أفرزت الانتخابات التشريعية الإسبانية الأخيرة أوضاعا جديدة وغير مألوفة في المشهد السياسي الإسباني، فقد شهدت بروز أحزاب جديدة من قبيل "بوديموس" وصعود أخرى مثل "سيودادنس"، وتقهقر تاريخي في نتائج الحزب الاشتراكي، وتراجع الحزب الشعبي. ويستمر الاستثناء ليمتد إلى عدم حصول أي حزب من الأحزاب الفائزة، منها الحزب الشعبي الفائز، على أغلبية مطلقة تسمح له بتشكيل الحكومة، وأخيرا عدم إدراك أي انسجام بين الكتل الحزبية الفائزة لتشكيل ائتلاف وتحالف وتوافق حزبي لتشكيل الحكومة. ذلك ما عسر ولادة الحكومة، وجعل الحزب الشعبي يتخلى مرحليا عن تشكيلها، فأي قراءة لهذا المشهد؟ وهل هي نهاية عهد وبداية عهد جديد؟ وما مآلات ذلك على وحدة إسبانيا ومستقبل الأحزاب التقليدية؟ الحزب الشعبي والتحالف مع الغريم التقليدي من أجل وحدة إسبانيا الحزب الشعبي يعجز عن كسب تحالف باقي التيارات السياسية لتشكيل الحكومة، ويترافع سكرتيره العام ورئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية، ماريانو راخوي، بشرعية الحزب في تولي رئاسة الحكومة، بالنظر إلى عدد أصوات الإسبان التي منحت ثقتها للحزب الشعبي، وهي تزيد على سبع مليون صوت، وبوحدة إسبانيا، التي يهددها إعلان كاطالونيا عن ورقة للاستقلال عن إسبانيا، وتضامن الإسبان والإقلاع الاقتصادي الذي حققه بعد الأزمة، و في ولايته الحالية. إلا أنه لم يجد بين الأحزاب الفائزة من يصغي لمرافعاته ودعواته، وقد صرح للملك أنه إلى تاريخ الجمعة الماضي لم يجد الأصوات الكافية، وأن الأغلبية المطلقة تعارضه، ورفض المرور أمام البرلمان لتشكيلها بسبب ذلك، دون أن يعلن تخليه المطلق، وقد منحه الملك فرصة ودورا ثانيا للمشاورات مع الأحزاب، ويبدو أنه اكتشف أنه بقي شيخا هرما وسط كتلة من قادة الأحزاب الشابة. الحزب الاشتراكي.. لعبة الكل من أجل مستقبل بيدرو سانشيز والحزب الاشتراكي، الذي أجل مؤتمره، يجد سكرتيره العام، بيدرو سانشيز، الذي أعلن مسؤوليته عن تدهور النتائج الأخيرة، يتحين فرصة إعلان ماريانو راخوي الانسحاب من الترشيح، أو تقدمه وعدم منحه الثقة، أو انتهاء المدة الدستورية الممنوحة للحزب الشعبي الفائز، ليعلن ترشحه. وسيكون مدعوما بحزب "بوديموس" واليسار الموحد، وامتناع "سيودادنس"، ليعلن ترشيحه لرئاسة وتكوين حكومة الإئتلاف التقدمي، وهو الملجأ الوحيد لبيدرو سانشيز من أجل مجده الشخصي، ونجاة قاربه الذي يغرق، ومن بعده الطوفان للحزب واسبانيا، ومن أجل ذلك قبل التحالف مع "بوديموس"، الذي يريد أن يحل محل الحزب الاشتراكي نفسه. فالأصوات والمقاعد التي يفقدها الحزب الاشتراكي تؤول ل"بوديموس"، وترى بيدرو سانشيز يقبل بشرط إجراء الاستشارة في كطالونيا والباسك لضمان أصوات الحزبين القوميين وتحالف "بوديموس". وتخلى عن تعديل الدستور من أجل الفدرالية، التي كان ينادي بها لتجاوز أزمة الحكومة المستقلة في كطالونيا. وهو ما جعل رئيس الحزب سابقا ووزير الداخلية سابقا ألفريدو روبالكابا يصرح أن التحالف مع "بوديموس" شتيمة. وقد يكون راخوي سلم لسانشيز بتخليه هدية تسمم الحزب وتغتاله. حزب "بوديموس" يتخلى عن وعوده الانتخابية من أجل أولويات المواطن الاسباني أما حزب "بوديموس"، فإن أمينه بابلو اكليسيا يرى أن أبواب السماء تفتحت له لدخول الحكومة لأول مرة ومباشرة بعد أول انتخابات، وهو أسر للملك قبل أي أحد أنه وفي حالة عجز الحزب الشعبي فسيشكل حكومة بتحالف مع الحزب الاشتراكي وكنائب للرئيس بيدرو سانشير، وهو مستعد للتخلي عن أولويات شعاراته الانتخابية من أجل أولويات المواطن الاسباني. فهل هو تكتيك من بابلو اجليسيا لتقاسم السلطة والحقائب أولا ومن بعده ينتقل إلى تجسيد شعاراته ووعوده الانتخابية؟ على أية حال فبابلو سانشيز أخذ وقته يستمتع بآلام ماريانو راخوي، وينتظر سقوطه الأخير ليعلن عن تكتيكاته، ويلمح ل"بوديموس" أن الأهم التوافق على البرامج والسياسات وليس على الحقائب! حزب "سيودادنس" وسيط وحارس الدستور وضامن استقرار الحكومة ومسقطها أما "سيودادنس"، فإنه يظهر نفسه كوسيط بين الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي، وبحنكة مبهرة من قائده البير ريفيرا يريد أن يقول وأن يبرهن للإسبان أنه الأذكى، فهو حارس الدستور، وهو القادر بسلبيته وامتناعه أن يضمن بقاء الحكومة الاشتراكية بتحالف "بوديموس" والحزبين القوميين الكطلاني والباسكي، إن تحققت الشروط وتم تشكيلها. وهو القادر فيما بعد لو تمت على إسقاطها بسحب الثقة منها بتحالفه مع الحزب الشعبي، في حالة تهديدها لوحدة إسبانيا وغيرها، وفي ذلك سيكون الفائز الأكبر فيما بعد، وسيضاعف ذلك من حظوظه المستقبلية، ويدعم مركزه، ويطرح نفسه بديلا جديدا للحزب الشعبي. من يفكر في وحدة ومستقبل اسبانيا وتضامن الإسبان؟ وقد يكون الأفضل لإسبانيا، ولوحدة اسبانيا، واقتصاد اسبانيا، وللأحزاب التقليدية؛ الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي، لو تحالفا تحالفا تاريخيا وضروريا، من أجل ضمان الوحدة لاسبانيا، وضمان مستقبلهما كحزبين تاريخيين. أما الوضع الحالي فهو يهدد الجميع، بما فيه إسبانيا الموحدة، ويهدد الثنائي الحزبي التقليدي، الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي، اللذان يتداولان على السلطة منذ دستور 1978، كما أن الأزمة تهدد الملكية في وجودها، والتي بدأ النقاش قبل تنازل الملك خوان كارلوس لابنه الملك الحالي فليبي دي بوركون السادس، لاحتواء النقاش ولكونه الوقت المناسب قبل صعود أحزاب قد تعرقل انتقال تلك السلطة، وهو ما ظهر من النتائج الحالية لو تم تأخير التنازل. ومن مصلحة الجميع؛ ملكية وأحزاب تقليدية والوحدويين، توافق الحزبين العريقين لقطع الطريق أمام الأحزاب القومية واليسار الراديكالي، التي تنظر إلى الملكية والأحزاب على أنها الحائل دون تحقيق استشارات الاستقلال باستعمال الدستور. قد يكون هذا الحراك سنة من سنن التطور، لكن الوحدة والمستقبل ليسا رهانا انتخابيا، فهل سيضطر الإسبان العودة إلى الصناديق لتقويم المعادلات وتصحيحها قبل فوات الأوان!؟ هو خيار لن يعرف إلا بعد انصرام 29 من مارس أو ثاني أبريل على أبعد تقدير إن لم تحصل مفاجآت. *خبير في القانون الدولي، والهجرة ونزاع الصحراء