مع اندلاع الحركات الاحتجاجية فيما بات يعرف تاريخيا بحركة 20 فبراير التي تجاوبت مع هبات الربيع العربي ، وبعد إقرارومصادقة الشعب المغربي على الدستور الجديد للمملكة المغربية ، أصبح من المسلم به الإعتراف بالدور الذي صار يضطلع به المجتمع المدني في العديد من المجالات ذات الارتباط بالشأن العام للدولة والمجتمع، على السواء ، فرغم أن مفهوم المجتمع المدني في الدول النامية عموما و في المغرب خصوصا مازال ملتبسا إلى حد ما ، من حيث افتقاده إلى الرؤية الإستراتيجية وآليات الاشتغال التي تجعله على مسافة من الدولة،ومؤسساتها مما يمكنه من الحفاظ على استقلاليته، إلا أن بوادر الانعتاق و التحرر من ذلك بدأت تلوح في الأفق و لو من بعيد وتمنح البصيص من الأمل. في المجتمعات المتقدمة ، تحول المجتمع المدني إلى شريك أساسي في التسيير ، حيث تحول من مجرد قوة اقتراحية إلى شريك ، وهي الحلقة التي ظلت غائبة عن علاقة المجتمع المدني في بلدنا، بسلطة القرار، إذ ظل على الدوام متماهيا مع الدولة مترجما لتوجهاتها ومسايرا لتصوراتها دون أن يرقى إلى مرتبة القوة الاقتراحية حتى، وهي الوضعية التي عرفت نوعا من التزحزح في العشرية الأخير ة مع تبني المغرب للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. إن أحد أهم الأهداف غير المعلنة التي انطوت عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، كانت تحرير المجتمع المدني بشكل من الأشكال من وضعية التبعية المطلقة ، و التماهي المعدم له، نحو وضعية الشريك الفعلي ، حيث جاء الدستور الجديد لينص في الفصل 33 و 170 على مأسسة المجتمع المدني وذلكبخلق المجلس الأعلى للجمعيات و المجتمع المدني، كما يمكن تسجيل ولأول مرة وجود وزارة تعنى بشؤون المجتمع المدني ، وهي مؤشرات دالة على المكانة التي أضحى يحتلها المجتمع المدني في معادلة التسيير التشاركي، خاصة مع القطيعة الضاربة الأطناب بين الشباب والفعل السياسي،وهو ما أهل الجمعيات إلى ملئ الفراغ التأطيري الذي خلفه تخلي الأحزاب السياسية عن أدوارها الحقيقية التي نصت عليها المادة 2 الواردة في القانون رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية نتيجة إكراهات موضوعية وذاتية، مع أن الجمعيات لايمكن أن تشكل بديلا عن الحزب أبدا، ولكنها يمكن أن تلعب دورا في المصالحة بين المواطن والمؤسسة ، وهوما يمهد الطريق نحو التصالح مع السياسة عموما . في هذا السياق، تطرح إشكالية الحكامة، باعتبارها مقاربة نظرية لخلق ثقافة جديدة في التسيير القائم على مبادئ الشفافية و النزاهة و القرب والتشاركية. ومنذ العقدين الأخيرين طرأ تطور كبير على مفهوم الحكامة و أصبح يعني حكم تقٌومٌ به قيادات سياسية منتخبة وأطر إدارية كفأة لتحسين نوعية حياة المواطنين و تحقيق رفاهيتهم، و ذلك برضاهم و عبر مشاركتهم و دعمهم. ويعتبر مفهوم الحكامة الجيدة من أقوى المفاهيم التي جاء بها الدستور الجديد, كتعبير عن الفلسفة العامة التي أسسها من أجل إحداث التغيير المنشود والحد من الفساد وسوء التدبير الذي تعاني منه مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على حد سواء. وعليه فقد خصص الدستور الجديد للحكامة الجيدة بابا كاملا ،ينقسم إلى شقين, يتعلق الأول بالمبادئ العامة والثاني بتحديد المؤسسات والهيئات العاملة على تفعيل هذه المبادئ. ومهما كانت هذه المبادئ مثالية في منطلقاتها ، إلا أنها لن تتزحزح عن السياق النظري ما لم يتم إشراك المجتمع المدني في تنفيذها ، و هو الأمر الذي ابتدأ مع إعطاء رئيس الحكومة يوم 13 مارس 2013، انطلاق عمل اللجنة الوطنية للحوار حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة التي أنيطت بها مهمة إدارة حوار وطني حول المجتمع المدني في أفق بلورة أرضيات قانونية لتفعيل مقتضيات الدستور الجديد ذات العلاقة بالديمقراطية التشاركية تحت إشراف الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني. على اعتبارأن المجتمع المدني قناة التواصل الأساسية بين المؤسسة أي مؤسسة والمجتمع ، فالتسيير التشاركي الذي هو عصب الحكامة، التي لا تعني أكثر من إشراك المجتمع المدني في كل المقاربات والاستراتيجيات خاصة منها ذات البعد التنموي، بمستوياته المتعددة، ابتداء بالتعاون الوثيق بين الحكومة و كافة مؤسساتها و أجهزتها من جهة،و مؤسسات المجتمع المدني و تنظيماته و هيآته المختلفة من جهة ثانية والتعامل مع مؤسسات المجتمع المدني بوصفها شريكا لا غنى عنه و باحترامه و الانصات الايجابي إليه وليس انتهاء .بالإلتزام المتبادل بين المجتمع المدني و الحكومة ، والإشراك بهذا المعنى لا شك أنه يفيد القرب أولا، والشفافية ثانيا، والديموقراطية التشاركية ثالثا ، ما يحقق هدفا ضمنيا هو تحول المجتمع المدني نحو ممارسة نوع من الرقابة على المؤسسة العامة، ما يقلص من إمكانيات الفساد في أفق محاربته . إن استثمار الإمكانات والطاقات الهائلة التي يزخر بها المجتمع المدني، إن على مستوى التأطير أو التنظيم أو الاقتراح، لهو وحده الكفيل بتحقيق وخلق ثقافة جديدة في التسيير جوهرها الشفافية واقتسام السلطة والمقاربة التشاركية إذ هي الآليات الكفيلة بتفعيل الحكامة الرشيدة. لقد عرف المجتمع المدنِي المغربي تطورًا إبَّان تسعينيات القرن الماضي، بحيث استطاع أنْ يشتغل على إشكالات كثيرة طفتْ على السطح بالمغرب، كالبنية التحتية والتعليم والتكوين والأشكالات ذات الطابع الإجتماعي ، لتدارك عجزو فراغات الدولة، التِي لمْ تستطع تقديم بعض الخدمات في بعض المناطق النائية. كما استطاع أنْ يحققَ نجاحاتٍ مهمة ، من قبيل دوره في الدفع نحو تبنِي مدونة الأسرة، عام 2004، ومطالبته بتمكين المرأة المغربيَّة من حقوقها، فضْلا عن دور المجتمع المدنِي في مراجعة الدستور المغربِي عام 2011، حركة 20 فبراير التي تصدرت مشهد المجتمع المدني المغربِي على خطِّ المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بالعدالة الاجتماعية، و لا ننسى توقيع عدَّة جمعيات مغربيّة على ما عرفَ ب”نداء الرباط”، سنة 2012، من أجل المطالبة بشفافيَّة أكبر، كما نظمت مناظراتٍ وطنيَّة حول المجتمع المدني في نوفمبر 2013، من أجل ترجمة الهامش الذِي أتاحهُ دستور فاتح يوليوز2011 و من قبله الميثاق الجماعي لسنة 2009 في المادة 36 و المادة 41،إلى تحركٍ على الأرض، كالحق في توقيع عرائض، والمبادرة في التشريع، والديمقراطية التشاركية والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية و مواكبة السياسات العموميَّة وتقييمها. إلا أنه و بحسب التقرير الرسمي الأخير لمعهد الدراسات الدوليَّة؛ المعروف اختصارًا بIRIS وأنجزَ بمعيَّة منظمة CCFD-Terre و بالرغم من الزخمُ الملحوظ في أنشطَة المجتمع المدنِي بالمغرب، وكثرة هيآته التي بلغت ثلاثين ألفًا، وتباعدها من حيث الغايات و المرامي والمسافة التي تفصلها عن السلطة، ليستْ أسبابًا كافيَة لأنْ يكونَ مجتمعًا مدنيًّا قويًّا وفاعلًا كقوةٍ مضادة، حيال سلطة الدولَة، في التعبئة كما في المبادرة،، ذات التقرير أدرجَ المجتمع المدنِي المغربي في مرتبةٍ متأخرة قياسًا بدول إفريقيا، بالرغم من توفر المغرب على نسيجٍ، وصفه التقرير بالغني، سواء على المستوى الجهوي أوْ الأقليمي أو المحلي. لكنَّ التقريرَ أيضا يلفتُ الإنتباه إلَى أنَّ المغرب لا يزالُ أرضيَّة خصبة لمشاكل كثيرة، كالفساد الذِي لا زال ينخر الدولة، كالفقر المدقع والتفاوت الطبقي الرهيب، زيادةً على القيود المفروضة على الحريات ،مما يطرح تحديات كبيرة أمام المجتمع المدني المغربي أولا في فهم أدواره الجديدة والاضطلاع بها ، و ثانيا في القيام بدوره في محاربة الفساد ، لكن السؤال الأهم الذي طرح في الماضي و سيبقى مطروحا في المستقبل،هل بإمكان مكونات المجتمع المدني محاربة الفساد من داخلها حتي تستطيع محاربته خارجها ،على الأقل حتى تعمل بالقول المأثور: لاتنهى عن منكر وتأتي مثله ؟ ربما المرسوم الجديد الذي يقضي بالأفتحاص المالي للجمعيات التي تتلقى أموالا عمومية من طرف المجلس الأعلى للحسابات قد تفرز معطيات و حقائق قد تكون صادمة لنا جميعا.