يستطيع أي طالب مبتدئ في مجال العلوم السياسية أن يلاحظ مستوى الارتباك الذي طغى على الأداء الحكومي في تدبير قضايا الحركات الاحتجاجية التي خرجت إلى الشارع في السنتين الأخيرتين، وأن يقف بسهولة على تخبط المسؤولين الحكوميين في معالجة القضايا الاجتماعية المستجدة بفعل قرارات غير محسوبة العواقب. ولعل المتمعن في طريقة تدبير الأزمة الأخيرة، والتي همت ملف الأساتذة المتدربين لا يمكنه إلا أن يندهش من تعنت الحكومة، وإصرارها على المضي في تنزيل مرسوميها موضوعي الاحتجاج، رغم صراخ المتضررين، وهمس الحكماء من رجال السياسة والفاعلين المدنيين والأكاديميين، وتهافت المبررات التي تستند إليها الحكومة في موضوع فصل التكوين عن التوظيف، وتخفيض منحة الأساتذة المتدربين. يجدر بنا القول بداية أن ما تقدمه الحكومة من مبررات، من قبيل الحرص على الجودة، وتوسيع دائرة المستفيدين من التكوين في مهن التربية والتكوين، ليست غير شعارات جوفاء لا يقبلها عقل، لأن طرق الجودة معروفة تمر عبر مسالك بيداغوجية وتدبيرية خاصة لا يختلف بصددها المتخصصون في سن السياسات التعليمية. وقد كان حريا بالحكومة أن تقول إنها يد تنفذ، لا عقل يفكر ويقرر، وأن إملاءات صندوق النقد الدولي أقوى من صوت الحكمة الحريص على إصلاح المدرسة العمومية، وأن الحكومة ماضية في طريق خوصصة القطاع، وتفويته لمنطق السوق والتسليع ورأس المال. وإلا فما الداعي إلى تكوين 3000 مدرس من الميزانية العمومية، وتقديمهم قرابين إلى مؤسسات التعليم الخاص، وهي المؤسسات التي يعرف رئيس الحكومة أكثر من غيره أنها لا توفر لأساتذتها حتى الحدود الدنيا من الأجور والضمانات. إن طريق الخوصصة، على افتراض اقتناعنا بجدواه وقدرته على تطوير منظومتنا التعليمية، يمر منطقيا عبر تحسين ظروف العمل بهذا القطاع، بتشجيعه وإلزامه باحترام بنود قوانين الشغل الضامنة للكرامة والحق النقابي إلى ما هنالك من شروط التجويد، بحيث يتم اختياره طوعا من قبل الطلبة الخريجين. وليس عبر السير في طريق الريع التكويني (على شاكلة المأذونيات من حيث الجوهر)، وتبخيس قيمة الشهادات التي تقدمها مراكز التكوين في مهن التربية والتعليم، وهذا التبخيس هو في الواقع في مرمى نظرنا جميعا، إذ ستتراكم أعداد الحاصلين على شواهد التكوين في غضون سنوات قلائل، وسنجد أنفسنا أمام نسخة مصغرة من الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح، حيث يتجاوز عدد الخريجين حاجيات سوق الشغل أضعافا مضاعفة. المسألة، إذا، غير ما يجهر به المسؤولون، والمآل الذي نسير إليه واضح لا يحتاج إلى فراسة، إذا استمر تعنت المسؤولين وتصلبهم في معالجة هذه القضية، وهو تعنت يبدو مريبا حتى من الزاوية الأخلاقية، لأن المسؤولين ذاتهم لينوا من مواقفهم، وسحبوا مشروع المرسوم القاضي بعمل الأطباء الخريجين بالمناطق النائية بعد أن أثار ما أثاره من اللغط والاحتجاجات، كما سحبوا قبله مرسوم المساعدة القضائية، في حين أبدوا مقاومة شرسة دفاعا عن المرسومين الخاصين بمنحة التدريب وفصل التكوين عن التوظيف. وهو ما يدفعنا إلى طرح أكثر من تساؤل عن الدواعي والأسباب، وإن كان الراجح في هذا الصدد هو وجود لوبيات ضغط وجماعات مصالح في حالة الطلبة الأطباء والمحامين، لاعتبارات سوسيوسياسية وطبقية صرفة، حيث أمكنهم إسماع صوتهم لصانعي القرار والمتنفذين في قطاعي: العدل والصحة، وانتفاء ذلك في حالة الطلبة الأساتذة المتحدرين في الغالب الأعم من طبقات فقيرة ومتوسطة، وغير المنخرطين في تكتلات مهنية ونقابية ضاغطة. لقد كان حريا بالحكومة أن تعلن قطاع التعليم ورش إصلاح وطني كبير، وأن تعبئ له الإمكانيات المادية والبشرية واللوجستيكية، وأن توقف العمل بنظام الخريطة المدرسية السيئ الذكر، وأن تطور قطاع التكوين المهني بما يجعله ذا جاذبية. وهذه إصلاحات ضرورية لإعادة القيمة للباكالوريا المغربية، وضمان التجسير المناسب بين مخرجاتها ومدخلات مؤسسات التعليم العالي المختلفة. أما النهوض بقطاع التعليم العالي، فلا سبيل إليه بغير إعادة النظر في طبيعة العلاقة الواجبة بين المؤسسة الجامعية ومحيطها السوسيوإقتصادي، بحيث يتم بناء تعاقدات صريحة وضمنية بين الجامعة ومحيطها على قاعدة المستجدات العلمية والمهارية والتقنية والقيمية المختلفة. والقصد أن يتم تمكين الجامعة من تكييف مدخلاتها (دفاتر تحملات الشعب والمسالك ووحدات التكوين...) ومخرجاتها بناء على حاجيات المحيط، باعتماد منطق الشراكة والتعاون والتنسيق والتقييم والاستشراف. وأن تبادر الدولة إلى تشجيع الاستثمار في شتى المجالات، بسن سياسة اقتصادية جديدة تقطع مع كل أشكال الاحتكار، وتشجع على المبادرة فعلا لا قولا فقط، وتفرض على المؤسسات البنكية الكبرى توفير شروط التمويل التفضيلي لفائدة الخريجين، تفعيلا لشعار المؤسسات البنكية المواطنة. وآنذاك لن يتهافت الخريجون على القطاع العام طلبا للشغل كما يحصل الآن، بل سيبحثون، بداهة، عن المشغل الذي يوفر أفضل العروض التشغيلية، وهذا رد على الذين يردون تفضيل المغاربة للقطاع العام إلى مبررات ثقافية راسخة. هي معركة إصلاح تحتاج رؤيا وروية، وتنطلق من مشروع يراهن على السلم الاجتماعي والاستقرار، ويدفع بالبلد إلى مزيد من التوزيع العادل للثروة، ويقطع مع سياسة مواجهة الأعراض الاجتماعية (تفضيل الوظيفة العمومية مثلا)، ويقيم بدلا عنها سياسة مداواة الأعطاب الحقيقية التي تعوق المدرسة والجامعة المغربيتين، أي يسير إلى جوهر المشكلة. والمشكلة أن الحكومة غير جادة في معالجة الاختلالات الاقتصادية الكبرى التي يعيشها المغرب، والناشئة عن وجود فئة اجتماعية قليلة استطاعت أن تراكم الثروة في سياق سياسي محكوم بثقافة الريع، غير مستعدة لتقديم تنازلات، وأغلبية فقيرة يطلب منها تسديد نفقات الأزمات التي أحدثها سوء التدبير. بمقدور الحكومة أن تجعل المدرسة والجامعة في قلب عملية الإصلاح، بتقويتهما، وتفعيل شعارات الحكامة والجودة بين أسوارهما، وليس الهروب إلى خوصصة القطاع. فهكذا يكون حالها كمن ينزعج من طبيب لأن وصفته مكلفة لكنها ناجعة، ويقرر استبداله بطبيب بآخر لا يعرف كلفة ما قد يشير به عليه. بمقدور الحكومة تبني خيار الإصلاح بجرأة أكبر، وبتعبئة مجتمعية أقوى وأمتن، لكن ذلك لا يمر عبر مراسيم تقنية موصى بها من لدن هيئات خارجية، وليس عبر التصورات الاختزالية للمشاكل والأعطاب، وهي تصورات تميل إلى تحميل مسؤولية انحدار مردودية المدرسة والجامعة للأطراف التي تقع في أسفل البنية التعليمية. إن الطريق يقضي بتبني سياسة تعليمية تنطلق من بناء جسور الثقة في صدقية الإصلاح وجديته، وهذا أمر يقتضي عملا يبدأ من أعلى الهرم أولا ثم ينحدر إلى أسفل، أي إصلاحا يبدأ أساسا بتجديد الروح في المؤسسات والهيئات المركزية المسؤولة عن التشخيص والتخطيط واقتراح المشاريع الإصلاحية، إذ لا يقبل العقل النبيه أن تتم مباشرة مشروع إصلاحي من قبل طاقم تدبيري ثبت فشله، بدليل اطراد الخيبات والاختلالات في عهدته. مشروع الإصلاح يأتي عن طريق تجديد الطواقم الإدارية المركزية، وتقوية المؤسسات التكوينية المسؤولة عن الإشراف والتأهيل البيداغوجي، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وابتداع أشكال مبتكرة لتحفيز الأساتذة والأساتذة الباحثين وترقيتهم وتحسين شروط عملهم، لا الدخول معهم في سجال الاتهامات بالتقصير وانخفاض منسوب المسؤولية. لكن مثل هذه المبادرات تبدو عصية على الحكومة الحالية؛ لأنها لا تملك من الصلابة ما يكفي لمواجهة جبهات الممانعة، وقوى الضغط، وجماعات المصالح، التي راكمت نسيجا كثيفا من العلاقات الأفقية والعمودية مع مختلف الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين، مشكلة بذلك بنية قوية متماسكة، لها أذرع سياسية (عابرة للأحزاب)، ودعوية، وإعلامية، وحقوقية، إلخ... ولعل البادي للعيان، هنا أيضا، صمت المحسوبين على هذه الجبهة واصطفاف كثير منهم مع الحكومة في صراعها مع الأساتذة المتدربين، وهذا وحده دليل على أن هذا الفيلق المذكور غير عابئ بمجريات هذه المعركة، بل ومستفيد منها حتما إذا مالت الكفة لصالح الحكومة؛ لأنه الرابح الأول من خوصصة قطاع التعليم المدرسي والجامعي، سواء أكان من فئة المستثمرين فيه أو الراغبين في الاستثمار فيه، أم كان غير راغب في ذلك. ففي الحالة الأولى يعنيه كثيرا أن يجد طوابير من العمال المؤهلين تأهيلا جيدا، المرغمين على القبول بالعمل بأجور زهيدة. أما في الحالة الثانية فيعنيه أن تنحصر دائرة المنافسة الاقتصادية على أقصر شعاع ممكن، وهذا أمر تضمنه الخوصصة بشكل لا يقبل الجدال، فهي السبيل إلى إخراج الطبقة الفقيرة والمتوسطة من دائرة المنافسة، وحصر المنافسة على الثروة بين الفئة القليلة المستفيدة منها اليوم. الحكومة على بينة من كل ورد ذكره، والفاعلون السياسيون المسؤولون عن قطاع التعليم المدرسي والعالي عليمون بتفاصيل كثيرة تخطط لها الهيئات المانحة للقروض. لكنهم عليمون أيضا بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، ومطالبون بالسماع لصوت الحكمة الذي تصدح به حناجر أنقياء البلد وأتقيائه (سياسيين وأكاديميين وفاعلين مؤسساتيين). وهؤلاء لا يكفون عن توجيه الحكومة إلى المتعين فعله إن شاءت أن تسلك طريق الإصلاح.