تغيير اسم شارع في طهران إلى "باقر النمر" الدرس الذي لم يُستوعب، من جديد أتاح تطبيق السعودية لحكم الإعدام في حق رجل الدين الشيعي البارز، نمر باقر النمر، الفرصة لإيران حتى تمارس الضغوط على الرياض. لكن بعد مرور يوم واحد فقط على اعتراض طهران على حادث الإعدام، حدثت واقعتان قلبت الأمور رأساً على عقب، وسلبت زمام المبادرة من يد طهران وسلمتها للسعودية. الهجوم والاعتداء على المقرات الدبلوماسية السعودية في كل من طهران ومشهد، كان واحداً من ردود الفعل المنفعلة والمتسرعة، والتي لم يستحضر فيها مخططوها، كائناً من كانوا، مصلحة إيران على جميع الأصعدة. أما الفعل الثاني المتسرّع والمتهوّر، بوصف المتتبعين الإيرانيين قبل الأجانب، هو قرار تغيير اسم الشارع الذي تقع فيه سفارة السعودية في طهران، من "بوستان" إلى "الشهيد نمر باقر النمر". وقد تم إعداد لوحة الاسم الجديد ونصبها في أقل من 12 ساعة على مصادقة مجلس المدينة على التسمية الجديدة. لكن بعد مرور 10 أيام على ذلك القرار المتعجّل، طلبت وزارة الخارجية الإيرانية رسمياً من مسؤولي العاصمة محو اسم الشيخ النمر وإعادة تسمية الشارع بنفس الإسم السابق. يدل كلٌّ من الإجراء المتسرّع لمجلس المدينة وطلب وزارة الخارجية بوضوح على الازدواجية التي تتخبط فيها مراكز القرار الإيراني. إذ لو كان قرار مجلس المدينة تغيير اسم الشارع صائباً ومدروساً، لماذا يجب على وزارة الخارجية أن تطلب إلغاءه وإعادة الإسم السابق ؟ وإذا كان طلب وزارة الخارجية في محله، لماذا أقدم مجلس المدينة على اتخاذ مثل هذا القرار دون الرجوع إلى وزارة الخارجية ؟ هذان مجرد مثالين يمكن تعميمهما على باقي القرارات المتخذة في طهران، حيث لا يدرك المتتبّع كيف يُتخذ قرار يكون له تداعيات سلبية على البلاد، على مدى سنوات وعقود، بهذه العجلة ومن دون الرجوع إلى المسؤولين الكبار ؟ وهنا نستحضر مثالاً آخر لمثل هذه القرارات يعود بذاكرتنا إلى أوائل الثورة الإسلامية، وهو تغيير اسم شارع في طهران إلى مسمى "الشهيد خالد إسلامبولي" قاتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات. شارع باسم قاتل أنور السادات: أصدر مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال الشهور الأولى لانتصار الثورة الإسلامية قراراً بقطع العلاقات مع مصر، وذلك على إثر توقيع أنور السادات على معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل. ومازالت هذه العلاقات مقطوعة إلى يوم الناس هذا. وبعد مدة قصيرة سيتعرض أنوار السادات للاغتيال على يد مصري إسلامي يسمى خالد إسلامبولي. هذا الأخير سيحكم عليه بالإعدام، ويصنف إرهابياً في العالم العربي. غير أن إعدامه كان فرصة مواتية لإيران كي تنتقم من مصر على استقبالها لشاه إيران وتوقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل. فبادرت إلى تغيير اسم شارع وسط طهران كان يحمل اسم "الوزراء" إلى اسم "الشهيد خالد إسلامبولي". اسم شارع يحول دون تطبيع العلاقات: مضمار السياسة مليء بالمرتفعات والمنخفضات، ولاشيء فيه ثابت على حاله. لا العداوات دائمة ولا الصداقات. خلال سنوات حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك ومجيء الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي، الذي بنا سياسته الخارجية على نبذ الصراعات وإصلاح ذات البين مع الجيران والعالم الخارجي، وأسس سياسياً، وروّج لمفهوم حوار الحضارات، أتيحت الفرصة لقادة البلدين ليلتقيا بعد 24 سنة من القطيعة في دجنبر من سنة 2003 في جنيف السويسرية. سنوات بعد ذلك، سيسافر الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى إيران لتسليم رئاسة منظمة دول عدم الانحياز لإيران. وفي نفس الإطار سيقصد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد القاهرة لحضور قمة دول منظمة التعاون الإسلامي. والمثير أن هذه الدينامية حصلت في ظل قطع العلاقات السياسية بين الدولتين. ومنذ ذلك الوقت وإيران، وهي التي بادرت إلى قطع العلاقات مع مصر، لا تفوّت فرصة للتودد إلى القاهرة والتقرب إليها طمعاً في عودة المياه إلى مجاريها واستعادة الصلات من جديد. لكن مصر كانت تمتنع عن ذلك، حتى في عهد الحكومة الإصلاحية، لسبب وحيد وبسيط جداً، وهذا السبب ليس إلا رفض إيران تغيير اسم الشارع الذي يحمل اسم شخص تعتبره مصر "إرهابياً" وتعتبره إيران "شهيداً"، وهو شارع "الشهيد خالد إسلامبولي". إصرار مصر لعقود على تغيير اسم هذا الشارع يرجع إلى موقفها المبدئي الذي يقوم على استبعاد تطبيع العلاقات مع نظام يحتفي بقاتل رئيس مصري وينعته بالشهيد ويخلّد اسمه. فمن وجهة نظر المسؤولين المصريين فإن مرجعية أفراد مثل أيمن الظواهري ومئات المصريين المتطرفين المنتمين إلى التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش تتقاطع مع مرجعية أمثال خالد إسلامبولي. فكلهم يعتنقون فكر الإسلام السياسي الجهادي. وبحسب المصريين السؤال الموجه إلى إيران هو كيف تعتبر أيمن الظواهري إرهابياً في حين تصف خالد إسلامبولي ب"الشهيد"؟ باقر النمر وأسامة بن لادن: لسنا هنا في صدد مناقشة مرجعية خالد إسلامبولي وأيمن الظواهري الفكرية، هل هي واحدة أم متفاوتة، لكن القصد هو أن كل نظام يعطي لنفسه الحق في تحديد الصديق من العدو انطلاقاً من المعايير والقوانين التي يضعها هو. وعليه، فمصر تقول لإيران : عليكم أن تختاروا واحداً من اثنين، إما نحن أو خالد إسلامبولي. وهنا يجب أن نتصور لو أن دولة أجنبية أجرت اتصالات بشخصيات وأحزاب منحلة في إيران، ماذا سيكون رد فعل طهران ؟ والآن لنفترض أن دولة كمصر أطلقت على شارع في القاهرة اسم شخصية إيرانية معارضة للنظام الحاكم. من دون أدنى شك فإن إيران لن تقبل بهذا من الدولة التي تدعي أنها تربطها علاقات عادية بطهران ولا بنعت معارض لها بصفة "الشهيد". وهذه هي النقطة السوداء التي عرقلت إعادة العلاقات بين طهرانوالقاهرة لقرابة أربعة عقود، ومن شأنها أيضاً تجميد العلاقات بين طهرانوالرياض. وزير الخارجية السعودي عادل الجبير كان قد صرّح أنه، لا يوجد، حسب رأيه، فرق بين إرهابي يسمى باقر النمر وآخر يدعى أسامة بن لادن. إلى أي حد يمكن أن يكون حكم السعودية في هذا الموضوع صائباً أو مجانباً للصواب، ليس معياراً تماماً. المعيار هو أن طهران لا يمكنها أن تدّعي الاحتفاظ بعلاقات عادية مع الرياض في حال تسعى حثيثاً إلى الإضرار والعبث بأمنها من خلال دعم من يثير الفتن والطائفية ووصفه بالشهيد، وتخليد اسمه. موقف وزارة الخارجية الإيرانية: إذا كانت إيران ترى نفسها محقة في التوجس من معارضتها، فللسعودية نفس الحق أيضاً. لقد حاولت وزارة الخارجية الإيرانية كثيراً أن تحل عقدة شارع خالد إسلامبولي وتتخلص بالتالي من النقطة السوداء في علاقة طهران-القاهرة. لكن مجموعات الضغط واللوبيات في الداخل الإيراني حالت دون ذلك، ولم تسمح بتحقيق هذا المبتغى. وهذه المجموعات ليست على استعداد للتنازل والاستسلام للمعايير والموازين التي تحكم العلاقات بين البلدان، تماماً كما فعلت، بكل أريحية، ونقضت حصانة المقرات الدبلوماسية للبعثات الأجنبية مراراً وتكراراً. ما يهم هو أن طلب وزارة الخارجية إزالة اسم نمر باقر النمر هو موقف صحيح ينبني على المعايير المتعارف عليها دولياً في العلاقات بين الدول. من ناحية أخرى، يجب التسليم بأن علاقات الرياض-طهران لا تمت بأية صلة إلى علاقات طهران-القاهرة. السعودية دولة نفطية كبرى، وهي منشأ الإسلام وبلاد الحرمين، قبلة المسلمين، وعضو مؤثر في مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، كما أنها عضو مجموعة العشرين، أقوى عشرين دولة اقتصادياً في العالم. بهذه الرؤية، فإن أي قطع للعلاقات بين إيران والسعودية، لأمد بعيد لن يكون أبداً في صالح إيران. وتاريخ العلاقات بين البلدين شاهد على هذا، حينما استشعر الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني خطر هذا القطع فوضع كلام مرشد الثورة، الإمام الخميني حينها (إذا عفونا عن صدام فلن نعفو عن آل سعود)، تحت أقدامه، وبادر إلى ترميم العلاقات مع الرياض من جديد. ومن هذا المنطلق أيضاً، يمكن توقع تجاوز إيران لقضية إعدام باقر النمر، لأن إعدام رجل دين شيعي سعودي لا يوازي مرارة مقتل مئات الحجاج الإيرانيين سنة 1987 في الحرم المكي. *أستاذ متخصص في اللغة الفارسية وآدابها - باحث مهتم بالدراسات الإيرانية والمقارنة (جامعة شعيب الدكالي - الجدديدة)