لقد سعدت كثيرا بحفاظ ،ما أطلق عليه بمشروع "الوثيقة الذهبية"، على (الديمقراطية الإجتماعية) كخيار مذهبي للحزب.وهو الخيار الذي كلفنا في المؤتمر الإستثنائي جهدا كبيرا للتوصل إليه ، والتنبه الى صواب الإنتماء إليه. وإذاكان في مشروع الوثيقة مجهود يستحق الساهرون على تحريرها الشكر، فإن من باب الأمانة العلمية ،خدمة للمؤتمر، وحتى لا تترك الثقب فاغرة أمام الخصوم والعارفين بما تعنيه الوثيقة المذهبية، للتسلل عبرها إما تسفيها وازدراء ، وإما دحضا و نقضا لفكرة( الديمقراطية الإجتماعية) ، التي ظلت طيلة أطوار و محطات "الوثيقة" لا تعني شيئا ،فإني أدعوا المؤتمر الى مراجعة الوثيقة بما يتفق والشروط الضابطة للمواصفات العلمية "للوثيقة المذهبية أو الإيديلوجية" ،فضلا عن تفككها وغياب أي رابط ناظم لأفكارها .ولذلك، سأحاول مناقشتها بشيئ من التكثيف والإشارة، لعل ذلك يفيد في بلوغ الهدف. -1: ملاحظة منهجية: الفرق مابين "التقريرالسياسي" و"الوثيقة المذهبية" يلاحظ أن الوثيقة المقترحة ،وقعت منهجيا في الخلط مابين "التقرير السياسي ""والوثيقة المذهبية ، وتلك أول زلة جعلت من مشروع الوثيقة ،كلاما غير مؤسس يدور حول عموميات تقوم على التكرار والفوضى المنهجية وسياق كثير من الأفكار المدرسية المطحونة، المتناقلة والمتداولة بشكل شائع في مختلف المنابر الصحفية و غيرها. إنها تصلح أن تكون مادة لتقرير سياسي عام لاغير. ذلك أن مواصفات التقرير،تقوم على تجميع المعلومات وتفسيرها ثم محاولة ملاءمتها مع المواقف المراد اتخاذها. وغالبا ما تكون هذه المعلومات شائعة قد روجتها وسائل الإعلام وأصبحت مادة للتداول لدى الرأي العام ، أو لدى النخبة ،وذلك حسب أهميتها والتعقيدات التي تحملها.وأعلى درجات التقرير السياسي هو التقرير المحترف الملتزم بتحليل المعطيات واستخلاص "المستتبعات السياسية"(implications politiques) لتحديد الرؤية السياسية.(2) أما الوثيقة المذهبية والتي يطلق عليها بالوثيقة الأيديولوجية ، فهي تختلف بتاتا عن التقرير السياسي. وأهم المرتكزات التي تقوم عليها ، استيقاءا من نماذج Krige و burrel G(انظر كتابيهما : Science,Revolution&discontinuity.new Jersey.,humanties Press و كتاب Sociological paradigms and Organisational,Analysis,London ,Heine-Man:( 2) فهي، استنادا الى ضوابط علمية متفق عليها من طرف المتخصصين ، كما يلي: / ضبط الإختيار الأيديولوجي بالأساس الإقتصادي المعبر عنه. وذلك بجعل المادة النظرية محددا للممارسة على أرض الواقع 0مثلا إحكام أهم المحددات الأيديولوجية"النظرية" (للديمقراطية الإجتماعية) في ضبطهاالإختيارات الإقتصادية بما تستدعيه استشكالات المجتمع من أزمات وحاجيات أفراده. وهذا مانبه إليه "كيدنز" زميله "توني بلير"، وهو يعتزم بلورة وثيقة مذهبية جديدة لحزب العمال البريطاني، مشيرا الى أن الوثيقة المذهبية هي وثيقة للتحليل النظري المعمق ، تنظر في منزلة الدولة والمؤسسات "status de l'état et des institutions" في علاقتهما بالإقتصاد والمجتمع والثقافة والبيئة والحريات لتوضيح الإختيارات ، وليس وثيقة للسرد السياسي وترويج السطحيات. / تحديد الموضوعات الإيديولوجية عبر ترسانة مفاهيمية دالة على التمكن من المرجعية المذهبية باعتبارها نموذجا معرفيا وقيميا منسجما ذي صلة بالقوى الاجتماعية والإقتصادية. وإذا كان الحال يتعلق بالإختيار الثالث كأيديولوجية الوسط مابين الإشتراكية والليبرالية، فإن الأمر يتطلب مايلي: / تحليل نظم الدولة لمعرفة جاهزيتها ودرجة نجاعتها في التدخل الإقتصادي والإجتماعي في اتجاه تحقيق العدالة الإجتماعية و إعادة التوزيع العادل للثروة لبلوغ دولة الرفاه (Etat d'opulence). / بناء أطروحة نظرية ،مستلهمة من الواقع ،بأهم الإستشكالات والاستيضاحات التي تتعلق بالمواضيع الآتية: / التفكير في أسس تنظيم الاقتصاد الوطني بما يخدم نظام الإقتصاد المختلط واقتصاد السوق الإجتماعي في ظل تنافسية عادلة. / تحليل نظم وإمكانات إعادة توزيع الثروات ،وتفكيك جاهزية ترسيخ قيم الحريات و التضامن المجتمعي. / رصد درجات قابلية المجتمع في نظامه الفكري والوجداني لأنواع الحريات العامة والفردية و تلاؤمها مع البنية العميقة للمكون التاريخي والثقافي للمجتمع المغربي. / أن تكون الوثيقة المذهبية مبنية على سبعة تخصصات : تخصص في الفلسفة العامة ،وفي الإقتصاد ،والإقتصاد السياسي، وعلم الإجتماع، وعلم السياسة، والتاريخ، والقانون. -2: ارتباكات في المضمون ،وخلط مرجعية الديمقراطية الإجتماعية بالمرجعيات الأخرى لقد تعرضت الوثيقة الى تعريف عابر وباهث للديمقراطية الإجتماعية .ذكرت بالإسم فقط، وأحيانا بسرد بعض عناوينها المبتذلة على نحو جد وملتبس. وقد كان من اللازم انسجاما مع مفهوم "الوثيقة "المشتغلة في المذهبيات الوقوف عند أهم الأسس الفكرية المتمثلة في تحول "البرديغمات" المعرفية التي جعلت من هذه المرجعية ضرورة اختيارية تنطلق أولا وأخيرا،كما ذكر كيدنز (من إعادة مراجعة النظر في الوظيفة الإقتصادية ،بحسب إلحاحات المجتمع وحاجياته الأولوية). وللتذكير فقط، فإن المفهوم الجديد "للديمقراطية الإجتماعية" لا يجعل تدخل الدولة محوريا ومفصليا لتوفير الحماية الاجتماعية والعدالة وضبط السوق وحماية الديمقراطية وضمان المساواة وغيرها من الكلام الذي ذكر بشكل عام ومرتجل، وكثيراً ما كان مفككا، و هو يتخلل الوثيقة كلها. إن تحولات البراديغمات المعرفية السريعة التي يشهدها العالم اليوم، حيث أصبح الحديث عن المجتمع الرقمي غير القار والاقتصاد الفعلي المرتبط بالصناعات النظيفة ،يفرض نموذجا جديدا ومنفتحا للديمقراطية الاجتماعية يقوم على النجاعة والملاءمة .ولما، تحول الاهتمام من مجتمع المعرفة"société du savoir" الى "مجتمع دقة التمكن من المعارف وتمهير المواهب" "socité de connaissances et de talents"،نتيجة القفزات التقانية المعمقة في التكنلوجية الجديدة ، خاصة تقانة تكنولوجية التواصل، اضطرت نظرية الديمقراطية الاجتماعية ، تفاعلا مع هذه القفزات ، وتجاوزا لنموذج "كيدنز" نفسه، الى اعتبار تدخل الدولة بمفهوم البليرية" نفسها، التي نجحت في سياق معرفي وتاريخي خاصين ، قد يؤدي الى توسع الدولة والوقوع فيما يصلح عليه ب"الدولة المتضخمة"(État hypertrophié) ،ومن ثمة الإفلاس الاقتصادي والمالي الناتج عن اختيارات الديمقراطية الاجتماعية ، وهو الحال الذي وقعت فيه كثير من الدول التي نهجت خيارالديمقراطية الاجتماعية. كما يؤدي هذا التدخل في الدول التي تتمرن على الديمقراطية الى عداء الحريات العامة والفردية بحجة غير صحيحة تتذرع بالأمن والسيادة. ومن الأخطاء الواردة في الوثيقة ، إشارتها الى بعض عناوين المسألة الإقتصادية الخاصة بالمرجعية ، وهي إشارات فضفاضة تصدق على نحو شامل على مختلف المرجعيات بدون غيرها(انظر أواخر ص37وص38وص39)، وهي نفسها التوجهات الاقتصادية للحكومة الحالية والمعارضة أيضاً ، فضلا عن كونها مكرورة في كل الكتابات الصحفية التي تتعرض للمسألة الاقتصادية. إن 'البراديغم "المعرفي الجديد ،دفع بمطلب الديمقراطية الجديدة(وقدعبرنا عنه في المؤتمر الاستثنائي بالمنفتحة) الى تنظيم تدخل الدولة في صيغة علاقة شراكة وتكامل مع قوى المجتمع ،وليس في صيغة التدخل الأحادي للدولة أو في صيغة تنافس وتجاوز لهذه القوى. وذلك هو معنى "المجتمع العضوي" الذي يعد من الركائز الأساسية للمفهوم الجديد للديمقراطية الاجتماعية ، ويأتي مفهوم المواطنة ،فقط ، فرعا من فروعه وقد أقحم في الوثيقة على نحو متعسف (في الصفحات 16و17و18) بصياغة عامة ومرتجلة . إن مفهوم المجتمع العضوي ،لا يعني أنه متقبل سلبي لأدوار الدولة(تدخلها)، وإنما هو مكون من مكونات بناء الدولة الوطنية في إطار تعاقدي أساسه" الديمقراطية البانية " démocratie constructive"بتعبير"كيدنز". ومن مواصفاتها،أنها ليست ديمقراطية سياسية و تمثيلية فقط، وليست ديمقراطية اجتماعية واقتصادية في توزيعها العادل للثروة فقط، وإنما هي ديمقراطية للتأكيد الشرعي لماهية الدولة ونوعها، باعتبارها بنية مكتملة من صلب المجتمع ودالة عليه. وبذلك، فهي ليس حامية له أحاديا كما يعتقد خطأ، وإنما هناك حماية متبادلة عبر ميثاق الثقة بينها وبين المجتمع. وفق ذلك، تتأسس شرعية الممارسة السياسية والمدنية ، التي تنتفي فيها الذيلية للدولة أو الإنزياح الى خدمة أجندتها على حساب الحريات والعدالة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية.ذلك هو معنى "الديمقراطية البانية "الذي يؤطر خلفية مفهوم الديمقراطية من داخل نظرية الديمقراطية الإجتماعية. وليس كما ذكرت الوثيقة ، وهي تتحدث عن الديمقراطية من خلفيات متناقضة وبطريقة لا تفيد في شيئ . أما الفصل المتعلق بالمنطلقات كما أسمته الوثيقة،( ابتداء من ص 12)فهو قائم على التمحل والمراوغة،لانه لا يستند على كلام شائع ومعروف فقط في السياقات التي ورد فيها،وإنما يحاول التعسف على المنطلقات الحقيقية لهذه المرجعية بتحميلها كلاما معياريا موحدا في كل الخطابات والإيديولوجيات، ومنه أيديولوجية وخطاب الإسلام السياسي المعتدل . إن العناوين المؤطرة لهذا الفصل ،فضلا عن عدم انسجامها،مثل(-أسس تدبير الخلاف- مصداقية المؤسسات والفاعلين-بناء دولة المواطنة-كرامة الانسان- تخليق الحياة العامة- ابداع الحلول للمشاكل الإجتماعية....) تؤكد مرة أخرى عمومية الطرح والسقوط في مأزق الإسقاط. وهذا ينطبق ،أيضاً، على حديث الوثيقة عن هيئة الإنصاف والمصالحة والدستور ،وأشياء أخرى لا نتبين رأسها من رجلها، والمطلوب يتعلق ببناء أطروحة مرجعية ذات خاصية فكرية. ومن جهة أخرى، يلاحظ أن الوثيقة لم تحمل نفسها ملاءمة مرجعية الديمقراطية الإجتماعية المعلن عنها، من داخل أسسها الفكرية التي تقوم عليها، و ليس خارجا عنها، كما حدث لها و هي تتحدث عن المشترك الثقافي والرمزي الذي يجمع كل المغاربة، وليس حزب الأصالة والمعاصرة وحده. وبذلك ، لم يتم التأسيس لشرعية العرض الإيديولوجي للحزب من عمق الخصوصية المغربية لتأكيد صدق ملاءمتها وامتلاك القدرة على الدفاع عنها .لقد أكد "كيدنز" على ما أسماه بأهمية الانتباه الى المكونات الداخلية للمجتمع وثقافته لإنجاح الخيار الثالث ،لأننا بإزاء تحولات قيمية محورها"مجتمع أنا أولا"(Me first society) وما يرتبط بها مباشرة من النزوع الى التخلي عن التضامن الإجتماعي. كان من الأجدى لتأصيل أطروحة الحزب تحديد،ولو على نحو عام، الأسس التي تنطوي عليها ثقافتنا في التضامن الاجتماعي وهي كثيرة جداً، مثل "التويزة"بمختلف دلالتها، ورمزيات القيم التضامنية"للدوار"و"الحومة" في أعيادهما ومآتهما وكل ما يتعلق بطقوسهما. .وهي قيم كثيرة رصدتها دراسات عديدة. لكنه للأسف لم يتم الرجوع ولو إلى واحدة منها. إن استثمار قيم التضامن الإجتماعي في تاريخ وثقافة المغاربة مدخل أساس لخلق آليات مبتكرة للتضامن وترسيخه وإيجاد سبل توازنات جديدة بين الرغبة الفردية والرغبة الجمعية في العيش المشترك . إن أكبر تحدي يواجه بناء المرجعيات، اليوم، ليس البحث في النجاعةالاقتصادية والمجتمع المنشغل بالعدالة والحريات فقط، وإنما البحث المعمق في آفة انتصار السوق على الفكر والوجدان ، وانتصار عملية تديين السياسة و التطرف بما يجعلهما متقاطعين مع الوجه الخفي لليبيرالية ومشتقاتها. هنا منطلق التفكير، ونحن بإزاء الحديث عن مستقبل بلادنا استشرافا لسبل التقدم والرفاه. وأخيرا، ومع اعتذاري للأصدقاء الذين سهروا على صياغة الوثيقة المذهبية، لابد أن أقول من باب المسؤولية، اننا لم نجد أنفسنا أمام صياغة مرجعية فكرية أصيلة ومبدعة، تخضع لشروط الوثيقة .وإنما وجدنا أنفسنا أقرب الى تقرير سياسي بأفكار مفككة غير مترابطة ومنسجمة.وعليه، فإني أدعو الى إعادة كتابتها وضبطها احتراما للحزب ،واحتراما للقراء الذين يرغبون في الاطلاع عليها.-