حكاية حياة في مهب ريشة، ريشةٌ تُطاوع الرّيحَ لتتأبَّط بطولةً، بطولةٌ ضخَّمت وجع حُبٍّ صافٍ صفاءَ قطرةِ الماء، ونبضةِ قلب سِعَتُهُ من العطاء برحابة السماوات والأرض. من محطة حافلة بمدينة « سافاناه » الأمريكية ينطلق الحكي. منصةُ إِطْلاقِ راوٍ بسيطٍ لا يبدأُ « الفرجة » إلا وريشةٌ قد استقرت عند رجليه، مُتآخيةٌ في مطاوعتها للريح، مع مُسايرةِ بطل الفيلم لرياح حياة مليئة بالإنقلابات والتطورات والمفاجآت، وذلك في توازٍ « مضفْور » بذكاءٍ وصنعةٍ ومعرفةٍ، لا مجال للصدفة فيها أو للحظ، مع تاريخ فضاءِ بلدٍ استثنائي. ينسج المخرج الأمريكي المبدع Robert ZEMECKIS جمالية فيلمه الروائي الطويل "Forest GUMP" في عمق معالجته كتابةً وإخراجا وهي القيمة الجمالية التي قادته لأن تختاره مؤسسة National Film Registry الأمريكية سنة 2011 لحفظ هذا الفيلم في مكتبة الكونغريس، اعتبارا لقيمته « التاريخية والثقافية والجمالية »، كما ورد في القرار. الفيلم عبارة عن مقاربة سينمائية اختارت المراهنة على تنغيم التاريخي الاجتماعي السياسي الجماعي، والنفسي الوجداني الفردي. تركيب صعب بين الماكرو تاريخي لتاريخ بلد حديث ومعاصر جد حي وحركي، ومسار ميكرو نفسي لحياة رجل متوحد عقليا وذا حاجة عقلية خاصة توظف شيئا من أشرطة وثائقية حية لامتدادٍ تاريخيٍ قصير وغني. ولعل سيناريو المحترف Eric Roth انطلاقا من رواية بنفس العنوان ل Winston Groom إنه تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية المعاصر والممتد بين سنة 1950 و سنة 1980، بلد شاسع بالمعنيين السياسي والسوسيو-أنثروبولوجي. في الأساس ثلاثي صلب البنية دراميا، وعميق الدلالات فكريا، وخصب وغني تاريخيا، وناضح صدقا وإنسانية جماليا: ثلاثي الرواية والسيناريو والإخراج، وكان الأداء تاجا على رأس الثلاثي المبهر. يتعلق الأمر بجمالية تتراصُّ صورها جنبا إلى جنب، لتنهض منها بتقنية fondu enchaîné، مورفولوجيةُ مونوغرافيّةٍ يحملها الطفل/التلميذ/الجندي/الرياضي/البطل/الشخصية العمومية "Forest GUMP" Forest GUMP بطل الرواية والفيلم شخصية سينمائية تخييلية متميزة استطاع مخرج الفيلم Robert ZEMECKIS من خلالها، جعل حكاية عادية/استثنائية، تأسر بعمقها الإنساني كل من يشاهدها لأنها غدت على الشاشة الكبرى ملحمة مُرصّصّة السّرديات بعنايةٍ فائقةٍ وبحذق مُحكم. لقد كان أداء الممثل المحترف "توم هانكس" في الفيلم رفيعا حد التماهي المطلق مع الشخصية، ومما لا شك فيه أن الملابس والماكياج والإنارة وإدارة الممثل - هل تكون هنالك إدارة ممثل مع أمثال توم هانكس؟ كان لها دور "الإجهاز" على قتل ما يممن أن يجترج ثغرة أو وهنا في صدق الأداء وفي احترافيته. لقد كان الانسجام والتناغم في تجميع عناصر الكتابة وأدواتها، وفي صناعة الصورة وتلويناتها، وفي صنعة الحكي وإمساكه بناصية المتفرج، وفي تطريز شاعرية الحوارات وسحرها للمشاهد واللبيب منه على وجه الخصوص، كان لها جميعها بعد تنسيق و"تطويع" المايسترو "زيميكيس" دور جوهري في التمكين من التماهي في أرقى درجاته الذوقية ليس الممكنة فحسب، بل والمغرية حد الغواية ... فالفيلم يحمل دلالات ومعان إنسانية/فلسفية كونية عميقة، جعلت شخصياته الثلاث الرئيسية (البطل وأمه وحبيبته) شخصيات سينمائية تحمل في سلوكاتها ومسارها الدرامي بنجاحاته وباخفاقاته، بمآسيه وبملهاته، "نماذج أصليّة" عابرة للغات وللثقافات، متجاوزا لعراقيل الفردي المنطوي على الوطني الضيق، إنطلاقا، وهنا عبقرية الكتابة الدرامية وصناعة اقتصاد الحكي في هذا الفيلم الذكي والعميق والسامي، انطلاقا من رؤية بصرية محبوكة في بنية سردية خيطها الناظم حاضر غائب، وحكيم ساذج، وقوي ضعيف، وصغير كبير، ومغرم كاره، ووفي غاضب، وواع تلقائي ... إنه "فورست فورست غامب" الذي يحمل إسر ثنائية قيم صنعت من سذاجته وضعفه وهامشه بطولة استثنائية استطاعت استيعاب ما يشبه افلاس مجتمع ما احوجه لقيم لا تكون إلا مجتمعة، إنها قيم: الحق والحب والوفاء والالتزام