صور أمسينا نراها ونشاهدها كلّ يوم ... صور، ومشاهد، ومعايشات،ولقطات أصبحنا نلمسها فى كلّ ركنٍ قصيّ ، أو مدينة نائية ، أو قرية بعيدة، أو ضيعة مغمورة فى بلدنا هذا الأمين.. صور غدت تترى أمامنا ، قد نعيرها إهتماماً، وقد نغضّ الطرف عنها .. إلاّ أنها أبداً قاطنة فى جوارحنا، ساكنة فى أفئدتنا، متغلغلة فى أعماقنا، منتصبة نصب أعيننا ،متعشعشة فى ثبج عقولنا، ولصيقة عالقة بثنايا، ومنعرجات، وعناكب دهاليز ذاكراتنا الوهنة .. إنها هناك ما إنفكّت تتسابق، وتتلاحق، وتتسابق، وتتفتق فى مجتمع متفاوت فسيفسائي الشّكل، واللون، والبنية...هذه واحدة من تلك الصور المعاشة على أيامنا ، والتي عشناها فى زمن مضى وانقضى وذهب لحال سبيله مهموماً أو حميداً بأهله، وقومه، وأناسه ،وذويه، ما فتئنا نطلق عليه ونسمّيه ،ونَسِمُه بالزّمن الجميل ..ونتبجّح متحسّرين قائلين : أنْ ليس فى الإمكان أبدع، ولا أروع، ولا أمتع ممّا كان..! تقدّم بخطى وئيدة متثاقلة نحو حديقة عمومية صغيرة تقع فى مرتفع يطلّ على البحر، أخذ مكانه على أحد المقاعد الخشبية المستطيلة التي تتوسّط الحديقة ، أسند ظهره إلى جذع شجرة عتيقة، أخذ يسرح بنظره فى الشاطئ الجميل الواقع بين أخدود جبلين شاهقين، يطلق عليه أهل البلد " الشاطئ المحروق"، تحوّل نظره إلى الصّخرة الكبيرة التي تتوسّط الشاطئ، التي طالما إرتادها وهو صغير،كان يجيد السباحة كالضفادع، ومن أعلاها كان يقفز إلى عرض البحر، تحوّل برأسه نحو جذوع أشجارالإيوكاليبتوس الكثيفة الجافة التي تحوط بالسّاحل، تبدّت له موحشة مقفرة، لم تعد كما كانت أيّام الصّبا مخضرّة مورقة باسقة . لم يكن يهمّه من أمر هذه الدّنيا شئ، كانت آماله صغيرةً فى حجم مدينته الصغيرة ،لم تكن هذه الآمال تتخطّىّ مرتفعات الجبال والآكام المحيطة بالمدينة من كلّ جانب. كانت الدنيا بريئة هادئة ، لم يكن يشغله من أمرها، ومتاعها، ومتاعبها شئ على الإطلاق، لم يكن يطيق المدرسة ، كانت بالنسبة له سجناً رهيباً ينغّص عليه متعة الطفولة ، وبهجة الحياة الطليقة ، ويحرمه من الإستمتاع بأجمل أوقات العمرالبريئ، كان لا يستطيب من هذه الدنيا سوى اللّهو واللّعب بشتى ألوانهما. -آه يا والدي العزيز كم بذلتَ من الجهد المضني من أجلي، كم علا سَوْطكَ وصَوتكَ ونزلا عليّ نزولَ الصّاعقة، ولكن بدون جدوى. الوعيد والتهديد كانا لا يزيدانه إلّا التعنّت والفرار من الواجب، والمزيد من الإنغماس فى ملذّات الحياة التي تتواءم وعمرَه الصغير. كان والده يتمنّى له أن يصبح مهندساً أو طبيباً عندما يكبر، بل أحيانا كانت تشطّ به الأحلام بعيداً فكان يقول له: - فى يوم من الأيّام ستصبح ذا شأن كبير يا ولدي..! منذ سنوات وهو يعمل فى ورش لميكانيكا السّيارات ، إنه عمل شاقّ ومضن، ولكنّ ظروف الحياة الصّعبة ، أرغمته على إمتهان هذا العمل الذي قبله على مضض، وساعدته عضلاته القوية على مزاولته ،وكثيرا ما تساءل : - ترى لو كنت واهنَ القوى ، ماذا كنت سأصنع..؟ ظلّ يحدّق فى صفحة البحرالصّافية ، التي كانت تبدو له كبحيرة هادئة طفقت تتلألأ فى حمرة مذهّبة لإنعكاس لون الغروب عند الشّفق عليها ، وبين إنحناءات أخاديد الجبلين العاليين بدأ هيدبٌ من ضباب خفيف يَتَدَلَّى ويتدنّى فى بطء ، وبدا وكأنّه يطفو على صفحة الماء. خيّل إليه أنّه قد تأخّرعن العودة إلى البيت ، قام لتوّه ، كان يرتدي لباس العمل، وقد علقت به مختلف أنواع الزّيوت ومواد التشحيم من جرّاء إحتكاكه بالأرض فى كلّ حين تحت بطون السيارات المهترئة فى ورشة عمله ، كانت تفوح منه رائحة غريبة ،إشمأزّ من نفسه فقرّر العودة إلى البيت ، وضع يديه فى جيوب سترته فتحسّس محفظته الصغيرة التي لم يكن بداخلها سوى بطاقة هويّته الشخصيّة، ضغط عليها بأصابعه بشدّة،وإتّجه نحومسكنه مطأطئ الرأس، شارد الذهن، كئيبا حزينا قد هدّه الملل، وأضناه الضّجر من تعاقب الرّتابة عليه، وتكرار ما فعله بالأمس، وأوّل أمس،وما سيقوم به غدا، كان من فرط سأمه وحزنه يشعر وكأنّ فى قلبه قد شبّ حريق، ويكاد أن يضيع بين قدميه الطريق، تقدّم مُثقل الخطى يرمي بعينيه هنا وهناك علّهما تقعان على شئ ثمين بين نفايات الشارع ، ولكنه لم يعثر أبداً على شئ ذي قيمة. لاحظ تجمّعا كبيراً بالقرب من السّاحة المقابلة لملعب كرة القدم بالمدينة الذي يقع فى الطريق إلى بيته ، دفع به الفضول ليعرف ماذا كان يجري هناك ، فإذا بالناس قد تجمّعوا وتجمهروا للتفرّج على عرض سينمائي كان يقدّم بالمجّان فى الهواء الطلق كانت تقيمه بعض القوافل السينمائية المتنقلة بين الوقت والآخر. إندسّ بين الجموع وقد شعر ببعض السّعادة تغمره منذ أن ترك تلك الورشة اللعينة التي لا ينقطع عنها الضجيج، ولا تكفّ فيها الضوضاء من أوّل النهار إلى أوّل الليل، تركّزت عيناه على الشّاشة الكبيرة الموثوقة إلى عمودين كبيرين يتوسّطان السّاحة، وصار يتتبّع ما كان يجري عليها من أحداث، كان فقط يتتبّع الصّور، ولم يكن يفهم شيئا من الحوار الدائر لكثرة الزّحام، وكأنّ المدينة كلّها قد تجمّعت هناك. صاح فيه بعض الواقفين وراءه من المتفرّجين : - إبتعد قليلا لقد حجبت عنّا الرؤية.. إلتفت نحو الجهة التي جاء منها الصّوت فإذا به شاب هزيل الجسم ، نحيف البنية ، غائر العينين يرتدى معطفا رثّا و طاقية بالية يخفي بها مرضا برأسه ..لم يجبه بل رضخ لأمره وغيّر مكانه . إندسّ ثانية بين جموع أخرى حاشدة من البشر ولكنه ما أن إستقرّ بمكانه الجديد حتى إنتهى إليه صوت آخر يصيح : - ألم تجد مكانا غيرهذا..؟ نحن هنا منذ الظهيرة ! إلتفت نحو صاحب الصّوت فإذا به فى حالة ليست أحسن من حالته ، فلم يعره إهتماما هو الآخر، وغيّر مكانه للمرّة الثانية فى هدوه بعد أن شقّ طريقه وسط الجموع المحتشدة باحثا عن مكان آخر ، وما أن رفع رأسه من جديد ليتتبّع الفيلم حتى إنتهى إلى سمعه صوت ثالث، وبنبرة غاضبة هذه المرّة، صاح فيه : -إبتعد من هنا أيّها القذر.. إلتفت خلفه فإذا برجل سمين الخلقة فى الثلاثين من عمره ذي عينين جاحظتين، ووجنتين محمرّتين، رمقه بنظرة فاحصة ثمّ أدار رأسه نحو الشّاشة من جديد ولم يأبه بكلام الرّجل إليه، بل ظلّ واقفا بثبات فى مكانه ، وما هي إلاّ لحظة حتى شعر برفسة شديدة على ظهره كادت تفقده صوابه، غلي الدم على إثرها فى رأسه ، لم يتمالك نفسه، ولم يدْرِ كيف إستدار وهوى على أمّ رأس الرّجل بضربة قوية أردته طريحا على الأرض فى الحين، إلتفت إليه الواقفون، و نهض الجالسون وإختلطت الأصوات ، ظلّ ينظر مشدوها برهة إلى الرجل السّمين الذي لم يعد يتحرّك ،إنقضّ عليه بعض مرافقيه وهمّوا بالإمساك به، ولكنّه صدّهم جميعا وهرول صوب ناحية أشجار الصنوبر،التي يطلق عليها أهل البلد " الصّفصاف" الكثيف المنتشر خلف الملعب الذي كان يغلفه الظلام ، لم يتفطّن حتى وجد نفسه قد بعد عن مكان الحادث ، إلتفت حوله علّه يرى أحداً فلم يتعقبه أحد. كان يلهث لهاثا متواصلا من فرط السّرعة والركض اللذين قطع بهما هذه المسافة، لم يدر كيف فعل ذلك، أسند ظهره إلى جذع شجرة عظيمة تحت عباءة ظلام دامس وصار يتأمّل مصيره ، محاولاً إسترجاع شريط ما جرى له متسائلاً مع نفسه : - تُرىَ مَنْ يكون الرّجل..؟ هل هو من رجال السّلطة ..؟ أم هو من رجال المخابرات السرّييّن المندسّين خفية بين الجموع لدرء القلاقل، وإخماد الفتن، وشلّ أيّ تحرّك بعد مظاهرات صاخبة عرفتها المدينة مؤخّراً ...؟!. - الرّجل الذي سقط مغشياً على ظهره لابدّ أنه يعرفه ..بل حتماً عرفه بعض الحاضرين ، إذن ماالعمل..؟ لماذا لم يتحرّك الرّجل..؟ هل أرداه قتيلاً أو أغمي عليه فقط..؟ أما كان له أن يتروّى قليلاً ؟ كيف خانته أعصابه ..؟ سرح بفكره بعيداً يتخيّل الأمورَ وإِلاَمَ ستؤول إليه عواقبها، شعر بتعبٍ شديد،وإرهاقٍ مفرط فقرّر العودة إلى البيت ، وهو يقول فى نفسه : - فليكن ما يكون فى علم الله. عندما دلف إلى البيت كان أبواه وأخواته يغطّون فى نوم عميق ، سَرَى على بنان رجليه فى هدوء، فى جنح الليل ثمّ إستلقى على مرتبة بالية من غير أن يخلع عنه ثيابَ العمل، ظلّ يحدّق فى العتمة الحالكة الموحشة الرّهيبة التي كانت تملأ الغرفة، ومنظر الرّجل المُسجى على الأرض لا يحيد من أمامه، قهقه عالياً بدون إرادة منه ، ردّت جدران الغرفة صدَى قهقهاته، ثمّ أسلم نفسَه لسلطان النوم . *عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- (كولومبيا).