بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل المقال فيما بين خبراء التنمية المعاقة وبائعي الخردة من اتصال
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 29 - 11 - 2012

نشرت جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 24 أكتوبر 2012 مقالا رابعا للسيد زهير لخيار تحت عنونا «انزلاقات أستاذ وادعاءات متحامل». وقد تطرق في هذا المقال، بصرف النظر عن افتقاده، كما هي عادته، للمنهجية وغياب الخيط الناظم، إلى نقطتين أساسيتين مرتبطين بتعريف «الاقتصاد الاجتماعي» من جهة، وتحديد «تاريخ» مفهوم الحكامة من جهة ثانية. وبالتالي سيتمحور ردي حول ما ورد في هاتين النقطتين.
II- «في تعريف الاقتصاد الاجتماعي»
1- في سياق تعريف مفهوم «الاقتصاد الاجتماعي»، تطرقت في كتابي (الاقتصاد الإجتماعي بالمغرب. التنمية المعاقة وجدلية الاقتصاد والمجتمع) للدلالات المعجمية والاشتقاقية لمفردات «اقتصاد» و «اجتماعي»، قبل أن أعرج على البعد الإصطلاحي من خلال استحضار البعد التقابلي القائم بين مفهوم «الاقتصاد الاجتماعي» و مفهوم «الاقتصاد السياسي» (تطرقت إلى مميزات مفهوم «الاقتصاد الاجتماعي» عن مفهوم «الاقتصاد السياسي» في المقال السابق).
فيما يتعلق بالمستوى اللغوي، ذكرت بالحرف أن مصطلح «اقتصاد» مشتق من فعل قصد(أي استقام) ومصدره اقتصد بمعنى وفر، ويفيد كذلك معنى استعمال الأموال على الوجه الذي يخالف الإفراط و يعارض التقتير( حسب لسان العرب). وتأسيسا عليه يفيد مصطلح اقتصاد: فن تدبير واستغلال الموارد على اعتبار محدوديتها مقابل تعدد الحاجيات (ص.8).
أما مصطلح «اجتماعي» فقد عرفته على أنه «كل فعل تحدد منطلقاته اعتبارات قائمة على مبدأ التماسك والتضامن والتآزر. وبالتالي، يعتبر كل فعل اجتماعيا حينما يتجه نحو تحقيق منفعة أو جلب مصلحة أو حل إشكال يواجهه المجتمع».( ص.8-9).
ومن ثم فعلى أساس المنطلق اللغوي لمفردتي «اقتصاد» و «اجتماعي»، حددت المعنى الاصطلاحي لمفهوم «الاقتصاد الاجتماعي» في كونه يفيد «أن حل المعادلة الاقتصادية (التوفيق بين الموارد المحدودة والحاجيات اللامنتهية) من خلال تجاوز المعالجة التقليدية (ميكانيزمات السوق) للاختلالات الاجتماعية، يفترض تجنيد وتعبئة وحشد القيم الاجتماعية المتمثلة في التضامن والتماسك والتكافل بين مكونات المجتمع، بهدف التغلب على الإشكالات الاجتماعية المستعصية التي لم يجد لها الاقتصاد السياسي أو اقتصاد السوق حلا» (ص.9).
غير أن السيد لخيار، بسبب قصوره الفكري والابستمولوجي وحساسيته المفرطة تجاه كل بناء ذهني غايته التأصيل الفكري والمفاهيمي، يعتبر أن بناء الأفكار هو مجرد «تفلسف» وأن قمة الفكر هي وضع استمارة عرجاء تهدف الى تجميع الاجابات بنعم أو لا عن أسئلة بلهاء، وتحويل هذه «النتائج» إلى نسب مئوية. وبالتالي، لايستطيع هذا «الخبير» ادراك أن دلالة الأفكار والمفاهيم لاتتحق الا من خلال موقعتها في سياقها الفكري والمفاهيمي. وهكذا ما أن تتجاوز بنية فكرة ما حدود الفعل والفاعل والمفعول به حتى يفقد توازنه ويصاب بالدوران والإسهال (التنظيري طبعا). إن إثارة هذه الملاحظة ترتبط، من حيث المقام، بمعاينة طغيان الميل للتبسيط فهما وتعبيرا عند هذا «المختص» في التنمية، بحيث، على خلفية الرغبة في تبخيس عملي، سعى للقول أنني من خلال التعريف الذي تبنيته لم أضف شيئا فحسب، ولكنني وخصوصا «قصرت» إلى أبعد الحدود من حيث التحليل والتبرير. وفي هذا النطاق يعتبر السيد «المختص» الذي لم يتخلص حتى من تخلفه الذاتي والمعرفي son état de sous- développé)) أن الفعل الاقتصادي هو كذلك، من حيث المبدأ والوظيفة، فعل اجتماعي يجلب المنفعة ويحل الإشكالات الاجتماعية. والفرق البسيط حسب زعمه يتمثل في كون القائم بفعل اقتصادي «ينتظر المقابل الملموس»، بينما الفعل الاجتماعي يكون تطوعيا وينتظر منه الفاعل فقط مصلحة المجتمع «دون انتظار مقابل مادي ملموس». والسيد لخيار من هذا المنظور يعبر عن فهم اقتصادوي (l?économisme) ممقوت ومنغلق على ذاته ومكتف بمنطلقاته ورواسبه» النيو-لبيرالية» المتوحشة.
ألاحظ في هذا الإطار أن السيد «الخبير» قد ارتكب خطأين فادحين وفاضحين: يتمثل الخطأ الأول في اعتبار الفعل الاقتصادي فعلا يرجى منه على الدوام جلب المنفعة وحل الإشكالات من جهة، ويحدده حافز الحصول على مقابل مادي ملموس (la contrepartie ) من جهة ثانية. أما الخطأ الثاني فيتمثل في اعتبار قيام الفعل الاجتماعي دوما على الباعث التطوعي من جهة، وفي انتظار الفاعل فقط تحقيق مصلحة المجتمع «دون انتظار مقابل ملموس» من جهة ثانية.
بالنسبة للخطأ الأول، لا أعتقد أن الفعل الاقتصادي (إنتاج، تبادل، استهلاك، ادخار، استهلاك، توزيع، سعي، كسب، عمل، الخ) يحركه في كل الأحوال الحافز الاجتماعي من خلال البحث عن جلب المصلحة للمجتمع. فهل إنتاج و/أو بيع أو/و استهلاك المخدرات مثلا يرجى منه جلب المصلحة والمنفعة للمجتمع؟ اللهم إلا إذا اختزلت المصلحة والمنفعة، من منظور اقتصادوي ممسوخ، في الفائدة والمصلحة الشخصية الذاتية المنسلخة عن أي بعد قيمي أو أخلاقي ! لكن في هذه الحالة لا يستساغ أن نتحدث عن جلب المصلحة و المنفعة للمجتمع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا اعتقد أن أي فعل اقتصادي يبتغى من ورائه دائما الحصول على «مقابل مادي ملموس». فهل تدبير الشؤون المادية للبيت، من حيث ترشيد استعمال الدخل، يعبر عن الرغبة في الحصول على «مقابل ملموس» وهل مراعاة عدم الإفراط وعدم التبذير يشكلان تعبيرا عن الحصول على «مقابل ملموس»؟ وهل عندما يدخر أحد جزء من مدخوله بهدف تخصيصه لمواجهة نفقات غير متوقعة مثلا، يمليه انتظار «مقابل ملموس»؟ وهل الاستعمال الإحلالي (l?interchangeabilité) للخيرات يبرره كذلك انتظار «مقابل ملموس»
أما بالنسبة للخطأ الثاني، فلا بد في اعتقادي من تحديد طبيعة الفعل الاجتماعي للحسم في معرفة إذا ما كان الباعث دائما تطوعيا أم لا ، وفي معرفة إذا ما كان الفاعل، دائما أم لا، يسعى فقط لتحقيق مصلحة المجتمع دون انتظار «مقابل ملموس». بحيث اذا كان الحلال بينا والحرام بينا، فهناك أمور متشابهات. فمثلا الفعل أو العمل الخيري أو الإحساني، المتمثل في تقديم العون وتنفيس الكرب، بدافع التآزر والإحسان، كالسلف («القرض الحسن») يشكل عملا تطوعيا لا ينتظر منه فعلا «مقابل مادي ملموس». لكن «القرض السيئ» المعمول به مثلا في إطار «السلفات الصغيرة» الذي حددت أهدافها في «مساعدة أشخاص ضعفاء من الناحية الاقتصادية على إنشاء أو تطوير نشاط إنتاج أو خدمات خاص بهم قصد ضمان اندماجهم الاقتصادي» (المادة 2 من القانون 18.97 المتعلق بالسلفات الصغيرة)، يشكل عملا ينتظر منه «مقابل مادي ملموس». اذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. مثال آخر قد يساعد السيد «الخبير» هذه المرة على التمييز بين الفعل الاجتماعي الخالص والفعل الاجتماعي الذي ينتظر منه الحصول على «مقابل مادي ملموس». حينما يقدم أستاذ، من باب التعاون على البر، يد المساعدة لبعض الطلبة من خلال مدهم بمراجعه وكتبه الشخصية مثلا، فهذا في اعتقادي عمل اجتماعي خالص. ولكن حينما يقايض أحدهم تسجيل طالب، أو إنجاحه، في سلك «الماستر»، بتسلم سطل من العسل، أو كبش للعيد أو سقيطة خروف من «سيدي العايدي»، أو ساعة يدوية، أو نقودا أو شيكا أو حتى «سندويتشا» أو «بيتزا»، فهذا يشكل ابتزازا ورشوة يعرضان المستفيد منهما للمتابعة القضائية في الدنيا، وللخزي والعار والثبور في الآخرة.
2- ينتقد السيد لخيار قولي أن «ممارسة أنشطة مدرة للدخل لا تهدف بالضرورة لتحقيق الربح». وقد ورد انتقاده، في شكل تشكيك مصاغ بأسلوب مهترئ ومطبوع بالركاكة والضبابية، على النحو التالي: «إن الأستاذ يعتبر الأنشطة المدرة للدخل غير هادفة بالضرورة لتحقيق الربح، وهنا ينبغي أن نتوقف عند مفهوم الربح فإذا كانت هذه الأنشطة لا تهدف إلى الربح فكيف ستدر دخلا على حامليها؟ ولماذا تتم إقامتها أصلا ما دامت لا تنفع الناس ؟»
هكذا يقر السيد «الخبير»، وبشكل قاطع، أن ممارسة أي نشاط مدر للدخل (l?exercice d?une activité génératrice de revenu) تؤدي بالضرورة لتحقيق الربح. وتأسيسا عليه، يبدو أن هذا الأمي لا يميز بين الدخل (le revenu) الذي يفيد كل ما يدخل من مال بشكل خام، عكس الخرج، والربح (le profit)، أي ما يرتبط بعملية المرابحة، أي عملية احتساب الفضل من خلال طرح التكاليف من المداخيل؟ فهل ما يحصل عليه الأجير في مقاولة مثلا، مقابل العمل الذي يقوم به، أي مقابل بيع قوة عمله، يفيد تحقيق الربح. وبالتالي، هل الأجر المخصص لقوة العمل كما أسست له نظريات التوزيع يدخل في إطار توزيع الأرباح. أم أنه لا يعدو أن يكون مختزلا لعملية إعادة إنتاج قوة العمل. أليس الربح (le profit ) هو ذلك الفرق الذي يحصل عليه رب العمل إضافة إلى الفائدة ( l?Intérêt) عن رأس ماله والأجر (le salaire) عن إدارته، كما بلورت ذلك المدارس الاقتصادية؟ أليس الربح هو ذلك الفرق بين كلفة الإنتاج وقيمة الإنتاج ومن ثم يشكل ذلك القسط المختزل لمفهوم فائض القيمة في الأدبيات الماركسية؟
إن ممارسة «أنشطة مدرة للدخل» تفيد ممارسة مهن وحرف وأنشطة اقتصادية صغيرة من طرف الفئات الاجتماعية التي تعاني من الهشاشة، على اعتبار أن هذه الممارسة لا تتطلب توظيف موارد مالية مهمة من جهة، وعلى اعتبار قابلية ممارسة هذه الأنشطة توفير موارد رزق تمكن من الكفاف والعفاف والغنى عن الناس من جهة ثانية. ومن ثم تساعد الضعفاء اقتصاديا على الحد من تردي أوضاعهم الاجتماعية على أمل محاصرة الفقر نهائيا. وهذا الأمر ينطبق طبعا على منظومة السلفات الصغيرة في المغرب التي أطرها القانون 97-18 الصادر بتاريخ 5 فبراير 1999. غير أن هذه التجربة قد بينت أن الانتظارات التي كانت مفعمة بالأمل قد تحولت إلى إحباطات وخيبات أمل. لقد كانت التلفزة المغربية تقدم وفي جو من الاحتفالية والبهرجة، المستفيدين من السلفات الصغيرة، على أنهم، بفضل هذه السلفات، أصبحوا مالكي قطعان من الأرانب والماعز والنعاج أو مربيو نحل ينتج عسلا خالصا. لكن سرعان ما تلاشت هذه الصور مع بداية الأزمة سنة 2007، و تحولت حكاياتهم، بعد مضي «سنوات المشمش» (قيل أنها أيام وعددها سبع، حسب المثل المغربي) إلى كابوس يرادفه الإحباط والمعاناة وخيبات الأمل. وبمعنى آخر، تحول المشمش إلى «باكور»، أو خل (vinaigre)، حسب التعبير الفرنسي، للإشارة إلى أن «القضية حامضة» أو «حماضت.
* أستاذ باحث بكلية الحقوق، سطات
لكن أن تتم المفاضلة، من جهة، بين الشعوب المسلمة وباقي الشعوب الأخرى، ومن جهة ثانية، بين الشعوب المسلمة في العصر الحديث والشعوب المسلمة في العصور السالفة، فأمر فيه نظر؛ ذلك أن المقارنة لن تستقيم، علميا، إلا إذا اعتمدنا على أدوات علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الإناسة، وكذا أدوات التحليل الثقافي والفلسفي والسياسي، وغيرها. وهذا ما لا نستطيعه ولا ندعي القدرة على الخوض فيه. ثم إذا سلمنا بالمفاضلة التي يقيمها الأستاذ «الريسوني» بين مسلمي العصر الحديث ومسلمي العصور القديمة، فهل نضعها في مستوى التدين المنحط (الذي من بين أشكاله وتجلياته، حسب صاحب المقال، التدين المغشوش والتدين المعكوس والتدين المحروس، جريدة «التجديد» 25 مارس 2008)، أم في مستوى التدين الرفيع الذي، حسب علمنا، لم يضع بعد له «المقاصدي» الألمعي أي تعريف.
ما يهما من مقالات الأستاذ الريسوني هو بناؤها الفكري؛ وهو بناء قائم على الثنائية التي هي من خصائص الفكر المطلق. والفكر المطلق، كما هو معروف، يعادي التعددية الفكرية ويعمل على إلغائها؛ وبالتالي فهو يعادي حرية التفكير وحرية المعتقد، الخ. نحن لا نقول بأن هذا ما يدعو إليه الدكتور «أحمد الريسوني»؛ لكن منطق الفكر القائم على الثنائية (التي تحكم العقل الكلاسيكي)، يؤدي حتما، من الناحية الفكرية، إلى سيادة الفكر المطلق، ومن الناحية السياسية، إلى سيادة الاستبداد والطغيان والتعسف وغير ذلك من الظواهر التي تتنافى والفكر الديمقراطي. وما دفعنا إلى الاهتمام بالرجل، هو موقعه في الحقل السياسي تنظيرا وتطبيقا.
سنقتصر، في هذا المقال، على نتناول ما كتبه الأستاذ «أحمد الريسوني» بجريدة «المساء» بتاريخ 24 أكتوبر 2012، تحت عنوان:»الدين..محبوب الشعوب». وقد استغل ظروف ما قبل عيد الأضحى، ليعود بنا أربعة عقود إلى الوراء، فيخبرنا بأنه في مثل هذه الأيام من ذي الحجة كان يجلس مع «صديقه الملحد» (كذا) الذي بادره بالحديث عما تسببه هذه الشعيرة من «كارثة اقتصادية» و»خسارة فادحة للثروة الحيوانية»؛ وبما أن صديقه كان يشرب سيجارة، فقد رد عليه بالقول: «وهذه السيجارة التي تستهلكها أنت وأمثالك، أليست كارثة وخسارة حقيقية بجميع المعاني»؟ وبعد نقاش حاد، أسمع كل واحد منهما الآخر ما عنده، مضى كل منهما في طريقه.
وبالطبع، فإن الحديث عن «الصديق الملحد» ما هو إلا ذريعة لوضع تصنيف لأصدقاء الدراسة بالثانوية المحمدية بمدينة «القصرالكبير»، التي تتلمذ فيها الأستاذ «الريسوني». وهكذا يقول: «كنا يومها مجموعة من أصدقاء الدراسة، وكنا مثقفين ومسيسين. لكننا انقسمنا إلى مجموعتين: مجموعة المؤمنين ومجموعة الملحدين». وهو بهذا التصنيف إنما يصدر عن خلفية إيديولوجية وفكرية واضحة. فالذي يتحدث اليوم ليس «الريسوني» التلميذ، وإنما «الريسوني» المتخصص في علم المقاصد والرئيس السابق ل»حركة التوحيد والإصلاح» وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، سابقا؛ وأخطر ما في الأمر أنه لا يجعل من الثقافة والسياسة مجالا للإبداع المعرفي والنظري المتنوع والمتباين، تنوع وتباين الواقع الملموس، ولا يجعل منهما حقلا لإنتاج الفكر والمعرفة النظرية التي تقوم عليها الممارسة السياسية المجسدة لمشاريع مجتمعية مستقبلية تعبر عن مصالح القوى السياسية والاجتماعية الحاملة لهذه المشاريع، وإنما هما، بالنسبة إليه، مجال للصراع بين الإيمان والإلحاد (أو الكفر والإيمان). وهذا التصنيف هو الذي لا زال يؤطر تفكيره وموقفه من كل القضايا، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو فكرية أو حقوقية، أو إعلامية حتى. فالمدافعون عن حقوق الإنسان هم «إخوان ملحدون»، والدولة والإعلام، منبت خصب للملحدين. ولا نحتاج، هنا، أن نذكر بما يترتب عن هذه الثنائية من أحكام في غاية الخطورة، ليس أقلها تكفير المخالفين. ولنا، في تاريخ البشرية، قديما وحديثا، ما يكفي من أمثلة على ما تسببت فيه من مآسي.
ولإبراز الصفة التي أضفاها الشيخ عن نفسه وعن أصدقائه من «المؤمنين» و»الملحدين»، بكونهم «مثقفين ومسيسين»، يقول «الريسوني»: وطالت المناظرات والسجالات في لقاءاتنا، إلى أن تفرقنا في الكليات والجامعات بين فاس والرباط»، مضيفا أن، «في ذلك الوقت، كان أصدقاؤنا الملحدون، ومن ورائهم بعض الأساتذة ‹المغربيين والفرنساويين›(كذا)، يقصفوننا وسائر التلاميذ بوابل من المقولات المرعبة، خاصة تلك الصادرة عن فلاسفة يقام لهم ويقعد»، من أمثال «كارل ماركس»، صاحب مقولة «الدين أفيون الشعوب»، و»فريديريك نيشه» الذي أعلن «موت الإله»، و»تشارلز داروين»، صاحب نظرية التطور، الذي يرجع أصل الإنسان إلى الحيوان، مؤكدا أن عددا من فلاسفة النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ساروا في هذا الاتجاه، والذي وجد الصدى عند بعض المثقفين العرب من أمثال «سلامة موسى» و»علي أحمد سعيد» المعروف ب»أدونيس».
وفي ما يخص هذا الأخير ، فقد اهتم به «الريسوني»، بشكل خاص، لكونه أعلن، سابقا (غشت 2009)، أنه «لم يعد لله ما يقوله»، ثم عاد، بمناسبة حديثه عن الربيع العربي، ليجعل الدين والشعر، الذين يشكلان عصب ثقافة العالم العربي، في صراع دائم، تغلب فيه، اليوم، الدين على الشعر، مما جعل صاحب المقال يتساءل إن كان الصراع هو بين الدين والشعر أو بين الدين والفكر الإلحادي، ليخلص إلى أن الدين متغلب على الدوام، مضيفا، فيما يخص المغرب، أن صيحات «ما صايمينش» و»ما مصليينش»و»ما معيدينش، لم تؤد لا إلى فراغ في المساجد ولا إلى تغيير نمط الحياة في رمضان ولا إلى انخفاض في أسعار الأكباش .
ونحن إذ نشاطر الأستاذ «الريسوني» في هذه الاستنتاجات وفي هذه الخلاصات، نشير إلى أن الصيحات التي يتحدث عنها اليوم، هي، في جوهرها، لا تختلف عن تلك المواقف التي عاشها وهو تلميذ بالثانوية المحمدية بمدينة «القصر الكبير». لقد تغيرت، بطبيعة الحال، الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتواصلية وغيرها، لكن هوية المغاربة كشعب مسلم، تبقى ثابتة، لا ينال منها المد والجزر الذي قد تعرفه الساحة السياسية والثقافية والفكرية. وسواء تحدثنا عن الأجواء التي عاشها «الريسوني» وهو تلميذ أو طالب، أو تحدثنا عما تعرفه الساحة اليوم من تفاعلات، تتداخل فيها عوامل شتى، منها العامل النفسي والعامل الاجتماعي وغيرهما، فإن الثابت أن الدين الإسلامي، هو دين أغلبية المغاربة، بمن فيهم حتى أولائك الذين سماهم الفقيه «الريسوني» بالملحدين.
وهنا نسائل فقيهنا عن صديقه الملحد وعن باقي المجموعة؛ هل بقوا على إلحادهم أم غيروا مواقفهم؟ كما نود أن نسأله عن إخوانه من مجموعة «المؤمنين»؛ هل قوي إيمانهم أم ضعف؟ وأين قادتهم المناظرات والسجالات التي تحدث عنها...؟ بالطبع هذا لا يبدو أنه يهم السيد «الريسوني»، بالرغم من أن مسار البعض منهم قد يستحق الاهتمام، خصوصا وأننا نعلم أن مرحلة التلمذة ومرحلة الجامعة، رغم أهميتها الكبرى في تكون الشخصية، ما هي إلا مراحل عابرة، لا يزال الشخص فيها يبحث عن نفسه وعن ذاته؛ ومن هذا المنطلق، نتساءل:هل يحق لنا أن نبني أحكاما قطعية ونهائية بناء على معطيات متغيرة، خاصة وأن الأمر يتعلق بالدين والتدين؟ وأعتقد أنه لو تأمل مسار أصدقاء الدراسة، لوجد «فيه خيرا كثيرا». وعلى كل، فهذا ما وجدته شخصيا في مسار أصدقائي في الدراسة، الذين ينتمون ليس فقط إلى نفس الفترة التي انطلق منها «الريسوني» في مقاله، ولكن أيضا إلى نفس الجهة؛ وأقصد، هنا، مدينة «تطوان». لذا، نرى أن الحكم على مواقف لشباب لا زال يتلمس طريقه نحو فهم أفضل للعالم المحيط به، وإن كان، أحيانا، بطريقة تمردية، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات المحيطة بهذه المرحلة. فكم من مفطر في رمضان أصبح يصوم، إيمانا واحتسابا، يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكذا الأيام البيض! وكم من منكر للصلاة أصبح يحافظ عليها في وقتها ! وكم من عاشق متيم بحب الخمر حج واعتمر! الخ. ونعتقد أن إيمان هؤلاء الذين مروا من مخاض السؤال الوجودي والبحث عن الذات، هو أقوى وأفضل بكثير، لكونه مبني على الاقتناع، من إيمان البعض الذي لا يعدو أن يكون نفاقا اجتماعيا أو تقليدا وإتباعا للغير. ويمكن أن يصدق هذا على أصحاب الصيحات المشار إليها أعلاه، بعد أن تهدأ عاصفة ما يمكن أن نسميه ب»الاحتجاج الوجودي» أو بالمراهقة الفكرية، مع العلم أن وجود مثل هذه الظواهر (التمرد على الموروث وعلى المعتقد، وغيرهما)، هو وجود ملازم لكل الحقب التاريخية ولكل المجتمعات البشرية، فما بالك بمجتمع متعدد الثقافات ومنفتح على كل التيارات الفكرية، مثل المجتمع المغربي؛ وسواء اعتمدنا في فهم هذه الظواهر على التفسير الأنثروبولوجي (الاهتمام بالعلاقة الوثيقة بين الثقافة والشخصية الإنسانية)، أو التفسير القرآني ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، فالنتيجة هي أننا سنجد أنفسنا أمام وضع معقد، لا يمكن للفكر الأحادي أن يستوعبه، ولا لثنائية الكفر والإيمان أن تفك طلاسيمه.
لكن الدين يبقى، فوق هذا وذاك، عنصرا حاسما في الصراع الأبدي الذي يعيشه الإنسان مع نفسه ومع محيطه، سواء تعلق الأمر بالمؤمنين أو بالملحدين، حسب التصنيف الذي وضعه «الريسوني». وبما أن «الدين ليس منتوجا سياسيا إيديولوجيا»، كما قال الأستاذ «الريسوني» في ختام مقاله، («ولو أن السياسة، كما يعترف هو بذلك، كثيرا ما تتدخل فيه وتستغله»)، ولا «هو صناعة كهنوتية، (ولو أن الكهنوت قد يتلبسه ويشوهه»)، بل هو «على امتداد الزمان والمكان، يسكن في أعماق الإنسان»، لأنه «في جوهره ليس أفيون الشعوب، وإنما هو محبوب الشعوب»، فإن هذه المكانة السامية للدين تجعل من الذي يستغله سياسيا متهما بالسرقة الموصوفة والنصب والاحتيال، ذلك أن استجداء أصوات الناخبين، مثلا، عن طريق الدين هو خداع وغش لهم واستغلال لوجدانهم ولعاطفتهم الدينية ولحاجتهم الروحية من أجل مكاسب آنية وحسابات سياسية ضيقة. وهذا أمر مدان أخلاقيا وسياسيا لأنه، في نهاية المطاف، يصب في نفس الاتجاه الذي يسلكه من يستغل فقر المواطنين وحاجاتهم لشراء ذممهم وأصواتهم. فالذي يدعو إلى الله أو الذي يقوم بعمل إحساني، فإنما يقوم بذلك، مبدئيا، لوجه الله، طلبا للأجر والثواب. لكن حين «يستثمر» هذا العمل الإحساني والدعوي في السياسة لكسب الأصوات، كأن يدعو من أحسن إليهم أو قام بوعظهم وإرشادهم إلى التصويت لفلان أو علان، أو لدعم هذا الحزب أو ذاك، فإنما يطلب، بذلك، مقابلا «سياسيا»؛ وهو سرقة أقرب منها إلى الطلب. وبهذا ينتفي الهدف الأسمى الذي أوهم به الناس، ويصبح مجرد رشوة انتخابية، لا تختلف في شيء عن تلك التي يدفعها أصحاب «الشكارة». ولذلك، فإن الدعوة إلى عدم استغلال الدين في السياسة تكتسي مشروعية سياسية وأخلاقية ودينية، أيضا، خصوصا وأن من يستجدي أصوات الناخبين لا يميز في ذلك بين المؤمن والملحد، ولا بين التقي والفاسق، بل همه الوحيد هو الوصول إلى «السلطة».
وإذا كانت الدول الديمقراطية، في الغرب، قد حسمت في الأمر بفصل السياسة عن الدين، باعتبار أن السياسة فن الممكن وتدخل في مجال النشاطات التجريبية التي لا تتدخل فيها السماء (كما يقول الشيخ «محمد متولي الشعراوي»)، فإن شعوب العالم الإسلامي، في غالبيتها، لا زالت تعاني من الأنظمة الديكتاتورية الجاثمة على صدرها باسم الدين الذي يتخذ ذريعة لتبرير الاستبداد وتأبيده.
وفيما يخص المغرب، فإنه بالرغم من بعض المكتسبات الديمقراطية التي تحققت بفضل نضالات القوى الديمقراطية وتضحياتها، فإن المشوار لا زال طويلا، والإجهاز على المكتسبات يبقى واردا، ما دام الخلط قائما بين القضايا التي تتدخل فيها السماء والقضايا المتروكة لنشاطات العقول وطموحات النفس البشرية (كما يقول»الشعراوي»). ويجب أن نسجل، في هذا الصدد، بان هذا الخلط لا تركبه الدولة وحدها، بل حتى الأحزاب والحركات السياسية التي تعتبر نفسها إسلامية، ولكل منهما غاياته في ذلك.
وبما أن الأستاذ «أحمد الريسوني»، المسؤول السابق في حزب العدالة والتنمية والرئيس السابق ل»حركة التوحيد والإصلاح»، الجناح الدعوي لهذا الحزب ، يعتبر من منظري هذين التنظيمين، فإنه من باب تحصيل الحاصل القول بأنه من الذين يستعملون الدين لأغراض سياسية. فهو، من جهة، ينتقد التوظيف السياسي للدين من قبل المؤسسات الدينية الرسمية، لكنه، من جهة أخرى، يبارك استعمال الدين من قبل حزب العدالة والتنمية باعتباره حزب المؤمنين الذين «يعيشون للدين وبالدين منذ طفولتهم وفي كل حياتهم، ويضحون بمصالحهم ومكاسبهم وفرصهم لأجل الدين ولأجل الصالح العام، ويعرفهم الناس على هذه الحال واحدا واحدا»(«الريسوني»، جريدة «المساء»، 24 دسمبر 2009). وبهذا يبيح لنفسه ولحزبه ما ينكره على الآخرين. ومن الواضح أن ثنائية الإيمان والإلحاد هي التي تؤطر مواقفه السياسية. فهنا لا مجال لمقولة «لا نزكي على الله أحدا»، بل بالعكس، فهو يزكي على الله هؤلاء الذين «يعيشون للدين وبالدين»، حسب تعبيره، بينما تلصق تهمة الانتماء إلى «فسطاط الكفر»إلى كل من يعارضهم.
أما الحزب الذي ينتمي إليه وينظر له، فمن «حقه» يستعمل الدين ليس فقط في خطابه السياسي وفي الادعاء بتبنيه للمرجعية الإسلامية (والتي لم يظهر لها أي أثر في طريقة تدبيره للشأن العام)، وإنما أيضا من خلال حركة التوحيد والإصلاح التي تستعمل الدعوة كغطاء لأهدافها السياسية. ف»الريسوني»، العضو بالمكتب التنفيذي للحركة، يدعو إلى «الاستغلال الجيد للمساجد ومنابرها». وهذا ما يقع بالفعل. فيكفي أن تستمع إلى بعض الخطباء المنتمين لحركة التوحيد والإصلاح وللعدالة والتنمية أو المتعاطفين معهما، لكي تدرك كيف يتم توظيف خطبة الجمعة (وما أدراك ما خطبة الجمعة!) لتمرير خطاب سياسي كله إيحاءات وكله إشارات، خصوصا حينما يكون البلد في حال تعبئة سياسية مثل أيام الحملة الانتخابية ونحوه. فحين يدعي أحدهم بأن الدين كله سياسة وأن الرسول (ص) هو أول سياسي، دون أن يبين أي مفهوم للسياسة يقصد، فإنما بذلك يغذي الخلط، إما جهلا، وإما قصدا، بين ما هو من قبيل النشاطات التجريبية وبين ما هو من مجال تدخل السماء. فهلا تأمل هذا الخطيب، مثلا، قصة الرسول الكريم مع تلقيح النخل؟ لقد نصح عليه السلام القوم بأن لا يلقحوا النخل، ففعلوا، ولم يأت النخل بالثمر المرجو، مما جعله (ص) يقرهم على ما دأبوا عليه بقوله:»أنتم أعلم بشؤون دنياكم»؛ وهذا يعني أن رسول الله (ص) يعلي من قيمة التجربة الميدانية ومن قيمة العلم المادي. والسياسة، التي أصبحت علما قائما بذاته، أو ليست من صميم النشاطات التجريبية؟ أو ليست تدبيرا وتخطيطا وقرارات، ونحو ذلك...؟ ؟؟ وهل من الضروري أن ندخل السماء في كل هذا؟
إننا لا ندعو إلى حصر الإسلام في الشعائر وفي العبادات؛ أو إلى حصره أيضا في المساجد؛ لكننا ندعو إلى احترام أماكن العبادة وعدم استغلالها سياسيا؛ كما ندعو إلى الترفع عن استغلال الدين من أجل مكاسب سياسية لأن الإسلام هو دين الجميع، ولا يحق لتوجه معين أن يستغله. فإذا كان الدين «محبوب الشعوب»، كما يقول «الريسوني»، ونحن متفقون معه، فإن الحكمة تقتضي أن يبتعد الجميع عن استغلاله وعن جعله مطية لتحقيق مصالح مادية أو معنوية. فالشعب المغربي، المجبول على حب الإسلام، يستحق كل التقدير والاحترام؛ وكل محاولة لاستغلال هذا الحب لتحقيق مكاسب سياسية (انتخابوية، بالأساس) باسم الإيمان وباسم الإسلام، إنما هي تعبير عن قدر غير قليل من الصفاقة ومن عدم الاحترام، ليس فقط للمحب (الذي هو الشعب)، ولكن أيضا للمحبوب (الذي هو الدين).
خلاصة القول، إن ممارسة السياسة، تنظيرا وتطبيقا، اعتمادا على ثنائية الإيمان والإلحاد، هي ليست اختزالا لمجال معقد يتميز بالتعدد والاختلاف فقط، بل هي ممارسة غير أخلاقية وغير ديمقراطية لأنها تقوم على نزعة إلغاء الآخر وإقصائه، إن لم نقل استئصاله، بينما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لم يعلمانا أن نكتفي بجعل الناس (الذين هم شعوب وقبائل)»فسطاطين»، ثم نضفي على أحدهما ما نشاء من أوصاف الهدى والتقى ونرمي الآخر بما نشاء من أوصاف الضلال والفجور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.