من الإكتشافات الرائدة للسانيات المعاصرة ما يسميه المتخصصون ب"البنية المنطقية". والفكرة الأساسية لهذا الإكتشاف أن الناس عندما يتكلمون فإن البناء الظاهر لكلامهم يخفي بناء آخر ذا طابع منطقي لا يكادون ينتبهون إليه. لذلك فلكي نفهم كيف "تفكر" لغة من اللغات، ولكي نُقدِرَ الآلة (الحاسوب مثلا) على فهم اللغة وإنتاجها، فلا بد من دراسة بنيتها المنطقية التي تتوارى وراء ما يظهر من مبانيها ومعانيها. بهذا المعنى، فإن البنية المنطقية مدخل لا غنى لكل من يرغب في دراسة عبقرية لغة من اللغات. هدفي في هذا المقال أن أشرح للقارئ الكريم معنى "البنية المنطقية" وأن أبين بعض مظاهر عبقرية الأمازيغية التي تظهر بوضوح من خلال البنية المنطقية لهذه اللغة العريقة. قصة اكتشاف "البنية المنطقية" مكتشف "البنية المنطقية" هو فيرجي. ولا زال عمله الذي نُشِر عام 1879 حول نظام المنطق يُعتبر مرجعا أساسيا في هذا الموضوع. كان هدف فيرجي أن يبيّن أن معظم مشاكل المنطق الكلاسيكي وتناقضاته ترجع إلى عدم اعتناء قدماء المناطقة والفلاسفة ببنية اللغة. فإذا قلت، مثلا، "سقراط ليس موجودا" فإنك تسقط حتما في تناقض ظاهري إذ تُثبت، باستعمال الإسم "سقراط" وجود شخص اسمه "سقراط" ولكنك تنفي في نفس الوقت وجودَه، بقولك "سقراط ليس موجودا". ولتجاوز مثل هذه التناقضات الظاهرية التي تجعل الناس يسقطون في كثير من الأوهام والمغالطات في تفكيرهم، اقترح فيرجي نوعا من التحليل سمّاه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل من بعده ب"التركيب المنطقي". ويقوم هذا التركيب المنطقي على مبدأين أساسيين، وهما: 1 الجملة ليست مكونة من فاعل ومحمول يُسند إلى هذا المحمول، بل هي "وظيفة" لها عدد من المواضيع يختلف باختلاف الوظيفة.فعندما تقول بالأمازيغية: "تنُّورزم تْفلوت" (أو "تڭّورت") ("الباب مفتوح") فإنك تستعمل صيغة فعلية "تنّورزم" أصلها وظيفة "رزم" التي تحتاج إلى ثلاثة مواضيع وهي: من يقوم بالفتح (ويسمى ب"العامل") والمفتوح (ويسمى ب"الضحية") وأداة الفتح (وتسمى ب"الوسيلة"). فإذا جمعنا هذه المواضيع الثلاثة في جملة واحدة سنقول: "إرزم أنير تيفلوت ستساروت" ("فتح أنير الباب بالمفتاح"). لذلك يمكن أن نفهم بأن دور الصُّريفة "نّو" التي يقترن بها الفعل "رزم" في الصيغة الفعلية "ينّورزم" هي أن يختزل موضوعا من مواضيع هذا الفعل، أي العامل، ويجعل موضوعا آخر، أي "الضحية"، في موقع الفاعل، فتقول "تنّورزم تفلوت". لذلك أكد فيريجي ومن تأثر به من الفلاسفة على أنَّ تفكيرنا وتمثيلنا للعالم لا يتطابق مع البناء الظاهر للغة بل يتخفّى وراء هذا البناء في إطار نوع من التركيب سماه راسل، كما قلت، ب"التركيب المنطقي". وسمى عالم اللسانيات الوظيفية، هاليداي، هذا التباعد بين البنية النحوية ومضمونها الذي يقصد منه أن يعكس واقعا ما ب"التعدي"transtivity 2 كما أن للمحمول وظيفة نشبعها بالمواضيع، فإن كل موضوع هو نفسه وظيفة ينبغي أن تشبع ب"الأسوار" المنطقية. لتوضيح هذه الفكرة المهمة، لنعتبر الجملة الأمازيغية التالية: "ماكّارغ دتوڭت نمدّن" (التقيت بجُلّ الناس). للسّور المنطقي "توڭّت" مرادفات كثيرة في الأمازيغية منها "ؤڭّوت" و"أماتا" و"تيشّيمت". البنية المنطقية لهذه الجملة هي: يوجد شخص (س)، وتوجد مجموعة من الأشخاص (م) بحيث، س = أنا، و (م) = الناس، التقى (س) ب ج(م). السّور المنطقي (ج) يعبر عن فكرة "توڭّت" والتي نؤلها منطقيا على أنها مجموعة (ج) متضمنة في (م) بحيث تكون هذه المجموعة أكبر من المجموعة (ن) التي تنتمي أيضا إلى (م) وتختلف عن (ج). عندما تدخل أداة نفي على الجملة وتقول: "أور ماڭارغ دتوڭت نمدن" فإن معنى "توڭت" سيخرج من معناه السوري الذي أوضحناه أعلاه إلى معنى "التقيت بعدد من الرجال أقل من النصف". ينطبق هذا أيضا على الأعداد. فإذا قلت: "ماڭارغ دكراض ن يرڭازن" فإن المعنى أنك "التقيت بثلاثة رجال"، أما إذا نفيت الجملة وقلت "أور ماڭارغ دكراض نيرڭازن" فإن المعنى سيكون "التقيت بأقل من ثلاثة رجال". أما إذا أخرجت السّوْر "توڭّت" من حيّز النفي برفعه إلى صدر الجملة كما في قولك "توڭت نمدّن أور ديدسن ماڭارغ" فإن معنى التقليل سيختفي ليبقى معنى التكثير وحده، مما يعني أن السور المتعلق بالموضوع لا يؤول إلا داخل مجال تركيبي معلوم نسميه ب"الحيز". من ذلك أيضا إخراج الإستغراق إلى معنى التبعيض في الأمازيغية. نعبر عن الإستغراق في الأمازيغية بأسوار منطقية منها "مارّا" و"أكّو" و"قّاح" و"قاع" التي هي أصل "ڭاع" الدالة على الإستغراق في الدارجة المغربية أيضا. فعندما تقول: "أكّو ونّا ك يوتْن أت تّ وتخ" (من يضربك أضربه)، فإنك تستعمل السور "أكّو" لربط موضوع مضمر يشار إليه بالضمير غير الشخصي "وَنّا". لكنك إذا نفيت حيز تطبيق هذا السور بقولك " أورّاد وتخ أكّو وانّا ك يوتن" سيصبح المعنى أني لن أضرب جميع من يضربونك بل ربما بعضهم فقط. فتأويل السور رهين بحيزه. شومسكي و"البنية المنطقية" طور اللساني الأمريكي نوام شومسكي فكرة فيرجي في البحث اللساني بطريقة ذكية ، فافترض أننا لا نستطيع فهم اللغة الإنسانية بشكل جيد إلا إذا افترضنا أن نحو اللغة يتناصى (أي "يتجاور") مع ملكات العقل الأخرى كملكة التفكير وملكة تمييز الأصوات والأشكال وملكة الحساب وغيرها يتناصي مع هذه الملكات العقلية بواسطة البنية المنطقية. بل إن شومسكي ذهب في فكره اللساني إلى مستوى أعمق، وذلك بأن حاول أن يفحص الفرضية التي تقول بأن جزءا كبيرا من النحو يمكن أن نرده إلى البنية المنطقية. لتوضيح هذه النقطة، لنعتبر المثال التالي: "إحمل أنير إخْفْ نس" (يحب أنير نفسه) حيث يعود الضمير المنعكس "إخف نس" على "أنير". يمكنك أن تنقل هذا الضمير إلى صدر الجملة وتقول "إخف نس أَد يحميل أنير". إذا استمررت في تعقيد هذه الجملة وقلت: "إخف نس أد ينّايي سيفاون إيحميل أنير" (نفسَه من قال لي سيفاون إن أنير يحب) فإن الجملة لن تكون ملتبسة بين قراءتين: قراءة يعود فيها الضمير المنعكس على سيفاون وقراءة يعود فيها على أنير، بل ستحتفظ بقراءة واحدة وهي القراءة التي يعود فيها الضمير المنعكس على أنير، مما يعني أن هناك مستوى من مستويات الفهم يمَكِّن الضمائر المنعكسة من "تذكر" المكان الذي جاءت منه ... وهذا المستوى هو مستوى "البنية المنطقية". خلاصة البنية المنطقية مستوى من المستويات التي نكتشف من خلالها عبقرية اللغة الأمازيغية التي ينكرها إلا جاحد أو جاهل.