أنور ماجد، مفكر مغربي أمريكي، دَرَسَ السينما بِ"سكول أوف فزويل آرت" بنيويورك، ثم الأدب بجامعة المدينة نفسها. يُدَرِّس بجامعة "نْيُو إِنْغلَنْدْ" بولاية ماين بالولاياتالأمريكيةالمتحدة، وكتب في الرواية (السي يوسف)، والفكر ("إزاحة الستر عن التقاليد").. عرف بانتقاد بعض فكر إدوارد سعيد وسبيفاك، كما سلط النقد على المجتمعين الإسلامي والأمريكي..تتميز كتباته بالنزعة النقدية؛ ما جعل الغرب يطلق عليه "إدوارد سعيد المغرب العربي". كيف تقرأ أحداث ما سمي بالربيع العربي؟ لو استثنينا حدث إحراق البوعزيزي لنفسه لوجب أن نسجل قلق الحكومة الأمريكية بخصوص الأوضاع التي كانت تعرفها مصر، خاصة خلال المرحلة الأخيرة من حكم مبارك. (كان هناك حديث عن التوريث، وتقوت المعارضة، وجاء أوباما إلى الحكم...) وقد سجل، يومها، تعاون بين مناضلين ونشطاء منظمات شبابية وحزبية مصرية ومنظمات أو شركات أمريكية ترتبط بالميدان التكنولوجي، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها "غوغل" و"فيسبوك"، و"تويتر"... وانطلقت الثورة واشتد عودها عبر هذه الوسائط والقنوات، وهي أمريكية الهوية والاشتغال. لذلك يمكن تسمية الثورة في مصر "ثورة عربية أمريكية"؛ إذ إن زعيمها وأبرز مفجريها، وائل غنيم، الناشط عبر الإنترنت ومهندس الحاسوب، كان الممثل الإقليمي لشركة "غوغل" في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الغريب في الأمر هو غياب شعارات تناهض أمريكا ضمن ما رفع من شعارات خلال هذا "الربيع العربي"؛ في حين حضرت شعارات أمريكية منها: "yes we can"، "yes, we trust"، "Freedom".. والتي رفعت في كل الدول المنتفضة، وهو أمر له دلالته. الأمر الثاني الواجب تسجيله هو أن الثورات العربية كان وراء اندلاعها ما سمي بفضيحة "ويكيليكس"، إذ بينت رسائل "جون أسانج" أن سفير الولاياتالمتحدة في تونس كان يلتقي مع الرئيس بن علي، ويتحدث إليه بروتوكوليا، ولكنه حين كان يعود إلى مكتبه يكتب رسائل إلى وزارة الخارجية الأمريكية يبين فيها غضبه وقلقه وتشاؤمه من الوضع الداخلي التونسي، وسيادة الرشوة، والظلم والتمييز؛ بينما كان الناس يعتقدون أن هناك تحالفا قويا بين أمريكا وهذا الديكتاتور، وغيره من ديكتاتوريي العالم العربي. طبعا، يلتقي الزعماء والسياسيون الأمريكيون مع هؤلاء ويستمعون إليهم، ولكن حين يعودون إلى مكاتبهم تكون كتاباتهم صادقة عن الأوضاع؛ وهو ما يعبر عن عدم وجود تحالف بين أمريكا وهذه الدول الدكتاتورية؛ والدليل هو سقوط أنظمتها؛ كما يبين أن الفكر الثوري الذي أسس الولاياتالمتحدة ما يزال قويا، وما يزال يحرك الفكر السياسي والدبلوماسي الأمريكي؛ وهو أمر مفرح ويدفع نحو الأمل.. لما صدرت رسائل "ويكيليكس" الخاصة بتونس قرأها التونسيون فازدادوا اقتناعا بأن نظام بلدهم فاشل، إذ إن أمريكا الرسمية تشهد بذلك. كتبتُ عدة مقالات عن الربيع العربي، ولما انطلقت فصوله كنت يومها بسان فرانسيسكو، أقرأ قصة لتيودور هرتزل، منظر الحركة الصهيونية، بعنوان "العالم الجديد القديم"، وهي قصة تدخل ضمن "اليوتوبيا"، لكنها "يوتوبيا" واقعية، إذ إن كل ما قاله الرجل تحقق في إسرائيل.. ونرى الفكر نفسه يخترق كتاب "الدولة اليهودية".. هذا الكتيب الصغير يضم خطة لتأسيس دولة تقدمية، وتعددية، تقوم على احترام الحقوق والديانات، في وقت كان اليهود يعانون من الاضطهاد في أماكن من العالم. من بين ما كتبت عن الربيع العربي أنه لا بد سيفشل، والسبب أنه ليست هناك نظرة واضحة لما نريد تأسيسه بعد الثورة أو الانتفاضة؛ ذلك أن الخطاب الوحيد الذي كان يسمع يومها، وما يزال يسمع، هو الخطاب الأخلاقي. لاحظ ما يقال خلال الحملات الانتخابية: "نحن ضد الغش، نحن ضد الرشوة..."، لكن لا توجد نظرة واضحة للمستقبل، ولا يوجد مشروع مجتمعي محدد المعالم، مشروع اجتماعي جديد.. الشعارات التي ترفع لا تتجاوز "اللهم إن هذا منكر.. نحن نحارب الرشوة، نحارب الظلم، ونحتاج من يحررنا من كل هذا".. لا وجود لخطة طريق جديدة. حين تقترب من التيارات السياسية في العالم العربي تجد أنها تلجأ إلى خطاب أخلاقي، وتسقط في فخ الدين؛ ما سهل نهضة التيارات الإسلامية أو الإسلاموية التي تهيمن على الواقع السياسي. في نهاية المطاف، رحلت ومضة الربيع العربي واحتلت الواقع السياسي الحركات أو الأحزاب الدينية، في نماذج مصر وتونس والمغرب..وهي تيارات، في أغلبها، معادية للحريات العامة ومحافظة.. وهل يمكن أن نقرأ صعود "الأحزاب الدينية" على أنه فشل للنخب السياسية السائدة، وفشل مشروع مجتمع عربي حديث؟ بالفعل، لأن عمل الأحزاب هو تأطير المجتمع وتنمية فكره، ويقوم دور النقابات على الدفاع عن مصالح الناس المادية.. وقد أكدت الانتخابات الأخيرة في المغرب أن القمع لا يأتي دائما من الأعلى، من السلطة الحاكمة، بل يأتي أيضا من الأسفل.. ومعنى ذلك أن القمع الثقافي السائد على مستوى الطبقات الشعبية الكادحة قوي جدا.. نعلم أن فكر الطبقات الحاكمة يمكن أن يكون، أحيانا، متنورا. ويبدو لي أن بعض الحكام يخشون التيارات الإسلامية، ومن ثم يخشون بعض التحديث، حتى لا يدخلوا في مواجهة مع هذه التيارات، التي ستنتصر لأن الشعب قريب منها. ولأن الشعب بقي في منأى عن أي تنوير لعقود، أصبح سهل الانقياد، لذلك لا أحد من الطبقة الحاكمة يمكن أن يغامر..وقد عرف العالم العربي الإسلامي مصطفى كمال واحدا، وحاول بورقيبة أن يكون جريئا، والبقية الباقية خذلتها الجرأة. الملاحظ أن كلا من السلطة السياسية والأحزاب توظف الدين لصالحها ودفاعا عن مصالحها. ألا يجب أن نمنع الطرفين من اللعب بهذا المقدس من أجل صلاح المجتمع؟ ولذلك يعتبر مصطفى أتاتورك رجلا جريئا؛ لأنه أبعد المقدس من أن يوظف من الطرفين.. رغم أنه كان عسكريا؟ رغم أنه كان عسكريا كان متقدما وعصريا، فقد قضى على الخلافة وغير مجرى تاريخ تركيا، وسعى إلى تأسيس دولة جديدة وفق نظرة حديثة. ومع تقدم الزمن أصبحت تركيا دولة مهمة في محيطها الإقليمي، متقدمة على غيرها من دول المنطقة.. كان وطنيا ورفض تقسيم الإمبراطورية العثمانية، وقاوم الاستعمار الغربي؛ وهزم الجيش التركي، تحت قيادته، القوات الأرمينية والفرنسية والإيطالية، وهزم القوات اليونانية وطردها من منطقة إزمير وجزر بحر إيجه؛ وهكذا خدم هذا المعطى مصطفى كمال، فحرر بلده من هيمنة الاستعمار، وتخلص من إرث الدولة العثمانية الاستعماري قصد القضاء على ما جعل تركيا دولة ضعيفة، وقضى على الخلفاء العثمانيين الرجعيين الذين عانى البلد من سياساتهم.. كانت الدولة العثمانية قد ماتت، وهو أعلن ذلك وهيأ مراسيم الدفن.. كيف يمكن توضيح فكرة أن القمع يسكن الطبقات الشعبية الكادحة؟ سنة 2003، لما طرحت فكرة تدخل الولاياتالمتحدة العسكري لإسقاط نظام صدام حسين، اتفق معها البعض ورفضها البعض الآخر. من أيد التدخل انطلق من سبب بسيط، وهو عدم وجود مجتمع مدني في العراق، وعدم وجود أحزاب سياسية، وأن النظام قمعي، وهو نظام أقلية...ومن رفضه أكد أن الدولة ذات سيادة. وأثير جدل حول الأمر، بين من يعتبر التدخل العسكري غير قانوني، وبين من يبرر التدخل بتعرض الشعب للاضطهاد، ثم تدخلت أمريكا وعملت على مساعدة العراقيين في تحرير الدستور. وقد بعثت أمريكا لهذا الغرض أستاذا متخصصا في القانون، كان يدرس بجامعة هارفارد، وربما هو الآن في جامعة أخرى، ويدعى نواه فيلدمان (Noah Feldman).. وبالمناسبة فقد ساهم في صياغة الدستور التونسي سنة (2012) وهو دليل آخر على الإسهام الأمريكي في الربيع العربي وما بعده. فيلدمان يهودي الأصل، يتبع الديانة اليهودية ليفهم عقلية المتدينين، وقد كتب في أحد كتبه أن المسلمين لا يمكن لهم أن يتخلوا عن مبدأ الإسلام في الدستور، فلا يمكن صياغة دستور دون الإشارة إلى أن الإسلام هو دين الدولة. كما أن الرئيس يجب أن يكون مسلما.. وهذا أمر يتعارض مع مفهوم الدستور الأمريكي الذي كتب في أواخر القرن الثامن عشر. هذا الدستور الأمريكي هو أول دستور في العالم الحديث، وقد نبع من ثورة، ولم تتم فيه الإشارة إلى الله، ولكنه فتح فرصا لجميع البشر من كل الأديان ليلتحقوا بالرئاسة. ولو أن قلة من المسلمين واليهود كانوا مستقرين في أمريكا، فقد فصل الدستور الدين والدولة. الدولة تحمي حرية الأديان، وحرية المعتقد، ولكن لا دين لها.. في العراق، لما كتب الدستور، آلت السلطة إلى الشيعة لأنهم أغلبية، فتعرضت حرية الأقليات إلى الاعتداء، من يزيديين ومسيحيين، ومن يشرب الخمر، والشاذين جنسيا...ويجب الاعتراف بأن هذه الأقليات كانت تنعم بحماية في عهد صدام حسين، وكان شخص طارق عزيز يثير الإعجاب لأنه كان مسيحيا.. ولما انطلقت الأحداث في سوريا ساورني الخوف نفسه، فالعلويون في سوريا أقلية أيضا... وهاهو الإرهاب يضرب سوريا، ويحدث الدمار، والتهجير.. أليست هذه بعض نتائج الربيع العربي؟ فتح الربيع الباب على مصراعيه لفكر مكبوت، وهو جواب لا مندوحة عنه في الثقافة العربية الإسلامية، وهو تفجر "الفكر الإسلامي أو الإسلاموي".. فحين تمنح المواطن العربي الحريات فهو يتحرر في الإسلام، ولا يستطيع التحرر خارج الإسلام..وإن كان الأمر في حقيقته أمرا رجعيا مائة بالمائة. وقد كتبت عدة مقالات في الموضوع، وتعرضت لهجوم عنيف بسبب هذه الأفكار، لأنها تخالف الآراء السائدة. ودائما، يقال عني: "اللهم إن هذا منكر، فالرجل لا يعرف مضمون ما يبديه من آراء، وهو ليس إماما ليتحدث في هذه الأمور..."، وهذه ردود عنيفة، ولو كانت تَرِدُ عبر الإنترنت فهي ليست عقلانية، ولا أكاديمية، ولا تقارع الحجة بالحجة.. وكأنك تواجه كائنا ضاريا. يبدو لي أن التيار الإسلامي، في حالة المغرب، لم يأت به فقط الربيع العربي، بل سياق معين. وهو أن المغاربة جربوا من الأحزاب ما لم يلذ ولم يطب، من ليبرالية، ووطنية، واشتراكية، وجنوا الخيبة نفسها، والمرارة ذاتها، ولم يبق أمامهم إلا هذا الحزب المنتمي إلى "التيار الإسلامي"، فوجبَت تجربته. والغريب أنه عاد من خلال الانتخابات الأخيرة.. لو تحكمت الشفافية في المسلسل الديمقراطي، والانتخابات، لوجب أن ينجح حزب العدالة والتنمية، فالنزعة الفكرية الغالبة في المجتمع المغربي والعربي هي الإسلام. والإسلاميون هم من أبطال الخطاب الأخلاقي، ولا يمكن لأحد أن يهزمهم في فضاء هذا الخطاب، لأنه هو المهيمن على العقول. لا حَظَّ لكل رموز الأحزاب الأخرى، لأن بنكيران حين يقف خلف "الميكرو" يبدو فقيها يلقي خطبة، ولا أحد قادر على هزمه من السياسيين الآخرين. القضية قضية عقلية سائدة، وهو رجل نظيف، شعبي، يتحدث لغة الناس الشعبيين، ويرى فيه معظم الناس أنفسهم؛ ويبدو واحدا من أهم السياسيين في العالم العربي الآن. هو أول رئيس حكومة في المغرب المعاصر، صلاحياته تتجاوز صلاحيات كل الذين سبقوه، ولكنه رغم ذلك لا يلج قبة البرلمان بصفته وزيرا أول، بل بصفته مواطنا يتصارع، ويختلف، ويستعمل لغته اليومية دون تشذيبها، وهو شخص لا علاقة له بالادعاء الذي ينفر منه المغاربة.. ينفعل، ويغضب ويصرخ.. ويرى الناس في كل ذلك شيئا واقعيا غير مسبوق.. يرون في كل ذلك ممارسة للديمقراطية، الديمقراطية المباشرة.. ثم يعود إلى الصواب، ويعتذر.. إنه رجل شعبي، ولذلك ارتفعت أسهمه لدى الناس. الديمقراطية مسألة طبع، فالشخص الديمقراطي بطبعه وسلوكه قد يقترب من الفكر الديمقراطي ولا يمارسه، يعاديه، وينفر منه.. والحقيقة أن حزب العدالة أقل ارتشاء، يعنى بالوضع الاجتماعي للناس أكثر من غيره من الأحزاب الأخرى.. ولكن الخطير في أمر الحزب أن مرجعيته، إن لم نقل "إسلامية"، فهي أخلاقية.. والخلاصة أنه يجب ألا يقف الحزب حجر عثرة في وجه تحديث المغرب وعصرنته. خصوصية المغرب تكمن في ألا أحد يمكن أن يزعم أنه يمثل الدين ويحتكره، لأن الملك هو أمير المؤمنين.. المطلوب، بل الواجب، أن يعي المنتخبون والحكومة أن المغرب يجب أن يقارن نفسه مع دول مثل إسبانيا، وهي الأقرب، وليس مع اليمن وموريتانيا والصومال.. مع احترامي لكل هذه البلدان..والفارق بين هذين النموذجين هو الدين. وحين "تُوَرِّطُ الدين" في الحياة السياسية فأنتَ تتجه إلى ما لا تحمد عقباه.. نحو "داعش" والسعودية.. كل هذه الأمور تحتاج من الكتاب والمفكرين حوارا صريحا، لكن الأغلبية تفكر تفكيرا مصلحيا. بينما من صفات الفكر والكتابة الجرأة وتحريك السواكن. وهناك مبررات منها أن الشعب لم يبلغ من النضج ما يمكنه من الفهم.. لنفرض أن الناس، بالفعل، لا يفهمون، فهل نحكم على أنفسنا والمجتمع بالجمود؟ نهرب من التغيير، من التطور؟ فلنحاول، فلنحاول.. مشكلتنا الأساسية هي الخوف وغياب الجرأة، وهناك بالمقابل هيمنة للفكر الديني، والإحساس المهيمن على الناس هو الخوف، والسبب أننا مجتمع "طابوهات"، نشأنا وكبرنا على ما يشبه العقيدة بأن هناك "طابوهات" لا يجب أن تخرق، وهذا الاعتقاد تحول إلى نوع من الرقابة الذاتية، وهي أخطر وأقوى من رقابة المجتمع، ومن الرقابة السياسية.. فأنت تَتَحَوَّلُ إلى مُخْبِر عن نفسك، رادع لفكرك، عدو لذاتك.. ولو عدنا إلى مشيل فوكو لقلنا معه إنك تستوعب بل تستبطن فكرة القمع والتسلط، فتصبح شرطيا يراقب ذاته وغيره.. والعقل الذي يعيش هذا الوضع لا يستطيع أن يبدع، والعقل الذي لا يبدع لا يتحرر، ولا يسهم في تطوير مجتمعه، ولا يفك عنه العزلة؛ وبذلك يمنع من التطور ويحول دون التقدم.. وما نتحدث عنه الآن ليس ترفا فكريا، بل هو ضرورة، حل إستراتيجي لبلدنا المغرب، ليتحرر ويتقدم، ويغتسل من كل أدران التخلف التي عانينا منها عدة قرون.. وننتبه إلى العالم من حولنا ونسعى إلى أن نكون بالقرب منه، نشكل أمة من هذه الكوكبة.. وهذا مصيرنا، لا مفر منه.. لا يمكننا أن نعيش في فضاءين مختلفين، وفي زمنين متناقضين أو متباعدين في الآن ذاته..