كان الجوّ حارّاً قائظاً، القطار يقطع المسافات في سرعةٍ خارقة، المسافرون حيارىَ، ارتسمت علامات الشّدوه على وجوههم، الزّوابع والتوابع تهبُّ علينا بين الحين والآخر، الأشجارُ والأحجارُ والمباني تعود الزّمانَ والمكانَ القهقرىَ أمام زحف القطار فى إصرار مُذهل، وسرعةٍ فائقة، أرخىَ الليلُ سدوله، بدأت أشعّة القمر تتسلّل بين المرتفعات والآكام، راعَ الناسَ ما رأوا، صار كلُّ واحدٍ منهم ينظر إلى الآخر فى عُجْبٍ وذهول. فمنذ خرُوج القطار من ذلك النفق المُدلهمّ انقشع كلّ شيء أمام أعيننا، تغيّر كلّ شيء في لمحٍ من العين، وكأنّ الدّنيا قد أضاءت بعد ظلام، واخضرت بعد إقفرار، تغيّرت ألواننا، وأشكالنا، وسِحننا. التفت ناحية اليمين لأرى جليسي في المقعد، فإذا بقبّعته الإفرنجية قد تحوّلت إلى عمامةٍ زرقاءَ داكنة، وها هي ذي ملامحُ مُحيّاه تتبدّل كذلك لتفقد بياضَها، وتكتسب بشرة الوجه لوناً يميل للسّمرة يشبه لونَ الأرض. أخذ جليسي يُحدّق في وجهي وكأنّه يعرفني منذ قرون خلت، كانت دهشتي عظيمة أنا الآخر عندما رأيته يُمعن النّظرَ في الجهة التي تعلو رأسي، ولم تكد ضحكته تتفجّر من فيه حتى ردّت صداها المقصورة التي تغصّ بحفنة من المسافرين الذين كان مُعظمهم يغطّ في نوم عميق. بعد ما أصابهم ما أصابنا من تغيّرٍ في السِّحن، واللسان، والأردية. -أيُّ دابةٍ هذه التي نركبها يا صَاح…؟ كاد لساني يغرق في جوفي، فرّكتُ عينيّ وأذنيّ، كيف يحدّثني هذا الإفرنجي الأشهل بلسانٍ عربيٍّ فصيح.. ؟ لم أتردّد، ولم أترك للدّهشة مجالاً لتعتريني، بل رددتُ عليه على الفور بلغة الواثق من نفسه : -إنهّا حكمة الله يا أخي، وأنْعِم بها من حكمة. وأردفتُ: - من أين وإلى أين…؟ -من مجريط العامرة وإلى إشبيلية الزّاهرة. عندما توطدّت صلاتنا، وتأكّدتُ من حسن طويّة الرّجل ونيّته، انقشعت غمامة الحيرة بيننا، وصار يسألني في انشراح عن أحوال بلنسيّة، وشأن مُرسية، وعن أخبار قرطبة وشاطبة، ومآل غرناطة وجيّان إبّان زمان الوصل بالأندلس. فاعتراني الشّدوه ثانيةً إلاّ أنني تظاهرتُ بأننّي على علمٍ بأخبار هذه الحواضر والأصقاع جميعِها فقلت : - لا جديد.. كلّ شيء على ما كان عليه. وكان في اعتقادي أنّني تنصّلتُ من سؤاله إلاّ أنّه سرعان ما قاطعني: - تلك حكمة الإله، فلكلِّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ.! عندما طفقتْ أشعّةُ الشّمسُ تتوسّط كبدَ السماء، وصل القطارُ المحطةَ الواقعة في وسط المدينة العتيقة، فإذا بجموع من البشر في أثواب بيضاء ناصعة يمشون الهوينىَ، فى زحمةٍ بدون اكتظاظ، وعجلةٍ دون إسراع، وروائح الطيب ونسائم الزّهر تملأ الأجواءَ عبقةً، فوّاحة. نزلنا أنا وصاحبي واختلطنا داخل الجمع الغفير، فجرّنا مدّه الحاشد حتى ألفينا أنفسَنا داخل المسجد الأعظم، وقد انطلق صوت المُؤذّن حلواً رخيماً سُمع صداه فى كل المدن والقرىَ، والمداشر، والضّيع والأصقاع. صاح الإمام فى الجموع : " أمر يعقوب المنصور الموحّدي خلال إقامته بإشبيلية بعد انتصاراته فى شنترين بعمل التفافيح الغريبة الصّنعة، العظيمة الرّفعة، الكبيرة الجرْم، المُذهبّة الرّسم، فرُفِعتْ فى منارنا هذا بمحضره. وحضر المهندسون فى إعلائها على رأيه مركّبة على عمودٍ عظيم من الحديد إلى الهواء. كان عدد الذّهب الذي طليت به هذه التفافيح، سبعة آلاف مثقالاً كباراً يعقوبية. ولمّا كملت سترت بالأغشية من شقاق الكتّان لئلاّ ينالها الدّنس من الأيدي والغبار، وحُملت على عجَل مجرورةً حتى إلى الصّومعة بالتكبير عليها والتهليل ثمّ رُفعت بالهندسة إلى أعلى الصومعة، ووُضعت فى العمود وذلك يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر من عام أربعة وتسعين وخمسمائة وعندما كشفت عن أغشيتها كادت أن تغشي الأبصارَ من فرط تألقها بالذّهب الخالص الإبريز وبشعاع رونقها". كنت كمن أغمي عليه، فرّكتُ عيني، ثمّ جمعت حقائبي، وتقدّمتُ بخطىً وئيدة متثاقلة، قطعتُ الميدان الكبير، وامتطيت سيّارة أجرة نحو الفندق الذي يقع قبالة صومعة الخيرالدة، صاح سائقُ التاكسي وهو يمرّ بمحاذاة سور "الجامع الكبير": سِنيُورْ،سِينيُور رْوِينَاسْ أرَابِيسْ، رْوِينَاسْ أرَابِيسْ. فأدركتُ أنّه كان يقول لي إنّها آثارنا، إنها آثارنا. قهقه ثمّ نفث دخاناً كثيفاً من فمه واستمر فى سَوْقه فى اتجاه الفندق. بينما سرتُ أنا أتمتم فى همس، وأقول فى نفسي: أجل إنها آثارنا. إنها آثارنا...! ما أن استلقيت على السّرير حتى ظهرت لي مدينة إشبيلية الفيحاء الفسيحة تتوسّطها صومعة الخيرالدة كواسطة عقدها النفيس عالية سامقة، شامخة، مشعّة تناطحُ عنانَ السّماء، تعلوها مجموعة من النواقيس، سرعان ما بدأت تقرع. وتدعو الناسَ للصّلاة، مثلما كان يفعل المؤذّن منذ قرون خلت. كان الجوّ صحواً، هادئاً، ساكناً وقد بدأ الغسق يكسو أسوارَ المدينة بألوانه الحمراء القانية بينما تتراءى أشجارُ البرتقال، والليمون والنارنج، تملأ الحدائقَ ذات الطابع الإسلامي الأصيل التي تنتشر فى مختلف أرجاء المدينة. دنوتُ من النافذة، وصرتُ أتأمّل الثمارَ المدلاة من أغصان الأشجار الباسقة. نظرتُ إلى أسفل فكدتُ أفقد عمامتي، أعدتها إلى رأسي، وعاودتُ تثبيتها، طفقتْ ريحُ الصّبا تأتي من كلّ صوب، محمّلةً بنسمات الطّيب، والمِسك، والعَنبر، والفل والقرنفل، والياسمين، والرّياحين، مختلطة بحلو الكلام، وعذب الأنغام، تبدّتْ لي وسط الرّصافة نخلة تناءت بي عن بلد النّخل، ومياه، وأنهار، وأشجار، عالية مختلف ألوانُها وأشكالُها، يصل حفيف أوراقها أسماعي من بعيد، ويدغدغه خرير مياه النافورة العتيقة التي تتوسّط الحديقة، الاثنان يئنان يبكيان معاً العهدَ والجدَّ والدّارَ، يشكوان فى تناغم أبديٍّ مبكٍ بُعْدَ الدّيار، وشَحْطَ المَزَار. طفقتِ الطيورُ المغرّدة بالأدواح الشّاهقة تبعث أنغاماً رخيمة تختلط فيها ومعها أصواتُ زرياب، والموصلي، بقوافي ابن خفّاجة، وابن زيدون، وحمدونة بنت المؤدّب، وولاّدة بنت المستكفي، وابن سهل، وابن زُمرك…التفت داخلَ الحجرة، فقرّرتُ أن أخلد للنّوم بعد أن أخذ التّعبُ منّي كلَّ مأخذ، لم أجد تفسيراً للصّور التي تتراءى لي، وتلازمني ولا تبرحني.. القطار، العمائم الحمائم، الأذان، النواقيس، الخطيب، المصلّون، الخليفة، التفافيح، الطيور، الثمار، الأشعار...! استعذت بالله، لعلَّي أقصي عنّي ما يتراءى لي من صور، وأشباح وأخيلة تختلط ما بين النّوم، واليقظة، وبين أضغاث أحلام تعود بي إلى زمان الوصل بالأندلس، حاولتُ أن أستجمع كلّ قوّاي العقلية، والنفسية وأقنعها أنّني جئتُ إلى هنا لأخذ قسطٍ من الرّاحة والاستجمام، إلاّ أنّ أصداء الأنغام الرّخيمة ما برحت تلازمني، وما فتئت أصوات نواقيس الكنائس تصدح فى الآفاق وما زلتُ فى حيرةٍ من أمري. الصّمت يملأ المكان، وعيناي ما زالتا مفتوحتين تحدّقان فى الظلام الدامس تستجديان الكَرىَ فى خنوع، ليس من ضوء سوى شعاع القمر الذي يتسلّل من النافذة فى شكل ذرّات مبعثرة، متناثرة سابحة فى فضاء الغرفة.. ترى لماذا يتضاعفُ ضوءُ القمر فى هذه المدينة...؟ أخالني حيناً أنّني قد نمتُ، أو مكثتُ برهةً بين اليقظة والمنام، وأظنّني حيناً آخر أنّني ما برحتُ أقاوم شياطينَ الجنّ والإنس التي تتمرّغ فى دهاليز عقلي، وتسبح فى أحشائي وتتمرغ بين أضلعي، وتحيلني إلى بوتقة اجتمعت فيها كلّ الحِقب الزّمانية السالفة التي غبرتْ، وخلتْ، ومضتْ، وانقضت، وذهبتْ لحال سبيلها… ربّاه ماذا أصنع...؟ تتلاطمُ الأصوات، وتتزاحمُ الصّور، ما انفكت الكلمات تنثال منهمرة على فمي بدون رابط أو قيد: يا أهلَ أندلس للّه ذرّكمُ…. ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجار.. أنظروا بعدنا إلى الآثار…. يا زمانَ الوصل بالأندلس… وجاؤوا بأنفاطٍ عظامٍ كثيرةٍ… يحطّمون أسوارَ المدينة المنيعة … يا حسرتي للعلم أقفرَ ربعُه… إذ يقود الدّهرُ أشتاتَ المُنى… ما جنّة الخُلدِ إلاّ فى دياركمُ… أتى على الكلِّ أمرٌ لا مَردَّ له… يروعُ حصاه حاشيةَ العذارىَ…فتلمس جانبَ العِقد النّظيمِ ! أيّ سعيرٍ هذا الذي أتلظّى فيه أضغاث أحلام، وأشلاء أشعار، وبقايا صُوَر، العمائمُ، والحمائمُ ما زالت تشكّل قوسَ قزحٍ حولي حتى كدتُ أتحوّل إلى أثير تائه فى عباءة هذا الليل البهيم، أو أغدو روحاً حائرة، هائمة، تحوم حول مساجد، وكنائس وبيع قرطبة، وغرناطة، وطرابلس، وطليطلة، والفسطاط، وحِمص، وإشبيلية، ودمشق، وبيروت، وبغداد، والقاهرة، وشاطبة، وفاس، ومرسية، ويثرب، وجيّان، والقيروان، ومرسية، ووهران، وبادس، والمزمّة، وتطوان… باحثةً عن هذه الحبّات الثماني المتناثرة الثمينة التي فرّط الزّمنُ أطرافَ عِقدها النظيم. فتحتُ عيني فى إجهاد، كانت أصواتُ البّاعة المتجوّلين تصلني من بعيد، وغنائيّات حسناوات إشبيلية، وضرباتُ أرجلهنّ، وتصفيقات أكفهنّ تداعبُ سمعي ممزوجة بأصوات هديل الحمائم، وزقزقة العصافير، وخرير المياه المتدفّقة من النافورة المرمريّة البلّورية التي تتوسّط السّاحة العمومية الكبرى، نهضتُ لتوّي، واتجهت نحو النافذة التي تطلّ على السّاحة. فإذا بضوء الشمس يكاد يذهب ببصري يشعّ وهّاجاً فى “برج الذّهب” وينعكس على صفحة نهر” الوادي الكبير” الذي يشقّ المدينة الجميلة نصفين التي كانت ذات يومٍ من أيّام الله الخوالي من أبهى حواضر الأندلس والتي كان للخليفة الشاعر المنكود الطالع المُعتمد بن عبّاد فيها السلطة والصولة، والصّولجان. مرّت ثلاثة أيام فى لمحٍ من البصر وعندما عدتُ إلى مدريد وجدتُ بالبريد ظرفاً، فتحته على عَجل، فإذا بداخله دعوة لحضور حفل كبير تقيمه ذلك المساء إحدى المؤسّسات الثقافية الإسبانية الكبرى بمناسبة ” الذكرى الثمانمائة لتشييد الخيرالدة “، طويتُ الدّعوة فى هدوء، أدخلتها فى أحد جيوب سترتي. ابتسمت، دلفتُ إلى داخل البيت، نزعتُ عنيّ ملابسي، لأنزلَ على السّرير منهوكاً كجلمودِ صخرٍ حَطّه السّيلُ من عَلِ...! *كاتب، من المغرب عضو الأكاديميّة الإسبانيّة الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا - كولومبيا.