أسقط الخطاب الملكي كل الأقنعة، وألقى بحجارة ضخمة في المياه السياسية والإعلامية المغربية الراكدة. وأبان عن مشهد سياسي سوريالي يختلط فيه التصفيق بالشكوى والفرح بالنقد. ومشهد إعلامي مكتوب يتلمس طريقه بتؤدة نحو الهاوية، مقتفيا أثر أخيه الأكبر الإعلام المرئي، ولسان حاله يقول: أنتم السابقون ونحن اللاحقون.
فبعد خطاب الملك مباشرة خرج أصحاب الدكاكين من لوردات الأحزاب المهترئة ليهللوا ويصفقوا، وهم يرحبون بتغيير كانوا قبل أيام يعتبرون المطالبة بنصف ما جاء به ضربا من المستحيل، وخيانة لتاريخهم الحافل بالمواقف المخجلة. كما أنه مباشرة بعد الخطاب الملكي خرج الحزب الذي ولد بلحية وشارب ليفرح بالتغيير الذي سيرد المتربصين به، والمتحينين الفرص للانقضاض على إرثه الانتخابي الكبير ، الذي بدأ البعض منه موسم الهجرة نحو اليمين واليسار خوفا من قادم الأيام. ومباشرة بعد الخطاب الملكي خرج من يبحثون عن موطئ قدم تحت المظلة السياسية، ليعلنوا أن الدستور "ممنوح"، وأن الخطاب دون مستوى التطلعات. وهم يقتاتون كعادتهم على النقد والاصطدام. ويحيون بدماء الشباب المراقة في ساحات النضال.
إنها الحالة المغربية الفريدة التي تجد فيها أحزابا هويتها التصفيق، وأخرى هويتها الاعتراض. الأولى تفتقد أي قدرة على الاقتراح والتوجيه... والثانية تنتقد الدستور وهو لا يزال أفكارا في الأذهان، حتى لا تصدأ سكاكين الثورة التي ظلت تشحذ منذ أيام...
وبعد الخطاب الملكي خرجت علينا الجرائد اليومية المترهّلة ، كما الأحزاب السياسية، تبشر بالعهد الجديد الذي ستدخله الحياة السياسية المغربية. وانبرى كتاب أعمدتها لتدبيج القصائد. وهي تحاول ترميم بكارتها وصدقيتها المهدورة بعد أن ابتلعت ألسنتها حين كان الثوار يدكون الأرض تحت أقدام ابن علي ونظامه.. ولبثت لأيام بطول سنين، تنتظر "الجهة الغالبة" لتتحفنا بتحليلاتها البائتة. وبعد أن تعثرت في توصيف حركة "20 فبراير" ومطالبها. وبعد أن كشف بعض خبرائها من محللي "الكاميلة" و"الطنجرة" أن ثورة تونس ومصر محبوكة بأياد أمريكية مخابراتية، نسجت سيناريوهاتها في واشنطن وبروكسيل...
إن الخطاب الملكي جاء بتغيير لم يؤمن به إلى الأمس القريب كل المصفقين له من شيوخ الأحزاب السياسية، ومتنبئي هذا الزمان من محبري الأعمدة في بعض الصحف اليومية... والخطاب الملكي جاء بتغيير حقيقي يسحب البساط من تحت أرجل الذين يتحينون الفرص لإدخال الشباب في معارك الهدم عوض أوراش البناء، من فلول اليسار الجذري وصناديد الإسلاميين الراديكاليين... والخطاب الملكي جاء بتغيير سيؤسس لممارسة سياسية نزيهة وشفافة تنبثق منها أحزاب سياسية تمثل الشعب وتحفظ أمواله وتستأمن على مستقبل أبنائه. وسيؤسس لممارسة إعلامية صادقة وشريفة تنبثق منها جرائد وصحف تصنع مقالاتها في غرف تحريرها وليس في دهاليز المخابرات. وتحدد خطها التحريري بمواقفها الجريئة وليس بأرصدة أصحاب الإعلانات.