أثار الموقف المغربي الأخير تجاه الأزمة السعودية الإيرانية، نتيجة إعدام المعارض الشيعي نمر باقر النمر، موجة من التساؤلات المستغربة من النبرة الحيادية والباردة التي تضمنها بلاغ وزارة الخارجية المغربية، لاسيما أن الأمر يتعلق بحليف غير عاد للمملكة. هذا الموقف يمكن اعتباره كمدخل ومنطلق لتحليل طبيعة العلاقة التي تربط المغرب بدول الخليج العربي ككل، حيث ظل النظام المغربي يحتفظ بعلاقات قوية بأنظمة الحكم بالخليج منذ الاستقلال إلى اليوم. علاقة أخذت أشكالا وغدت أكثر عمقا وتوطيدا بعد نجاح ثورة الخميني في إيران، بعدما دفعت هذه الثورة الأنظمة الملكية العربية إلى الاصطفاف والتحالف للتصدي للمحاولات الرامية إلى تصدير الثورة الإسلامية، التي كانت ترى في العائلات الحاكمة بالخليج مجرد أنظمة عميلة للغرب عموما وأمريكا تحديدا. غير أن هذا التحالف أو العلاقة المغربية الخليجية ظلت لسنوات طوال محصورة على مستوى نظم الحكم، شخصية أكثر منها مؤسساتية، وعلى نطاق محدود وشكلي يغلب عليها طابع الصداقة، وما تعرفه أحيانا من مجاملة وعرفان وجميل، وغضب وفتور أحيانا أخرى. وفي إطار هذه الصداقة لم يبخل المغرب بجيوشه لحماية سيادة دول الخليج (نشر جنود مغاربة بهذه الدول إبان حرب الخليج)، في المقابل كانت تلك الدول بدورها لا تبخل بعطاياها وهباتها المالية على المغرب. ومع توالي السنين، ومع مجيء الملك محمد السادس، عرفت العلاقة مع دول الخليج طفرة نوعية، وتحولت العلاقة من مجرد صداقة إلى شراكة استراتيجية أكثر قوة ومتانة من سابقاتها على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية، شراكة تمتد من شمال أفريقيا إلى غرب آسيا، محورها المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي. سياقات التشكل شهدت المنطقة العربية أواخر سنة 2010 "حراكا شعبيا" سمي آنذاك ب"الربيع العربي"، من إفرازاته سقوط بعض الأنظمة العربية، ودخول دول أخرى في مسار يتسم بالفوضى والانفلات الأمني، وتمزق كيان الدولة مثل ليبيا وسوريا. في هذا السياق، عرف المغرب بدوره موجة من المظاهرات والاحتجاجات جسدتها حركة 20 فبراير، تمحورت مطالبها حول محاربة الفساد، وإقرار الملكية البرلمانية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وغيرها من المطالب التي تفاعلت معها المؤسسة الملكية بشكل ايجابي، حيث تم تعديل الدستور، وإجراء انتخابات تشريعية كان من نتائجها فوز الإسلاميين، وإطلاق عدة مبادرات وإجراءات لقت استحسان الجميع، الأمر الذي جنب البلاد الدخول في متاهات ومسالك مجهولة. هذا المنحى المتمثل في طريقة تعامل المؤسسة الملكية مع الأحداث والحراك، وامتصاص الغضب الشعبي، واختيار الطريق الثالث، الذي يرتكز على التغيير في إطار الاستمرارية، والمحافظة على الاستقرار في محيط مضطرب، كلها عوامل جعلت الأنظار الغربية وحتى الخليجية تتجه بنوع من الإعجاب إلى التجربة المغربية. هذا الإعجاب والإشادة ترجمته دول الخليج بدعوة المغرب إلى الانضمام إلى مجلسها، كاعتراف بهذا النموذج الإصلاحي الذي يمكن تسويقه واستيراده وتطبيقه والاستفادة من التحولات والدينامية السياسية التي عرفها المغرب ضمانا لعروشها، والاستفادة كذلك من الإمكانيات العسكرية والأمنية التي يتوفر عليها المغرب لدعم أمنها وحماية سيادتها إقليميا ودوليا في محيط مضطرب، من خلال تشكيل حلف- ملكي أو ناد يضم الملكيات العربية. من هنا يمكن فهم حيثيات توجيه دعوة الانضمام كذلك للمملكة الأردنية، كما أن الاستقرار السياسي والاقتصادي مكن المغرب كذلك من تعزيز جاذبيته للاستثمارات العالمية، وعلى الأخص الاستثمارات الخليجية. تشابك المال والسياسة والأمن والعسكر إن تشكيل محور جديد "المغرب- الخليج" في ظل التحولات المتسارعة التي تعرفها المنطقة العربية، هو خيار استراتيجي لكلا الطرفين، هو متنفس اقتصادي ومالي للمغرب، من خلال سعيه إلى بناء شراكة استراتيجية، توجت في سابع نونبر 2012 بتوقيع الجانبين في المنامة على مخطط عمل بينهما عن الفترة (2012-2017)، ثم تعديله إلى الفترة (2013-2018 ). وكانت الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس في أكتوبر 2012 لكل من المملكة العربية السعودية وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة، وضعت المحددات الأساسية لهذه الشراكة الاستراتيجية، التي بمقتضاها ستضخ دول الخليج، بواسطة صناديقها السيادية، استثمارات بأكثر من 100 مليار دولار، تشمل قطاعات السياحة والصناعة والزراعة والتعليم والصحة، إضافة إلى مشاريع استراتيجية كالطرق والموانئ وتحديث البنيات التحتية. أما بالنسبة لدول الخليج، فاستفادتها من الحليف المغربي تهم بالأساس ثلاثة مستويات حيوية، الأول اقتصادي، حيث يعتبر المغرب بوابة مجلس التعاون الخليجي تجاه أفريقيا وأوروبا نظرا لموقعه الاستراتيجي المهم، الأمر الذي سيساعده على التوسع اقتصاديا في هذه المناطق من خلال الاستفادة من الخبرة المغربية. والثاني سياسي- دبلوماسي، من خلال محاولة استلهام التجربة المغربية وتسويق النموذج المغربي، على اعتبار أن المؤسسة الملكية المغربية قدمت الدليل على أن الملكيات العربية قادرة على قيادة مسلسل الدمقرطة في ظل انتكاسة وتراجع الجمهوريات العربية التي كانت بالأمس القريب عنوانا للعصرنة والتحديث. والعمل والتنسيق دبلوماسيا مع المغرب من أجل استثمار العلاقات القوية التي ترتبطه ببعض الدول الأوربية، كفرنسا، فيما يخص بعض ملفات وقضايا الشرق الأوسط. أما المستوى الثالث، فيرتبط بالتعاون العسكري والأمني والاستخباراتي، حيث تعتمد دول الخليج على المغرب بشكل كبير للحد من التغلغل الشيعي مغاربيا وإفريقيا، وحاجتها الملحة والحيوية كذلك للجيش المغربي بخبرته وتمرسه للدفاع عن سيادتها وأمنها القومي، سواء من خلال مشاركته، حسب بعض التقارير الصحافية، في قوات درع الجزيرة (يتكون من 40 ألف جندي ويعتبر الجناح العسكري لمجلس التعاون الخليجي) سنة 2011 في التدخل العسكري في البحرين للقضاء على تمرد الأغلبية الشيعية، ومشاركته كذلك عسكريا في "عاصفة الحزم" للقضاء على الحوثيين المعرفين "بجماعة أنصار الله"، حيث من خلال هذا التدخل ساهم المغرب إلى جانب دول الخليج في التأسيس لنمط جديد ومغاير لحل النزاعات الاقليمية، التي كانت تتم في السابق بالاعتماد كليا على القوى الغربية، دون إغفال الاصطفاف مع دول الخليج في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وتقديم الدعم اللازم، بعد أن بات المغرب يتوفر على منظومة أمنية قوية وإستراتيجية استباقية في مكافحة الإرهاب، دعم يشمل التنسيق الأمني، وتبادل المعلومات الاستخباراتية والدعم العملياتي. إذن، فالدعم العسكري والاستخباراتي المغربي لدول الخليج يندرج في إطار انخراطه القوي في التصدي لأية محاولة غايتها المساس بسيادة دول المجلس، هذا الانخراط ساهم بشكل كبير في إحداث نوع من التوازن الاستراتيجي، بعد ملئ الفراغ الذي تركته أمريكا في عهد أوباما بالمنطقة، خاصة في التصدي للنفوذ الايراني الفارسي المتزايد. تساع دائرة الالتباس والغموض علاقة المغرب بدول الخليج العربي بقدر ما تتوسع وتزداد قوة ومتانة أحيانا، بقدر ما يكتنفها الغموض والالتباس أحيانا أخرى، ففي الوقت الذي تعامل فيه المغرب بحيادية تجاه الأزمة السعودية- الإيرانية الأخيرة، دفعت السفير الايراني بالمغرب محمد تقي مؤيد إلى وصفه "بالموقف الحكيم والحيادي والواقعي"، فقد اتسم موقفه سابقا بالحزم إن لم نقل التسرع خلال الأزمة البحرينية- الإيرانية، حيث طبقا لبرقيات السفارة الامريكية في الرباط، التي نشرها موقع "ويكيليكس"، فإن المغرب قام بقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران في شهر مارس عام 2009 بناء على طلب السعودية. بالمقابل لم يسبق لأي دولة خليجية أن تضامنت بالقوة نفسها مع المغرب، سواء ضد الجزائر أو غيرها. وفي إطار الالتباس الحاصل على مستوى المواقف دائما، فموقف دول مجلس التعاون الخليجي من قضية الصحراء غير واضح ويتسم بالتردد، ففي الوقت الذي ينخرط فيه المغرب سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا مع هذه الدول، فإنه لم يتلق الدعم اللازم سواء خلال أزمة السويد عندما لوحت هذه الأخيرة بإمكانية اعترافها بالبوليساريو، أو خلال الدورة التسعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، فباستثناء البحرين، فقد تعرض المغرب لحملة شرسة من قبل جنوب إفريقيا ونيجريا ودول أمريكا اللاتينية. الدعم الذي يتلقاه المغرب من بعض دول الخليج، كالإمارات والسعودية في قضية وحدته الترابية، يأخذ طابعا محتشما وظرفيا ومناسباتي، وسريا في أقصى الحالات، في حين إن المغرب يعبر عن مواقفه علانية، ويتماهي مع دول الخليج في عدة ملفات، مما يجعل منه خصما لإيران ولأطراف أخرى ليس من مصلحته استعداءها. هذا الالتباس تصل تموجاته لتؤثر على مستويات أخرى، سواء على المستوى السياسي، بحيث إن استفادة المغرب اقتصاديا وماليا من الخليج يفرض عليه تارة الاصطفاف في "نادي الممالك المحافظة"، مما قد ينعكس سلبا على الصورة التي يتم تسويقها للمغرب في علاقته بأوروبا كبلد عصري يعمل على بناء وتطوير ديمقراطيته الناشئة وتحديث مؤسساته، أو على المستوى المالي، بحيث سجل عدم التزام وتأخر بعض دول مجلس التعاون الخليجي، في إطار الشراكة الاستراتيجية، بدفع الهبات المالية المقررة. مستوى آخر لا يقل أهمية ويظل بدوره ملتبسا ويؤثر سلبا على مسار ومستقبل علاقة المغرب بالخليج العربي، وهو الموروث الثقافي والفكري، فالازدهار من الناحية العمرانية ومستوى العيش بدول الخليج لم ينعكس إيجابيا على البنية الثقافية والسلوكية للمواطن الخليجي، سلوك يتسم بالبداوة والتعصب في بعض الأحيان خاصة في بعض الدول، جراء الممارسات غير الإنسانية التي يتعرض لها العاملون المغاربة ذوو التكوين المحدود على يد بعض الخليجين، فالعمالة المغربية تجد ذاتها أكثر بدول أوروبا رغم اختلاف الدين واللغة عكس الخليج، هذا الأخير يفتقر إلى تقاليد راسخة للتعامل مع العمالة الوافدة. دون أن ننسى أن صورة الخليجي في المخيال الثقافي المغربي سيئة، حيث ينظر إليه كإنسان يبحث عن الجنس، ولم تقم دول الخليج بأي جهد لتغيير هذه الصورة، باستثناء دولة الإمارات، حيث ساهمت شخصية الراحل الشيخ زايد المتميزة وشغفه وحبه للمغرب الذي زرعه في أبنائه، وتربية الشعب على الانفتاح، في رسم صورة إيجابية للمواطن الإماراتي. في الأخير، فرغم أن المغرب يقع على مسافة 5200 كيلومتر من الخليج، فإن مصلحته تقتضي السير في اتجاه تقوية الشراكة الإستراتيجية مع دول الخليج دون أن يعني ذلك التماهي أو الذوبان بشكل كلي مع توجهات وسياسات المجلس الذي يبقى تنظيما اقتصاديا مندمجا أكثر منه سياسيا، أطروحة تؤكدها المواقف المتباينة والمتباعدة بين دوله إزاء بعض القضايا والدول، خاصة أن علاقة المغرب بدول المجلس ليست على المنوال نفسه. فمثلا التحالف المغربي- الإماراتي، مساحات الالتباس فيه محدودة، حيث تتسم العلاقة بينهما بالقوة والعمق وتصل إلى حد الانسجام والترابط، وتليها السعودية بدرجة أقل، أما قطر والكويت، فعلاقتهما بالمغرب تبقى اقتصادية وغير منسجمة سياسيا، لاسيما وأن قطر تحتفظ بعلاقات قوية ومتداخلة مع الجزائر. لذلك فمحور المغرب- الخليج، من جهة، قد يساعد المغرب في صراعه للحفاظ على نفوذه الإقليمي، بحكم أن هذا التقارب سيؤدي إلى اختلال التوازن في المنطقة المغاربية لصالح المغرب، ومن جهة أخرى، يسهل عملية وإستراتيجية التمدد المغربي إفريقيا. * باحث في العلوم السياسية