسلّحين بما علّمنا الله من مبادئ علم الحديث، نقيم الحجّة على نكارة ما أسموه حديثا، ونبرهن أنه كذبة مقحمة في قصّة صحيحة، لذلك سهل تمريرها على العلماء قديما وحديثا. الرواية المحفوظة المستقيمة: القصة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما ورد في هذه الروايات: الرواية الأولى: في مسند أحمد ح6908 وصحيح البخاري ح3678 و ح3856 و4815 وغيرهما عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا»، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}. الرواية الثانية: قال سيدنا أَنَس بن مالك: لَقَدْ ضَرَبُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: "وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ" فَقَالُوا: هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ الْمَجْنُون، فَتَرَكُوهُ، وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ. (مستدرك الحاكم، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، وأفراد ابن شاهين، والدرر في المغازي لابن عبد البر والمختارة للضياء، وصححها الحاكم والضياء المقدسي والذهبي وابن حجر). الرواية الثالثة: قالت سيدتنا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَعَدُوا فِي الْمَسْجِدِ يَتَذَاكَرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَقُولُ فِي آلِهَتِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا إِذَا سَأَلُوه عَنْ شَيْءٍ صَدَقَهُمْ، فَقَالُوا: أَلَسْتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: «بَلَى»، فَتَشَبَّثُوا بِهِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا، وَإِنَّ لَهُ غَدَايِرَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)، قَالَ: فَلَهَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَايِرِهِ إِلَّا جَاءَ مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. (مسند الحميدي، وسنن سعيد بن منصور، ومسند أبي يعلى، وشرح السنة لابن شاهين، ومستخرج الطوسي، والحجة لقوام السنة الأصبهاني، وحسّنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري). الرواية الرابعة: قال مولانا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، متحدّثا عن شجاعة مولانا أبي بكر: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ، فَهَذَا يَجَؤُهُ وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، يَضْرِبُ هَذَا وَيُجَاءُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ( مسند البزار وفضائل الخلفاء لأبي نعيم). النتيجة: هذه أربع طرق عن أربعة من الصحابة تتفق على مضمون واحد، ولا تختلف بينها بزيادة أو نقصان، ولا تنسب لرسول الله تلك الجملة الخبيثة البعيدة عن أخلاق النبوة. مصدر الأكذوبة المنكرة: وردت الأكذوبة من طريقين مسندين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطريق الأول المنكر: قال ابن إسحاق في سيرته: حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة ابن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاصي: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عدوانه؟ فقال لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط: سفّه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعاتنا، وسبّ آلهتنا، وصبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قال؛ فبيناهم في ذلك، طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى، ثم مرّ الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال: (أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح). فأخذت القوم كلمته حتى ما من رجل إلا ولكأنما على رأسه طائر واقع، وحتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليتلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فو الله ما أنت بجهول، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينا هم على ذلك، طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي يقول: كذا وكذا، لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر الصديق دونه يبكي ويقول: ويلكم، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)؟! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأكثر ما رأيت قريشاً بلغت منه قط. ومن طريق ابن إسحاق، أخرجه: أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والطبري في تاريخه، وابن أبي حاتم الرازي في تفسيره، والبزار في المسند، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن حجر في تغليق التعليق. وحسّنه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، والأرنؤوط في التعليق على مسند أحمد، وصحّحه أحمد شاكر وليس كذلك، والصواب أنه منكر ضعيف جدا، لا كما قال المقصّرون من القدامى والمحدثين، وهذه أسباب ضعفه، ونتحدّى من يناقشها بموضوعية: أولا: مخالفة المتن للروايات الصحيحة من وجهين: الوجه الأول: زادت الجملة المكذوبة التي لا نجدها في الروايات الصحيحة. الوجه الثاني: تضمنت الرواية المنكرة أن الرسول قال ما قال لكبراء قريش في يوم، وحاشاه من ذلك، لذلك ضربوه في اليوم الذي يليه، والرواية الصحيحة تذكر يوما واحدا، وأنهم ضربوه، فداه نفسي، لأنه يطعن في عقائدهم الجاهلية، وينفي ألوهية أصنامهم لا لأنه هدّدهم بالذبح. والرواية المخالفة بزيادة ما، يحكم عليها المحدثون بالنكارة إجماعا إذا كانت مروية من طريق ضعيف، وهذه كذلك. ثانيا: تدليس ابن إسحاق: محمد بن إسحاق المتفرّد إمام موثَّق، لكنّه مدلّس عند الجميع، والألباني والأرنؤوط وشاكر يعرفون هذه الحقيقة، لكنهم لم يأخذوا بها وقالوا: إن الرجل صرّح بالسماع عن شيخه يحيى بن عروة بقوله: "حدّثني"، فانتفى الانقطاع وسلِم السند من التدليس. وهذا صحيح، لكنهم يعلمون أن التدليس والانقطاع لا يرتفعان إلا إذا صرّح المدلّس بالسماع والاتصال في كل طبقات السند، وابن إسحاق لم يفعل هذا، فالعنعنة موجودة بين يحيى وأبيه، حيث قال: (حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة)، فاحتمال التدليس وارد بقوة وإن كان يحيى ابنَ شيخه عروة، لأن المدلسين يستغلون الأسباب التي تخفي تدليسهم كأن يكون الراوي مشهورا بالرواية عن شيخه أو قريبا له حتى ينجون من التهمة. والتدليس هو أن يسقط المدلس راويا بينه وبين شيخه، أو بين شيخه وشيخ شيخه إخفاء لعيوب الخبر القاضية بضعفه، إذ غالبا ما يكون الراوي المحذوف كذابا أو متروكا واهيا، خصوصا عند المؤرخين كابن إسحاق رحمه الله. والنتيجة أن طريقه منقطع، ويترجح كون الساقط كذابا بالطرق الأخرى عن عروة بن الزبير الخالية من تلك الجملة المنكرة. وعبارة: (أو كما قال) الواردة في متن ابن إسحاق تصرّح بوضوح أن قائلها غير ضابط لما يروي، فهو متردّد شاكّ، ويحتمل أن يكون هو يحيى أو عروة بن الزبير. فهي قرينة إضافية تؤكد إنكارنا لما نسب لنبي الرحمة من كلام فاحش. ثالثا: شذوذ يحيى: شذّ يحيى بن عروة، فخالف بتلك الزيادات رواية إمامين ثقتين، أولهما: محمد التيمي الذي أخرج روايته أحمد والبخاري، وثانيهما أخوه هشام بن عروة الذي سنذكر روايته في موضعها. ويحيى بن عروة بن الزبير قليل الحديث كما قال ابن سعد، ولم يخرج له الشيخان إلا واحدا، وأحاديثه غالبها غرائب، وسكت عنه البخاري وأبو حاتم في كتابيهما، وليس فيه توثيق صريح، وإن أورده ابن حبان في ثقاته، وما نسبه الحافظ المزي للنسائي من توثيق صريح فيه نظر، فإني لم أجد له ذكرا في كتبه، ولم أجد ما نسب إليه في مصدر موثق، وبناء على ما تقدم، فإن الحافظين الجليلين الذهبي وابن حجر تساهلا فقالا عنه في كتابي "الكاشف" و"التقريب": "ثقة"، وهما مشهوران بعدم إطلاق هذا الوصف على من يشبهون يحيى بن عروة، بل حرَما منه أئمة كثيرين مشهورين. والصواب عندنا أن يحيى في درجة "الصدوق" الذي يكون حديثه حسنا ما لم يخالف الأوثق والأكثر، وقد شذّ وخالف التيمي وهشاما، فروايته شاذّة إذا وثقناه، منكرة إذا ضعفناه. رابعا: اضطراب الروايات وشدة اختلافها عن عروة بن الزبير: إذا اختلفت الروايات عن راو معيّن، كان ذلك أمارة على ضعف حديثه عند العلماء، فيبحثون عن أصح الطرق عنه ويسمونها محفوظة راجحة، ويطرحون الباقي تحت اسم الشاذ أو المنكر. وقد وقفنا على أربع روايات مختلفة عن عروة بن الزبير، وآفة الأخبار رواتها: الرواية الأولى: رواية البخاري وأحمد عن محمد بن إبراهيم التيمي، وهي خالية من الزيادة المنكرة، وموافقة لروايات موالينا علي وأسماء وأنس، فهي المحفوظة. الرواية الثانية: صحّ من طرق عدّة عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عروة أنه قَالَ: سُئِلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ – وفي بعض الطرق: عبد الله بن عمرو - مَا أَشَدّ مَا رَأَيْتَ الْمُشْرِكِينَ نَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَشَدُّ مَا رَأَيْتُ مِنْهُمْ نَالُوا مِنْهُ قَطُّ أَنَّهُمْ عَدَوْا عَلَيْهِ يَوْمًا فَأَخَذُوهُ وَهُوَ يَطُوفُ، يَعْنِي بِالْبَيْتِ، فَأَخَذُوا بِجُمْعِ رِدَائِهِ فَلَبَّبُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ الَّذِي تَسُبُّ آلِهَتَنَا، وَتَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، أَنَا ذَاكَ» ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحْتَضِنُهُ إِلَيْهِ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا قَوْمِ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ قَالَ: وَعَيْنَاهُ تَسْفَحَانِ. (فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، وسنن النسائي الكبرى، وتفسير ابن أبي حاتم، ومعجم الطبراني الأوسط، ودلائل النبوة للبيهقي، وأمالي ابن بشران، ورؤية الله للأصبهاني، وتاريخ دمشق، وتغليق التعليق لابن حجر، وعلّقها البخاري في صحيحه). وهذه الرواية خالية من الزيادة المنكرة، فهي موافقة للأولى متنا، لكنها تضطرب في اسم الصحابي راوي الحدث، والظاهر أن هشام بن عروة كان يرويه عن أبيه عن عبد الله قبل اختلاطه، ثم صار يرويه عن أبيه عن عمرو بن العاص في آخر عمره، ورواية البخاري شاهدة. الرواية الثالثة: رواية ابن إسحاق عن يحيى بن عروة المنكرة. الرواية الرابعة: قال الإمام الثقة الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلمة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أَبِيهِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: أَكْثَرُ مَا نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ رَأَيْتُهُ يَوْمًا، قَالَ عَمْرٌو: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْ عُثْمَانَ ذَرَفَتَا مِنْ تَذَكُّرِ ذَلِكَ، قَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَدُهُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي الْحِجْرِ ثَلاثَةُ نَفَرٍ جُلُوسٌ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا حَاذَاهُمْ أَسْمَعُوهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ، فَعُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى وَسَّطْتُهُ فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي أَصَابِعِي حَتَّى طُفْنَا جَمِيعًا، فَلَمَّا حَاذَاهُمْ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لا نُصَالِحُكَ مَا بَلَّ بحر صُوفَهُ، وَأَنْتَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنا على ذَلِكَ». ثُمَّ مَضَى عَنْهُمْ، فَصَنَعُوا بِهِ فِي الشَّوْطِ الثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّوْطُ الرَّابِعُ نَاهَضُوهُ، وَوَثَبَ أَبُو جَهْلٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِمَجْمَعِ ثَوْبِهِ، فَدَفَعْتُ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ عَلَى اسْتِهِ، وَدَفَعَ أَبُو بَكْرٍ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، ثُمَّ انْفَرَجُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ وَاقِفٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَمَا وَاللَّهِ لا تَنْتَهُونَ حَتَّى يَحِلَّ بِكُمْ عِقَابُهُ آجِلا»، قَالَ عُثْمَانُ: فَوَاللَّهِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا وَقَدْ أَخَذَهُ أَفْكَلٌ، وَهُوَ يَرْتَعِدُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَبِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ»، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ، وَتَبِعْنَاهُ خَلْفَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ بَيْتِهِ، وَقَفَ عَلَى السُّدَّةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ، وَمُتِمٌّ كَلِمَتَهُ، وَنَاصِرٌ دِينَهُ، إِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَرَوْنَ مِمَّنْ يَذْبَحُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عَاجِلا»، ثُمَّ انْصَرَفْنَا إِلَى بُيُوتِنَا، فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قَدْ ذَبَحَهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِينَا. (أسنده الدارقطني في الأفراد، ومن طريقه يرويه: الخطيب في تلخيص المتشابه في الرسم، والضياء المقدسي في المختارة، وابن الأثير في عيون الأثر، وعزاه السيوطي في الخصائص لأبي نعيم) وهذا الطريق استغربه الدارقطني وابن طاهر المقدسي، وضعفه ابن حجر في "فتح الباري"، والحق أنه واه ضعيف جدا لجهالة عبد الله بن سلمة الزبيري، فإنه لا ترجمة له، وقد خالف الرواة عن عروة بن الزبير سندا ومتنا، لكن متن روايته مقبول. فأن يقول رسول الله للمجرمين: «أَمَا وَاللَّهِ لا تَنْتَهُونَ حَتَّى يَحِلَّ بِكُمْ عِقَابُهُ آجِلا»، معقول مقبول، لأن الله تعالى القائل في كتابه: (والله يعصمك من الناس)، لا يمكن أن يتركهم يقتلون حبيبه، فكان من المنتظر أن يُنزِل بهم عقابا وهلاكا لو عزموا على قتله صلى الله عليه وسلم. فالعقاب العاجل هنا هو صاعقة أو خسف على سبيل المعجزة. وأن يقول الحبيب لخاصة أصحابه بعيدا عن مسامع قومه المشركين: «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ، وَمُتِمٌّ كَلِمَتَهُ، وَنَاصِرٌ دِينَهُ، إِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَرَوْنَ مِمَّنْ يَذْبَحُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عَاجِلا»، مقبول أيضا، لأنه على سبيل النبوءة تطمينا وتثبيتا لقلوبهم، وهي نبوءة خاصة بالذين باشروا جريمة العدوان عليه وقتلوا يوم بدر. وقد وردت أسماؤهم مجتمعة في هذه القصة المشابهة: قال سيدنا عبد الله بن مسعود: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَثَمَّ سَلَى بَعِيرٍ، فَقَالُوا: مَنْ يَأْخُذُ سَلَى هَذَا الْجَزُورِ فَيَقْذِفُهُ عَلَى ظَهْرِ محمد؟ فَجَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَذَفَهُ علَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ. (رواه الشيخان وغيرهما). لكن رواية الزبير بن بكار لا تقوي الرواية المنكرة لأن إسنادها ضعيف جدا، ومتنها مخالف لا يشهد للنكارة. الطريق الثاني المنكر: روى مُحَمَّد بْنِ عَمْرٍو بن علقمة، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَوْمًا، رأيتهم وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ جَذَبَهُ حَتَّى وَجَبَ لِرُكْبَتَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَصَايَحَ النَّاسُ، فَظُنُّوا أَنَّهُ مَقْتُولٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا بِالذَّبْحِ» ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنْتَ جَهُولًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» (مصنف ابن أبي شيبة، وصحيح ابن حبان، ومسند الموصلي، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وصحّحه الألباني في التعليقات الحسان وصحيح السيرة، وحسّنه الحافظ الهيثمي، وحسين سليم أسد في التعليق على مسند الموصلي). قلت: وهذا أيضا ضعيف جدا لا يصلح في المتابعات والشواهد لهذه الأسباب: أولا: مخالفة الروايات الصحيحة بزيادة تلك الجملة المكذوبة، والصحيحة أكثر عددا وأنظف إسنادا. ثانيا: الاضطراب: رواه محمد بن عمرو في المصادر المتقدمة عن عمرو بن العاص، ورواه في "خلق أفعال العباد" للبخاري عن عَبْد اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثالثا: مخالفة الثقات عن أبي سلمة، فالحديث رواه الطبري في تاريخه الطبري (2/ 333 ط د ت) بإسناد صحيح خاليا من تلك الزيادة المكذوبة، فقال: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ رَأَيْتَ الْمُشْرِكِينَ صَنَعُوا برسول الله ص قَالَ: أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَرَسُولُ الله ص عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، وَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ الله ص، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا قَوْمُ: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ» إِلَى قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ». رابعا: ضعف ابن علقمة: محمد بن عمرو بن علقمة المدني، ضعفه جمهور النقاد من جهة حفظه وضبطه، وسكت عنه البخاري في تاريخه، وأخرج له هو ومسلم في المتابعات فقط فهو ضعيف عندهما، وقال ابن حبان في ثقاته: (كان يخطئ)، وفي تقريب التهذيب لابن حجر: (صدوق له أوهام)، وأدخله السيوطي في المدلسين. وترجمته في الجرح والتعديل، والكامل في الضعفاء، وضعفاء العقيلي، وضعفاء ابن الجوزي، وتهذيب التهذيب. وفي الجرح والتعديل عن ابن معين قال: كان محمد بن عمرو يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. ه والنتيجة أن ابن علقمة ضعيف، وكان يسمع الأخبار المنقطعة، ثم يختلق لها إسنادا إلى رسول الله على سبيل التوهم والخطأ، وهذا ما حصل له مع هذه الرواية. فقد كان تلميذا ليحيى بن عروة راوي القصة المنكرة عن أبيه، وكان تلميذا لأبي سلمة الذي يروي القصة الصحيحة الخالية من النكارة كما سيأتي، فسمع ابن علقمة الحديث المستقيم من أبي سلمة، وسمع الرواية المكذوبة من يحيى، ثم نسي بفعل الزمن وضعف حفظه، فنسب الرواية المكذوبة لأبي سلمة. وجعله القصة للصحابي عمرو بن العاص مرة، ولابنه عبد الله مرة، دليل قاطع على نسيانه وتوهمه وتخليطه، ومن نسي اسم الصحابي حقيق به أن يخلط بين روايات شيوخه من غير تفرقة بين المحفوظ والمنكر منها. خامسا: التدليس: ابن علقمة معدود في المدلّسين، ولم يصرّح بسماع الخبر الملفّق من شيخه أبي سلمة بل عنعنه، فليس بعيدا أن يكون سمعه من كذاب محرّف ينسبه للتابعي الثقة أبي سلمة، فأسقطه وأخفاه مستغلا شهرته بالتلمذة لأبي سلمة. الخلاصة المنطقية: رواية ابن إسحاق وابن علقمة منكرة واهية جدا للعلل الحديثية المتقدمة، والضعف الشديد مانع من الاعتضاد بكثرة الطرق، أما إذا أضفنا مناقضتها لكتاب الله، فإننا نجزم بكونها من قسم المختلق المكذوب، لذلك سميناها "كذبة". وقد رأيت الحافظ ابن حجر يذهب للقول بتعدد القصة من أجل دفع الاضطراب في الصحابي أهو عبد الله أم عمرو، وهو تلفيق سخيف منه رحمه الله، لضعف الأسانيد من جهة، ومخالفتها روايات الثقات من ناحية، ولأن عمرو بن العاص كان مشركا خلافا لعبد الله الذي كان من السابقين، فالسؤال يوجّه حتما لعبد الله. ورواية عبد الله بن سلمة الزبيري واهية سندا، مخالفة للرواية المنكرة متنا، فلا يتمسّك بها لتقوية روايتي يحيى بن عروة ومحمد ابن علقمة إلا من يختار العمى ويتبع الهوى. التحدّي الاضطراري: نشأ المقلّدة على إنكار عطاء الله وفتحه لمعاصريهم، وتربّوا على غمط الناس حقوقهم، وتشرّبوا خرافة: "لم يترك السابقون للاّحقين ما يضيفون ويحقّقون". ومن هذه المنطلقات، فإن بعض "المتعصّبين" ينكرون علينا معرفتنا بصنعة علم الحديث، ويعزون في صفاقة تخريجنا لطرق ما نبحث من أحاديث إلى المواقع الإلكترونية والموسوعات الرقمية كالمكتبة الشاملة. وبلغت الحماقة ببعضهم أن يزعم إمكانية تخريج أي حديث من خلال الموسوعات والمواقع في أقل من ساعة. ونقول لهؤلاء المساكين: نعم، إننا نستثمر الموسوعات الرقمية لأنها نعمة الله علينا بواسطة سادة الدنيا الغربيين. لكن، يعلم الباحثون المتخصصون أن تخريج أي حديث اعتمادا على المكتبات الرقمية يتطلب خبرة عميقة بعلم الحديث، وصبرا جميلا على تقليب صفحات المصادر وقراءتها بطولها للتأكد من علاقة المنقول بالحديث محل البحث. ويعلم المنصفون أن ترتيب طرق الحديث، والتمييز بين المتابعات والشواهد عمل جبار لا يطيقه الجامدون الأغمار. ويدركون أن دراسة السند الواحد تتطلب البحث عن تراجم كل رواته، وما قيل فيه من تجريح وتعديل، والترجيح بين أقوال النقاد المختلفة المتفاوتة، والتأكد من اتصالها وخلوها من العلل القادحة، وتتعقّد المهمة كلما تعدّدت الطرق. ثم ينتقل للبحث عن وجود الشواهد من عدمها، وتكون الشواهد إذا روى الحديثَ الواحدَ صحابيان فأكثر. وهناك قضايا أخرى يعرفها الراسخون، ويستهين بها الغافلون. ومن باب التحديث بنعمة الله، وتحدّيا للجامدين، فإننا أكملنا بحثنا في هذا الحديث بعد ثلاثة أيام، تخلّلتها مشاغلنا وعلاقاتنا المتشابكة، فنحمد الله على ذلك. وقد خرّجنا الحديث، ودرسنا كل طرقه سندا ومتنا، إلا طريقين واهيين منكرين منقطعين معضلين، وتعمّدنا عدم توثيق النقول بالجزء والصفحة، فنتحدى المنكرين علينا فضل الله، الزاعمين القدرة على التخريج في أقل من ساعة، أن يعيدوا تخريج هذا الحديث وترتيب طرقه، والحكم على أسانيده، واستخراج الروايتين المهملتين، مع التوثيق بالجزء والصفحة حتى نتأكد من أنهم لم يسرقوا جهدنا. ونمهلهم شهرا كاملا يبدأ من تاريخ نشر هذا المقال، وموعدنا مع نتائجهم في "هسبريس" أو المواقع التي فيها ينشرون. وإلى ذلكم الحين، نحيّيكم أيها الموافقون والمخالفون. *أستاذ التربية الإسلامية، وخريج دار الحديث الحسنية، وخطيب جمعة موقوف بسبب مقالاته [email protected]