الإرهاب والتطرف نتيجة مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن القابلية للانخراط فيه ثقافية نفسية بامتياز. وفي شباب المسلمين فئة مستعدة للتطرف لأن ثقافتها مشبعة بالفتاوى والآراء المتطرفة المستندة إلى الجانب المظلم من تراثنا الفقهي. وما لم نجدّد فهمنا لكتاب ربنا وسنة نبينا بعيدا عمّا قرره الأوائل المقصّرون المخطئون، وما لم نعد تمحيص بعض الروايات المصحّحة عندهم، فإن فقه المسلمين سيبقى عاملا ثقافيا يفرخ المتطرفين. وبين أيدينا حديث مخرّج في الصحيحين وغيرهما يستند إليه "الإرهابيون" منا، والمتطرفون من ذرارينا بعدما قرر جمهور السابقين أنه يؤسس لعلاقة الحرب والعداوة بين المسلمين وغيرهم من بني البشر. نص الحديث المشوّه: روى ابن شهاب الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَ اللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. (رواه الشافعي في المسند ص208 وأحمد 1/228 و15/286 والبخاري ح1399 و ح6924 ومسلم 32 (20) وأبو داود ح1556 والترمذي ح2607 والنسائي ح2443 و3091 و3092). وهو حديث مجمع على تصحيحه بعد الإمام مالك الذي تحاشاه وأسقطه من الموطّأ عبر عملية التهذيب، رغم أنه من رواية شيخه وبلديّه الزهري رحمه الله، ورغم أنه يدخل في أبواب الجهاد والصلاة والزكاة وقتال البغاة. وقد ثبت أنه كان يعرفه ويرويه، فأرشدنا بحذفه من الموطّأ إلى أنه ضعيف عنده، ونرى أنه خبر مشوّه محرّف من وجهين: الأول: حذف المناسبة التي قال فيها رسول الله الفقرة المنسوبة إليه، مما أدى إلى الاستدلال به على استنتاجات فقهية كارثية تؤسس للإرهاب الخارجي المستهدف لغير المسلمين. الثاني: تشويه دوافع مولانا أبي بكر إلى مقاتلة مانعي الزكاة، حيث أظهرته الرواية الزهرية ومعه الصحابة يرون قتل تارك الصلاة حدا شرعيا، وقياسا عليه قرر قتال مانعي الزكاة، وبذلك تمّ التأسيس للإرهاب الداخلي المستهدف لعصاة المسلمين. وسنشرح كل ذلك في حينه بإذن الله. والجزء المرفوع من الرواية، أي الفقرة المنسوبة إلى رسول الله، صحيح ثابت عن غير واحد من الصحابة، ولم يروه أحد في سياق جدال موالينا أبي بكر وعمر إلا سيدنا أبو هريرة، والعلة ليست منه بل من الإمام الزهري كما سيأتي. صح عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ "، ثُمَّ قَرَأَ: " {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرْ} (مسند أبي حنيفة ح6 ومسند أحمد ح14141 و ح14209 وح14560 وح15241 ومصنف ابن أبي شيبة6/480، وصحيح مسلم 35 (21)، وسنن الترمذي ح3341 وسنن ابن ماجه ح3928 ومستدرك الحاكم ح 3926). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ مرفوعا: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». (صحيح البخاري ح25 وصحيح مسلم رقم 36 (22). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مرفوعا: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا شَهِدُوا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ " (رواه أحمد ح13348 و13056، والبخاري ح392، والنسائي ح3967 وح5003، والترمذي ح2608). وهناك روايات أخر صحيحة عن غير هؤلاء، لم تربط الحديث النبوي بقصة الخليفتين، وسنذكر بعضها بإذن الله. والمشكل المشترك بين هذه الطرق، هو عدم ذكر الظروف والسياق الذين ورد فيهما الحديث، وهما يشرحان المعنى المستقيم الذي أراده نبي الله عليه السلام. فلما وقف علماؤنا على هذه الروايات المنفصلة عن سبب ورود الحديث، وجعلوا حديث أبي هريرة المقرون بحوار الصديق والفاروق أصحها وأقواها، انتهوا إلى خلاصات خطيرة كانت على ماضي المسلمين وحاضرهم. الاستنتاجات المتطرفة من الحديث والقصة المرفقة: انطلاقا من التسليم بصحة رواية الزهري رحمه الله، خصوصا بعد ختم الشيخين عليها بطابع الصحة، فإن علماءنا السابقين واللاحقين استنبطوا منها المصائب الكارثية والدواهي الآتية: أولا: مقاتلة الكافرين واجب شرعي لإرغامهم على الإسلام، ولو كانوا مسالمين لنا غير عدوانيين، ودون تفرقة بين المشركين وأهل الكتاب، وهذا رأي طائفة كبيرة من الفقهاء نظّرت لعلاقة الحرب والحقد بيننا وبين غيرنا، وهي سلف "داعش" ومثيلاتها من التنظيمات المتطرفة. ثانيا: المقصودون في الحديث هم المشركون الوثنيون وكل مجموعة بشرية ليس لها دين سماوي، فقتالهم على الإسلام فرض متى قدر المسلمون على ذلك، ويستوي المسالمون والمحاربون في هذا الحكم، وهو رأي الجماهير سلفا وخلفا، وبالتالي تكون علاقة المسلمين بغير أهل الكتاب من الشعوب علاقة حرب وعدوان مستمرين إلى قيام الساعة. ثالثا: عقوبة تارك الصلاة هي القتل بدليل ورودها في الحديث شرطا إضافيا لحقن دماء الكافرين، وبدليل قول سيدنا أبي بكر: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" الذي يعني عندهم أن قتل تارك الصلاة كان مقررا سلفا عند الصحابة، واحتجوا أيضا بمقاتلة مانعي الزكاة، فقالوا: ترك الصلاة أقبح من منع الزكاة، فيكون قتل تارك الصلاة أولى من قتل مانع الزكاة، وهذا رأي الجمهور أيضا. رابعا: لا تكفي شهادة أن لا إله إلا الله لإثبات إسلام المعلن بها، بل لا بد من صلاته وزكاته، مستدلين باشتراطهما في الحديث بعد الشهادة، وبآيات التوبة الآتية في محلها. خامسا: يقتل المجاهر بترك صيام رمضان بلا عذر قياسا على قتل تارك الصلاة ومانع الزكاة، وهذا محل خلاف أيضا بينهم. إنه لا عجب بعد هذا في أن تعادي التنظيمات المتطرفة العالم أجمع، وتحلم بمحاربته وإخضاعه للإسلام كرها، وتستهين بدماء المسلمين بحجة أنهم فسقة فجرة أو زنادقة مردة أو ملاحدة كفرة. ولا شك أن هذه الاستنباطات الفقهية المتسرعة ولّدت ولا تزال تولّد ثقافة التطرّف بين المسلمين، وتسهم في تفريخ الإرهابيين الإجراميين، فهي مسئولة عن فلسفة الحركات المتطرفة التي تعتبر العالم كله عدوا يستوجب القتال دون تفرقة بين العسكريين والمدنيين، ولا بين المسالمين والحربيين، وهي المسئولة عن فتاوى التكفير ومشروعية اغتيال تاركي الصلاة والمجاهرين بالإفطار في رمضان. موقفنا من الاستنباطات الفقهية: في سلسلة: "تفكيك جذور التطرف"، ومقال: "الجزية ليست حكما شرعيا"، وفي مقال: "أحاديث غير شريفة تحرض على التطرف والعدوان" ولواحقه، أوضحنا من خلال كتاب ربنا وسيرة نبينا أن الله لم يأمرنا بقتال المسالمين من المشركين والكتابيين، وإنما شرع لنا جهاد الدفاع في مواجهة هجوم ومؤامرات العدوانيين المحاربين ولو كانوا مسلمين. وفي مقال: "شمس الحرية تقيد الخفافيش" وغيره، أكدنا بآيات الكتاب المحكم وسنة النبي المعظم أن حرية الكفر والشرك حق إنساني لا يجوز للمسلمين مصادرته من شعوب الأرض، ولا يسمح لهم في دين الله بفرض عقائدهم على الناس إلا بالدعوة والموعظة والحوار. فلا نعيد تكرار ما قعّدناه فيما سبق. وانطلاقا من ذلك كله نقرر: أولا: الاستنتاجات الخمسة التي استخلصها علماؤنا من الحديث موضع الدراسة والبحث، باطلة جملة وتفصيلا، لأنها مناقضة لكتاب الله وسيرة رسوله المتواترة من جهة، وتستحق الوصف بالحماقات لأنها مناقضة للعقل والمنطق السليم من جهة ثانية، إذا تدعونا لمحاربة العالم وقطع العلائق بشعوب الدنيا، ونحن مفتقرون سياسة واقتصادا وصناعة وعسكريا لغيرنا، وكوننا أقل سكان الأرض يجعلنا في حروب دائمة متواصلة لا تنتهي إلا بقيام الساعة، وما لذلك خلقنا الله، بل خلقنا للتعارف مع شعوب البشرية والتواصل معها لإعمار الأرض على أساس السلم والعدل والتعاون على مصلحة الإنسانية جمعاء. ثانيا: إذا كان ديننا لا يسمح لنا بمقاتلة المشركين والكافرين والكتابيين المسالمين، فمن الجنون والحمق أن يدعونا لقتل تارك الصلاة أو الممتنع عن دفع الزكاة والمجاهر بالإفطار في رمضان، وليس للفقهاء حجة شرعية صريحة في ذلك مما جعلهم يختلفون، ومحال أن يقرّر القرآن حدودا للحرابة والقتل العمد والسرقة والزنا والقذف ثم يسكت عن عقوبات تارك العبادات لو كانت تصل حدّ الإعدام. ثالثا: الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقص مشوّه لفصله عن سبب وروده، والقصة المنسوبة إلى الخليفتين المهديين مفبركة أو خطأ من الزهري رحمه الله. عبارة "الناس" مشكوك فيها: رغم إقرارنا بثبوت الجزء المرفوع إلى رسول الله، فإننا نشك في ثبوت عبارة "الناس" لسببين اثنين: الأول: وهو أن القرآن الكريم جعل غاية مقاتلة أهل الكتاب المحاربين العدوانيين زمن النبوة هي دفع الجزية لا إعلان الإسلام، وكلمة "الناس" عامة تشمل أهل الكتاب والمشركين وكل الكافرين، ومن هنا استنبط المتسرعون من فقهائنا أن دفع الجزية منسوخ بهذا الحديث، وجعلوا أهل الكتاب كالمشركين يقاتلون حتى يسلموا عملا بعموم كلمة "الناس"، وهم مخطئون أشد الخطأ، فالسنة النبوية غير المتواترة لا تنسخ القرآن بل تبينه، وسياق الحديث وروايته الآتية تتفق مع القرآن وتؤكده. الثاني: ورد الحديث من طرق صحيحة هكذا: « أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله...» عند أبي داود والنسائي وابن منده والدارقطني والبيهقي والضياء المقدسي من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وصرح شرّاح البخاري أنه كذلك في بعض نسخ الصحيح، وصحّحه بتلك الرواية كل مصححي الحديث، وجعلها الجمهور حاكمة على رواية "الناس" مخصصة لها. ورواية "المشركين" توضّح أن النبي لم يقصد الكافرين عامة، وإنما أراد الوثنيين لا أهل الكتاب، وتؤكده المناسبات التي وجدناه صلى الله عليه وسلم قال الحديث فيها. فإما أن كلمة "الناس" خطأ من الرواة وهو الظاهر الأرجح، أو أنها محفوظة لكنها عامة مخصوصة بالوثنيين، وهو ما سبقنا إليه الجمهور، لكنهم لم يفرّقوا بين المشركين المحاربين والمشركين المسالمين، وهذا موضع الخلاف معهم، وإنما أوقعهم في ذلك اعتقادهم أن الحديث ينسخ القرآن، وعدم استيعاب بعضهم لما قرّره كتاب الله بشأن أحكام الجهاد. المعنى السليم للمقدار الثابت من الحديث: لا حجة للجمهور في الحديث على ما قرروه وأصلوه من استنتاجات متطرفة، واستنباطاتهم الخمسة فهوم محرّفة مشوّهة للدين الحق، والمعنى الواضح السليم للحديث هو هذا لا غير: (أمرت) في كتاب الله عبر عشرات الآيات (أن أقاتل) أعدائي العدوانيين المبتدئين لنا بالحرب والتآمر العسكري. وإذا قابلتهم في ساحة الحرب، فلن أتوقف عن قتالهم (حتى يقولوا لا إله إلا الله)، أي يعترفون بالهزيمة ويظهرون الاستسلام العسكري من خلال إعلان الشهادة المتضمنة للولاء السياسي، فإنني أتوقف عندئذ عن مقاتلتهم ولو قالوها أثناء الحرب تعوذا ونفاقا وفرارا من القتل، ثم يبقى (حسابهم على الله) المطلع على السرائر، فلست مسئولا عن ذوات صدورهم ولا متحكما في قلوبهم كما تصرح رواية سيدنا جابر. وبعد نطقهم بالشهادة فرادى أو جماعة، تسري عليهم أحكام الإسلام حسب ظواهرهم، فتصبح دماؤهم معصومة من القتل إلا إذا استوجبوا حدا شرعيا يبيح إعدامهم كالقتل العمد أو الحرابة، وتكون أموالهم معصومة فلا تؤخذ غنيمة إلا إذا فعلوا ما يبيح أخذها بالقوة منهم كالامتناع عن أداء الزكاة. ومعنى: (يقيموا الصلاة) أي يقيمون المساجد في قبائلهم بعد استسلامهم ورجوعهم، وبذلك يتأكد إسلامهم الضامن لعدم استهدافهم عسكريا، وحمايتهم من أعدائهم الكافرين، وهو ما كان معمولا به في سيرته عليه السلام، فكان إذا أرسل قوة عسكرية أمرها أن لا تغير على قوم مشكوك في ولائهم حتى تنتظر وقت الصلاة، ولا تسمع الأذان. ومعنى (ويؤتوا الزكاة) أي يؤدون الضريبة المالية الشرعية للدولة، وهي أقوى برهان على التزام قوانينها والخضوع لسلطانها، ولذلك كان عليه السلام ينتظر حلول الحول ليتأكد من ولاء القبائل النائية عن المدينة، فقيامها بجمع الصدقات من الأغنياء وإرسالها إلى المدينةالمنورة كان العلامة الفارقة على صدق إيمان أهلها والتزامهم التام بسلطان الدولة النبوية. وهذا الذي قلناه مؤيد بالكتاب والسيرة المتواترة، وهذا أوان البيان: الشاهد من الكتاب: شرحنا في مقال "تفكيك جذور التطرف" أن ديننا الحق الصافي من التحريفات يجيز لنا قتال الكافرين الحربيين دون المسالمين، ونعيد ذكر آيات بينات تؤكد لنا ما جعلناه المعنى الوحيد السليم للمقدار الثابت من الحديث: قال الله تعالى في أوائل سورة التوبة النازلة بعد فتح مكة: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ. كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ. أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ). اشترطت هذه الآيات الكريمات ابتداء الكافرين لنا بالعدوان لإباحة قتالهم، وقد أطنبنا في شرحه ضمن مقال "التفكيك"، وهو واضح للقارئ العادي المتحرر من العاطفة والتعصب قبل العالم المتبحر. وقوله سبحانه وتعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، هو الأمر الذي عناه النبي في الحديث موضوع الدرس والبحث. فالتوبة تعني إعلان الإسلام والإقلاع عن الشرك، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هما الدليل العملي التطبيقي على الخضوع للنظام العام والاستسلام لقوانين الدولة المسلمة، لكنهما ليسا شرطا في عصمة النفس من القتل، بل هما نتيجة يئولون إليها بعد إسلامهم. وقوله سبحانه: (فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، أي إذا أعلنوا الإسلام أثناء الحرب فلا تقتلوهم، وإذا أسرتموهم وأعلنوا التوبة الإيمانية فأطلقوا سراحهم دون اعتبار جرائمهم السابقة لأن الله يغفر لهم شركهم فكيف لا تغفرون لهم عدوانهم عليكم. ثم أعاد الله تعالى التأكيد على هذه المعاني الراقية الإنسانية، فقال بعد التحريض على مقاتلة المعتدين: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). وهذا التكرار ليس زيادة دون معنى، بل إنه توكيد حكيم حتى تطمئن نفوس الصحابة لحكم الله وتنشرح وتتقبل، فليس من السهل عليهم أن يؤمروا بالإمساك عن مقاتلة أو إطلاق سراح من كان يعاديهم ويمعن في قتل إخوانهم الشهداء، فالأمر ليس هينا كما نتصور نحن بعيدا عما عاشه الصحابة المرضيون من محن وظلم. وقوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، شرح في غاية اللطافة والحكمة لعلة أمر: (فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ)، أي أنهم صاروا إخوانا لكم بعد توبتهم، فلا تبخلوا بالعفو عنهم، فشأن الأخ أن يسامح أخاه مهما ظلمه وآذاه. وجملة: (وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، ليست زائدة أيضا، بل تعني الآتي عندنا: إن أحكام الجهاد مفصلة في كتاب الله تفصيلا محكما واضحا لكنه متشعب بين مئات الآيات، لذلك لن يستوعبها إلا العالمون الملهمون وهم قلة، وسيجهلها كثير من الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى يوم الدين، وهو ما أكدته استنباطات فقهائنا وفهومهم المشوهة للحديث خاصة وتفاصيل الجهاد عامة، وشهدت به جرائم المسلمين عند الغزو والفتح بعد الخلافة الراشدة. والحكمة من الآية دعوة جمهرة الصحابة لتقبل أمر الله بالعفو عن المشركين الحربيين إذا تابوا ولو لم يفهموا الغاية والعلة، فليس من شرط الإيمان أن يستوعبوا لكن طاعة أمر الله شرط فيه، فلا يسمح الاعتراض والشك بعد نزول أمره الحكيم، لكن هناك من سيفهم ويفقه ويدرك، ونحن منهم بحمد الله ولو غضب وتعجب المنكرون. وبعد هذا الذي قلناه شرحا لآيات التوبة، والذي يبدو للمتأمل المبتدئ واضحا، فمن حقك أن تبكي على احتجاج علمائنا بالآيات عينها على ضدّ ما تضمنته، فقد أيّدوا بفهمهم المشوّه لها فقههم المحرّف لحديث: "أمرت أن أقاتل الناس"، أو من حقك أن تضحك لأنهم جعلوا روايات الحديث المتشاكسة المتنافرة حكما على كلام الله وعمدة تفسيره، فقعدّوا المصائب التي فرّخت العجائب. الشواهد من السيرة المتواترة: لم يثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم هاجم قوما مسالمين، قبل نزول الآيات المتقدمة وبعدها، بحجة أنهم غير مسلمين رغم أن بعض القبائل الوثنية الضعيفة كانت قريبة من المدينة النبوية. ونتحدّى فقهاء الجن والإنس المخالفين لنا أن يذكروا واقعة وحيدة تبطل ما ندّعيه ونقرّره هنا، بل نتحدّاهم أن يوردوا دليلا من تاريخ الخلافة الراشدة المنتهية باستشهاد مولانا علي، تفيد أن جيش الخلافة هاجم قوما مسالمين لإرغامهم على الإسلام. وإمعانا في التحدي، فإننا نقسم واثقين بأغلظ الأيمان أن ذلك لم يحدث، ولو جئتم بواقعة وحيدة صحيحة تنسف دعوانا، فإننا مستعدون لإعادة النظر في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلامة ديننا العظيم وصلاحيته، وليس في فهمنا لمسألة الجهاد وحسب، فأجمعوا أمركم يا من تؤيدون استنباطات الفقهاء المتقدمين المتأثرين بحروب أزمنتهم. وبالمقابل، فنحن نكشف للأمة سبب ورود الحديث وسياقه المعين على فهمه، وهو سياق أسقطه الرواة من الروايات المخرجة في الصحيحين وغيرهما، لكن الله الذي وعد بحفظ كتابه نصا وتأويلا، حفظ لنا عبر روايات صحيحة لا يلقي لها علماؤنا بالا ولا يستحضرونها عند شرح الروايات العارية عن السياق: الحديث الأول: قال سيدنا أوس بن أوس: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفَ، فَكُنْتُ مَعَهُ فِي قُبَّةٍ، فَنَامَ مَنْ كَانَ فِي الْقُبَّةِ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ» فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُهَا تَعَوُّذًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا يَعْنِي ذَرْهُ، ثُمَّ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا حَرُمَتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا». زاد في رواية: قَالَ أوس: وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ: وَمَا مَاتَ حَتَّى قَتَلَ خَيْرَ إِنْسَانٍ بِالطَّائِفِ. رواه عبد الرزاق10/163، والطيالسي ص151، والدارمي2/287، وابن أبي شيبة (6/480)، وأحمد ح16163 ح16205 وح16208، والنسائي ح3979 وح3982، وابن ماجه ح3929، والبزار، والطبراني1/217، وأبو يعلى في المسند ح6862، وابن قانع1/29، وأبو موسى المديني في اللطائف ح455، وصححه الحافظ البوصيري والألباني والأرنؤوط وحسين سالم). فقه الحديث: بعد انتصار المسلمين في غزوة حنين والطائف، جاء وفد ثقيف معلنا إسلام القبيلة، فأخلى رسول الله أسراهم، وأعاد إليهم أموالهم التي غنمها أصحابه الكرام. وكان هناك رجل ثقفي مهدور الدم بقرار رسول الله عليه السلام لعدوانه وجرائمه في حق المسلمين، فتم القبض عليه، وجاء أحد الجنود يخبر رسول الله بذلك ويستخبره حكمه، فأكد له أن حكم إعدامه واجب التنفيذ، لكنه استدرك فسأل هل أعلن الشهادة أم لا؟ فلما أخبره الجندي أنه قالها، أصدر أمره بإخلاء سبيله، فاعترض الجندي مستغربا لأنه استشعر احتيال الأسير، وهنا قال رسول الله الحديث الذي عليه مدار المقال، ثم تأكد أنه أعلن الشهادة للفرار من الإعدام حيث قتل سيدنا أبا مسعود رضي الله عنه، ولم يغير نبي الله مبدأ القرآن بسبب ذلك كما سنرى. وقد أفاد حديث مولانا أوس الآتي: أولا: الرواة الذين رووا الحديث القولي في الصحيحين وغيرهما شوهوا الحديث لأنهم أخرجوه من سياقه. ثانيا: الرجل الذي قال رسولنا الحديث في حقه كان قبل إعلان الشهادة مشركا حربيا، لا مسالما، فتأكّد أن شريعتنا لا تجيز لنا قتال المسالمين، وأن الاستدلال بالمتن النبوي تحريف للدين الحق. رابعا: ثبوت احتيال الكافر بنطق الشهادة أو الشك في سريرته لا يبيحان دمه، بل يخلى سبيله حتى يصدر عنه ما يستوجب العقاب. خامسا: لم يفرض رسول الله الإسلام على المحاربين من ثقيف، بل أسرهم واغتنم أموالهم جزاء عدوانهم، ثم اختاروا الإسلام طواعية لما شاهدوا من حسن المعاملة معهم في الأسر، ولأنهم تأكدوا من صدق نبوته، وقد شاركوا في غزوة تبوك، ثم أبلوا البلاء الحسن مع قريش والأنصار في حروب الردة، فكان ذلك عنوان إيمانهم عن قناعة لا عن إكراه. سادسا: لم ينتظر رسول الله حتى يصلي ذلك الكافر ويزكي ليخلي سبيله، فتأكد ببرهان الشريعة أن الصلاة والزكاة ليسا شرطا في الإسلام ولا في عصمة الدم من القتل، فهما شرط كمال فقط. الحديث الثاني: عَنْ مولانا مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْلَجَ لِلنَّاسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ، إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِرَأْسِ هَذَا الْأَمْرِ وَقِوَامِهِ» فَقُلْتُ: بَلَى، بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّ رَأْسَ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ قِوَامَ هَذَا الْأَمْرِ إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَيَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (رواه أحمد ح22175، وابن ماجه ح72، والخلال في السنة4/61، والبزار في المسند بالزخار1/410، والمروزي في تعظيم الصلاة1/91، والطبراني في المعجم20/75 والدارقطني في السنن1/434، وابن بطة في الإبانة2/674 و2/801، واختصره الترمذي، وصححه هو والسيوطي في الجامع، والأرنؤوط في التعليق على المسند، والألباني في صحيح ابن ماجه، والحق أنه حسن بشواهده). ونلاحظ أن الرسول قال الحديث في طريقه لمقاتلة الروم النصارى المعتدين لا في سيره لغزو قبيلة مسالمة، علما أنه ترك في جزيرة العرب عشرات القبائل الوثنية والنصرانية الوديعة، وخرج صلى الله عليه وسلم لحرب أقوى دولة في زمنه لعدوانها، فسبب الحرب في ديننا الحق هو عدوان الطرف الآخر لا كفره وشركه، ومن له رأي مخالف فهو على غير منهاج الإسلام في هذه المسألة تحديدا مهما كانت إمامته. والخلاصة أن النبي قال الحديث في حالة حرب مع المعتدين تعليما وتنبيها، وكانت تبوك بعد الطائف التي جرت فيها قصة سيدنا أوس بن أوس، فتكرار الحديث كان بغرض توكيد المبدأ الإسلامي الإنساني، وهو أننا نوقف الحرب بمجرد إعلان العدو شهادة الإسلام ولو كان منافقا. وتقديم الصلاة والزكاة على الشهادة خطأ وشذوذ من الرواة جزما، بدليل ورودهما بعدها في غير حديث معاذ ومن طرق أكثر وأصح. الحديث الثالث: روى الطبراني في المعجم الأوسط (6/135) عن أَبِي مُوسَى الأشعري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَبَارَزَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُ، ثُمَّ دَنَا فَوَقَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلَى مَا تُقَاتِلُونَ؟ فَقَالَ: «دِينُنَا: أَنْ نُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأِنْ نَفي لِلَّهِ بِحَقِّهِ» قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَحَسَنٌ، آمَنْتُ بِهَذَا، ثُمَّ تحَوَّلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَحُمِلَ، فَوُضِعَ مَعَ صَاحِبَيْهِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَؤُلَاءِ أَشَدُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَحَابًّا». وهو في حلية الأولياء (2/317) وموجبات الجنة لابن الفاخر العبشمي ص80 من طريق الطبراني. قال أبو نعيم الحافظ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رُوَاتُهَ أَعْلَامٌ ثِقَاتٌ. ه وصححه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد برقم 9531. قلت: بمجرّد إعلان الرجل الشهادة صار مسلما شهيدا مبشرا بالجنة من غير تأكيد إيمانه بالصلاة والزكاة، فاشتراطهما كما قال بعض العلماء لثبوت الإيمان خطأ فاحش. والحديث دليل إضافي على أن الحديث يقصد الكافرين الحربيين. الحديث الرابع: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (يوم خيبر): «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ» - قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ - فَدَعَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: «انْطَلِقْ وَلَا تَلْتَفِتْ» ، فَمَشَى سَاعَةً، ثُمَّ وَقَفَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى مَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: «قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (مسند الطيالسي (2563)، وسنن ابن منصور (2/215)، ومسند أحمد (8990)، وصحيح مسلم (2405)، وسنن النسائي الكبرى (8350)، وصحيح ابن حبان (6934). قلت: هذا حديث صحيح مشهور عند السادة العلماء، لكنهم لم يلتفتوا إليه عند شرح حديث المقال. وفيه تأكيد على أن المقصود بالمستحقين للقتال هم العدوانيون الحربيون، سواء كانوا أهل كتاب أو مشركين، وخيبر كانت آخر معاقل اليهود، نقضوا المعاهدات مع رسول الله، فاستوجبوا الحرب، ولم يسلم إلا قلة منهم، أما الباقون فثبتوا على دينهم، لكنهم استسلموا لسلطان المسلمين، وعادوا مواطنين مسالمين، فأبقاهم رسول الله ببلادهم ومات وهم هناك، ولم يفرض عليهم أي جزية، ولم يرغمهم على الإسلام، فبانت العلة لسكوت الشراح والمستنبطين عنه وهم يقعّدون الأحكام انطلاقا من قصة مولانا أبي بكر مع المرتدين، لأنه يشوش عليهم ويفسد استنتاجاتهم. وما قاله رسول الله لمولانا علي خاص بالأفراد الذين يعلنون إسلامهم أثناء المعركة، فدماؤهم تصير معصومة محرمة لمجرد الشهادة، لأن ديننا يريد تقليل القتلى لأي سبب. ولم يشترط نبي الرحمة الصلاة والزكاة لحقن الدماء لأنهما شرطا كمال فقط، ولا نلتفت لمن يتعسّف فيزعم أنه لم يذكرهما لأنهما كانا معلومين عند مولانا علي، لأنه كلام فارغ لا يستحق التعليق بعد الأحاديث المتقدمة، والذي يليها أقوى صفعة على خد المتعسّفين في التأويل. الحديث الخامس: قال سيدنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}؟ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ. (رواه أحمد ح21802، وابن أبي شيبة في المسند ح150، والبخاري ح4269 ومسلم 158(96) واللفظ له لتمامه، وأبو داود ح2643 والنسائي في الكبرى ح8541، وأبو عوانة ح192، وابن منده في الإيمان1/206، وأبو نعيم في المستخرج1/171، والبيهقي في السنن8/36 وغيرهم) قلت: هناك وقائع أخر تشبه هذا الحدث، وخبر مولانا أسامة يغني عن التطويل بذكرها، وفي غضب رسول الله على فعلة أسامة ضربة قاتلة لفقه التطرف والعدوان، فالرجل كان مشرك حربيا لا مسالما مدنيا، وحقن دمه صار ثابتا بعد الشهادة وقبل أي صلاة أو زكاة. ثم تنهال جملة سيدنا سعد بن أبي وقاص صاعقة على تراثنا المتطرف العدواني المقرر بعد فناء الصحابة الكبار، فتبيّن معنى الآية التي يستند إليها المتلاعبون بكتاب الله، إذ يزعمون أن قوله سبحانه: (حتى لا تكون فتنة) يعني: حتى لا يبقى شرك أو كفر في الأرض، تجد ذلك في التفاسير وكتب العقائد والفقه. وسعد الفقيه المجاهد يوضح أن الفتنة هي عدم الأمن بسبب وجود الأعداء والمتربّصين، فيقاتلون حتى يسلموا أو يعلنوا الهزيمة والخضوع للسلطة المسلمة، وبذلك تنطفئ نار الفتنة وإن بقوا على الشرك أو غيره بعيدا عن الإسلام. ولا شك يستوعب مولانا سعد ذلك، فهو من كبار فقهاء الصحابة وأبطال الجهاد لدفع العدوان، وكان حاضرا مع رسول الله كل المشاهد بما فيها خيبر وحنين والطائف حيث نطق رسول الله بحديث المقال وشرحه عمليا وتطبيقا، فكان مولانا سعد أولى بالفهم. وكلام المعترض على مولانا سعد دليل على أن تحريف مفاهيم الجهاد وانحراف مقاصده ظهر زمن التابعين، فالمعترض صحابي صغير أو تابعي كبير، فكيف لا يتوسع الخرق بعد ذلك مع الفقهاء والمفسرين؟ وقول سعد رضي الله عنه: (وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ)، دليل على أنه لم يكن راضيا على حروب بني أمية التوسّعية بحجة القضاء على الشرك والكفر، والمخاطب المعترض يبدو أميرا أمويا لا محالة. فإن قلت: كيف عرفت ذلك؟ فالجواب: طالع مثلي تطّلع، وتكتسب أدوات الفهم والتحليل، وتكن خبيرا بحوارات الصحابة وسجالاتهم. وهاك ما يريحك ويزيل تشكك: كان مولانا سعد قائدا عسكريا فذّا، قاد فتوح العراق وغيره، ولم ينزل عن صهوة جهاد المعتدين من الروم والفرس حتى عزله بنو أمية عن إمرة إحدى حواضر العراق. ثم عاش إلى ملك معاوية رحمه الله وغفر لنا وله، وكان بين فئة قليلة تتجرأ على معارضة سياسات معاوية الداخلية والخارجية، وتنتقده سرا أو علنا أو مباشرة بحضرته. فالجملة موضع التحليل موجهة لمعاوية أو أحد أمرائه حتما، والرواة كانوا يسترون أسماء الكبار ويخفونها خوفا على النفس أو المساس بهيبة الشخصية المبهمة. وما دام له أصحاب يعينونه في حروب تؤدي إلى الفتنة لأنها تستهدف من لا يجوز قتالهم، فهو قائد عسكري أموي لا محالة. ومعاذ الله أن نترك كتاب الله وسيرة رسول الله وفهم أبطال الجهاد زمن النبوة والخلافة الراشدة، ثم نتبنى اجتهادات الشافعي وابن حزم ومن سار على دربهما من الجمهور، والله يرحم المستور منهم والمذكور. نذهب لهذا التوجيه لأن النقاش كان حول آية تتعلق بالتحريض على مقاتلة المشركين العدوانيين، ويحتمل أن يقصد سيدنا سعد اقتتال المسلمين بينهم، فإنه اعتزل الفتنة الكبرى والصغرى، لكنه احتمال بعيد لما تقدم تفصيله. وبالمناسبة، فالآية يتعمدون بترها وحذف سابقها ولاحقها لأنه يفسد فهومهم الخطأ، فتمام الآية هكذا في سورة البقرة: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ. فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ، فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ). تأمل الآيات ثم انظر ما قرّره فقهاؤنا تلحظ البون الشاسع والفرق الواسع بين ظاهر كلام الله القاطع وتقارير الفقه المشوه الضائع. إن الله يدعو لمقاتلة الذين يقاتلوننا، أي يبادروننا بالقتال، ويواجهوننا في الحرب، ويحرّم الاعتداء عليهم رغم أنهم حربيون، ويبين أن الفتنة هي تهديداتهم المحققة، ثم يخبرنا أنه يغفر لهم إذا أمسكوا عن حربنا، والمغفرة هنا هي عدم المعاقبة على ما سبق من جرائمهم ضرورة، ثم يأمرنا بالتوقف عن استهدافهم إذا جنحوا للسلم ويستثني الظالمين المعتدين. إنها معان واضحات مشرقات، وفي تراثنا التفسيري والفقه المعتمد مهملات منسيات، فهل نحييها أم نقلد أخطاء الأموات؟ وما قلناه عن الفتنة هنا سبقنا إليه سلفنا العالم المجاهد: جاء في صحيح البخاري (ح4650) أن رجلا عاتب سيدنا ابن عمر على اعتزاله القتال بين المسلمين، محتجا بقوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فقَالَ له: «قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ الإِسْلاَمُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا يَقْتُلُونَهُ وَإِمَّا يُوثِقُونَهُ، حَتَّى كَثُرَ الإِسْلاَمُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ». وفيه برقم (ح7095) عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا، قَالَ: فَبَادَرَنَا إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدِّثْنَا عَنِ القِتَالِ فِي الفِتْنَةِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الفِتْنَةُ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ «إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ المُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى المُلْكِ» وفيه أيضا (ح4514) عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا، وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ، قَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ، إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالصَّلاَةِ الخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ» قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قَالَ: " فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الإِسْلاَمُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ: إِمَّا قَتَلُوهُ، وَإِمَّا يُعَذِّبُونَهُ، حَتَّى كَثُرَ الإِسْلاَمُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ ". إن محلّ الشاهد في أثر ابن عمر هو تفسيره السليم للفتنة في كتاب الله على خلاف ما يقول أصحاب ثقافة التطرف، أما اعتزاله القتال إلى جانب مولانا علي الذي كان يدور مع الحق حيث دار، وكان مأمورا بمقاتلة الناكثين والقاسطين، فقد كان موقفا مجانبا للصواب، بل أمعن في الاعتزال فلم يشارك في قتال الخوارج المارقين، وقد كفانا رضي الله عنه بنفسه حيث أعلن آخر حياته أسفه الشديد على عدم مقاتلته الفئة الباغية بقيادة معاوية غفر الله لنا وله، وتلك قضية وقصة أليمة لا نريد خوضها الآن. وفي الجزء الموالي، نناقش رواية الزهري، ونبين حقيقة قتال الصحابة لمانعي الزكاة، ونثبت بالأدلة الشرعية أن قصة الزهري خطأ منه وتخليط لكثرة محفوظاته رحمه الله، فهي ضعيفة منكرة ولو خرّجها الشيخان رحمهما الله في أصح كتب السنة. *خريج دار الحديث الحسنية، وخطيب جمعة موقوف بسبب مقالاته وآرائه -أستاذ التربية الإسلامية بالتعليم الثانوي [email protected]