باستثناء كونها شكلت محطة لتعبير كثير من المواطنين عن معاناتهم، وإبلاغهم نداء الدعوة إلى الإصلاح، وارتفاع الأصوات المطالبة بمحاربة الفساد السياسي والمالي[1]؛ اشتملت مظاهرات 20 فبراير على مفاسد معتبرة شرعا لا بد من تسليط الضوء عليها[2]: المفسدة الأولى: محاولة البعض استنساخ تجربتي تونس ومصر وكأن ثورتهم كانت مرادة لذاتها، وكأن الغاية هي الخروج وترديد الشعارات وتعطيل المصالح وتعريض الممتلكات للتلف..، بينما هي في الحقيقة وسيلة اضطرارية لم يجد الشعبان غيرها لفك قيود الظلم البشع والحكم المستبد .. وقد رأوا أن ذلك الواقع لا زوال له إلا بتلك الوسيلة؛ بسبب أن النظامين طغيا في البلاد، وأكثرا فيها الفساد، وصبا على الناس سوط عذاب، ولم يبق في هرم السلطة كله صوت لعاقل مصلح، وحرم الناس من تبليغ صوت الإصلاح في البرلمان، وفي الإعلام، وفي المساجد ..؛ زورت الانتخابات وأغلقت القنوات ومنع الدعاة من الخطابة وسائر الأنشطة .. ونرجو الله تعالى أن تسفر ثورتهم[3] عن عاقبة حميدة ومآل حسن .. أما في المغرب، فهناك أوجه تشابه، وهناك أيضا فروق جوهرية تؤثر في التكييف الفقهي لحكم هذه (الثورة المبطنة)؛ فالنظام في المغرب قائم على بيعة شرعية ذات جذور تاريخية راسخة، تضمن التوازن في العلاقة بين الراعي والرعية. توازن يقوم على أداء كل طرف لواجباته واستفادته من حقوقه؛ فالراعي له حق الطاعة في المعروف والتعاون معه على الخير والدعاء له بالتوفيق، وعليه واجب تحقيق مصالح الشعب الدينية والدنيوية التي تدخل تحت تصرفه. والرعية لها الحق في تلك المصالح وعليها واجب أداء تلك الواجبات. وهذا مكسب لا ينبغي التفريط فيه، لا سيما في زمان العولمة الطامسة للهوية، وهو مكسب ينبغي أن نضيف إليه غيره من مكاسب الشريعة، كما أنه مكسب ينبغي أن يجرد عن بعض الشوائب التي تخالف الشرع .. وهذا المكسب تهدده اليوم: العلمانية وما أفرزته من نظم ومبادئ على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ ومن ذلك أنها تسعى لفرض ديموقراطية بمقاييس معينة، بدل نظام الشورى الذي جاءت به الشريعة، وهذه الديموقراطية هي التي أفرزت التعددية الحزبية التي تمدح نظريا، مع أنها في واقع الأمر أذاقت الشعب المغربي الأمَرّين؛ فبهذه التعددية تأخرت التنمية، وضحكت الأحزاب على الشعب وأكلت ماله بالباطل، واستُنزفت الخيرات وضاعت الطاقات في أتون صراعات شرسة ومكر كبار، وحرب بالليل والنهار .. (مع الإقرار بأن المشهد السياسي والعمل الحزبي لا يخلو من شرفاء ومصلحين، لكن لا يستقيم الظل والعود أعوج، والكثرة تغلب الحمية). ومن رحم هذه الديموقراطية خرج نظامَا (بن علي) و(مبارك)، اللذان زوّرا إرادة الشعب، ونُصّبا من قبل أعداء الشعب، ومارسا الظلم والاستبداد على الشعب .. كل ذلك باسم الديموقراطية، وحقوق الشعب وإرادة الشعب!!! ولما أراد البعض حل مشكل الأداء الحزبي المتهاوي في بلدنا؛ سلك مسلكا يزيد الطين بلة؛ ألا وهو مسلك الحزب المهيمن الذي أجهز على بقايا الديموقراطية المزعومة، وزاد المشهد السياسي تأزما وغليانا، فالأحزاب القديمة لن تقر له بالهيمنة، وستدخل معه –وقد دخلت- في صراعات تستنزف المال والجهد والفكر، والضحية هو المواطن الذي يُذبح حقه على عتبة ذلك الصراع (البيزانطي) .. ومعلوم أن هذه الهيمنة كانت من أبرز أسباب ثورتي تونس ومصر، وليبيا أيضا .. ومن حسن الحظ في المغرب؛ أن المؤسسة الملكية حاضرة بقوة في الممارسة السياسية، والملك محمد السادس منذ أن تولى الحكم وهو يسعى في حركة حثيثة للدفع بعجلة التنمية والاقتصاد الاجتماعي، كما أن سقف الحرية قد ارتفع في عهده بشكل يقر به الكل .. ومع هذا فإن الحاجة ماسة لانخراط الجميع في مشروع التنمية، وتضافر الجهود لإجراء إصلاحات جذرية وشمولية وعاجلة في قطاعات التعليم والتوظيف والقضاء والاقتصاد والسياسة والصحة ..إلخ. ومراجعة عاجلة لطريقة التعامل مع بادرة هيكلة الحقل الديني، وتجنيبها مزالق التوجه الإقصائي والتلاعب السياسي .. ونحتاج إلى تفعيل دور ديوان المظالم والاقتراب من خلاله إلى هموم المواطن والاستماع لمظالمه وبذل المجهود الصادق لحل مشاكله، وتفعيل دور مؤسسات الرقابة والمحاسبة وإضفاء المصداقية على تقاريرها .. ولا بد في ذلك كله؛ من إقامة العدل الذي أمر الله به، وتقديم الأكفاء والأمناء، والتربية على خلق الأمانة وسلوك القناعة، والضرب على أيدي الفاسدين والاسئصاليين وسدنة المحسوبية، الذين يخربون البلاد ويعطلون مصالح العباد .. والخلاصة التي لا ينبغي أن نختلف عليها؛ هي أننا لن نحقق الإصلاح الإيجابي ما لم نفلح في أمرين: الأول: إقامة العدل في القانون والقضاء وتوزيع الثروة الثاني: إصلاح التعليم وترسيخ بعده التربوي المفسدة الثانية: محاولة استغلال المظاهرات من طرف غلاة العلمانيين وبقايا الشيوعيين، الباحثين عن الدعم الشعبي لتطبيق (أجندات إيديولوجية). فقد كان من أبرز المشاركين من السياسيين -مثلا-: حزبي (الطليعة) و(اليسار الاشتراكي الموحد)، ومن الحقوقيين: (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان) .. ومعروف عن هؤلاء –وأمثالهم- أنهم أصحاب قناعات شيوعية معادية للدين، يتسترون خلف الديموقراطية والغيرة على حقوق الإنسان؛ ثم يقوضون دعائم الأمن والاستقرار، ويخدمون مصالح الأعداء، ويمكنونهم من رقاب الأمة .. أليسوا هم ممن يقف وراء تخويف الغرب من الإسلام ويحثونه على حربه والحرص على عدم قيادته للشعوب (الإسلاموفوبيا)؟ أليسوا هم من طالب بإلغاء المادة السادسة من الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة، ليصير مكانها: المغرب دولة علمانية؟! أليسوا هم من يقف وراء تحريك النعرات الطائفية لزعزعة الاستقرار؛ (إشعال فتيل الصراع بين العرب والأمازيغ)؟! أليسوا هم من طالب بإعطاء (البوليساريو) حق تقرير المصير؟! إن نشاط أمثال هؤلاء؛ قد يحول المطالب الاجتماعية والسياسية لحركة 20 فبراير؛ إلى مقدمة ثورة شيوعية متفلتة دموية؛ لما هو معروف عن أصحاب هذا التوجه من جرأة على الدماء وعداء للدين! وقد كشفت شهادات عدد من المشاركين في هذه الحركة؛ أن هناك تحركات في الخفاء، ومحاولة للاستحواذ على هذه البادرة لتحويلها إلى ثورة تزعزع الاستقرار وتدخل المغرب في دوامة من الاضطراب والفتن لا تحمد عقباها ولا تؤمن غوائلها [4].. المفسدة الثالثة: فتح باب التشجيع على أعمال التخريب وتهديد أمن الناس وترويعهم. ومن ذلك ما جرى عندنا في مراكش؛ حيث خرجت المظاهرات عن حد الاحتجاج والمطالبة بالإصلاحات؛ إلى صيرورتها محطة لأعمال التخريب والتدمير والنهب والسرقة بصورة بشعة وفظيعة، تؤكد عدم صلاحية هذا الأسلوب .. وقد وقعت أعمال التخريب هذه في مدن كثيرة؛ كطنجة وتطوان والعرائش والحسيمة وصفرو، وكلميم. وحسب تصريحات وزير الداخلية؛ فإن الخسائر وصلت إلى (5) قتلى، وجدوا جثثا متفحمة! و(128) جريحا بعموم البلاد، من بينهم (115) من عناصر القوات العمومية. وتم تخريب (33) مؤسسة وبناية عمومية و24 وكالة بنكية و50 محلا تجاريا وبناية خاصة و66 سيارة ودراجتين ناريتين، إضافة لكمية من المخدرات والمشروبات الكحولية التي استولى عليها مقتحمون لبناية إدارة الجمارك ومستودعها للمحجوزات"اه ثم توفي يوم الأربعاء الماضي أحد الأشخاص متأثرا بجروح أصيب بها خلال أعمال الشغب التي شهدتها مدينة صفرو. وقد فارق الحياة خلال نقله من المستشفى بصفرو إلى أحد مستشفيات مدينة فاس. وتقدر الخسارة المالية في مراكش وحدها بملياري سنتيم .. والله أعلم بما خفي! قال الله تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] وقل عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] وبين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مال المسلم؛ فقال: "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"[5] ونهى عن الترويع؛ فقال: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً"[6] والحقيقة أن تصرف هؤلاء يدل على وجود احتقان اجتماعي يغذيه حقد الفقير على الغني، واحتقار الغني للفقير وإهماله وحرمانه حقه؛ بسبب تفشي ثقافة الجشع وتقلص مظاهر التكافل الاجتماعي، وأحكام الشريعة التي تؤسس له (إيتاء الزكاة، الكفارات، الفدية، النفقات الواجبة، حق الجار، الصدقة الجارية، عموم الصدقات). .. بالأمس كنت ترى الفقير يعيش جنبا إلى جنب مع الغني؛ (الدويرية) بجانب (الرياض)، زوجة الغني صديقة لزوجة الفقير، أولادهما يلعبون جميعا، والتكافل قائم في جانبيه المادي والمعنوي .. هذا من مظاهر ما تبقى من آداب الشريعة، أما الحضارة الغربية وثقافة حقوق الإنسان فقد كرست الطبقية؛ وصار للأغنياء أحياؤهم الراقية، وللفقراء أحياؤهم المهمشة، المشحونة بالبؤس ورقابة السلطات، التي تفرق هي بدورها بين الغني والفقير .. والمصيبة تعظم حين تتفاحش الفروق، ويتقلص وجود طبقة وسطى تحقق نوعا من التوازن .. والحقيقة أن ما جرى من أعمال التخريب يستدعي وقفة إصلاحية تستهدف علاج تلك الظاهرة في ضوء الشريعة الإسلامية وقواعد علم النفس والاجتماع. المفسدة الرابعة: إتاحة الفرصة لوسائل الإعلام المغرضة لزعزعة الاستقرار وزرع بذور فتنة داخلية: ونحن نعلم أن بعض القنوات الأجنبية تتحرش بأمننا واستقرارنا منذ سنين، وتفتعل وتختلق الأسباب لتصل إلى هدفها؛ لا سيما الجناح الإعلامي الإسباني الذي يعتقد أنه ليس من مصلحته أن يتقوى المغرب اقتصاديا، لأن هذا يجعله يخرج عن التبعية شيئا فشيئا، وبالتالي يقلل من فرص استغلاله، أو حتى إعادة احتلال بعض ترابه إن اقتضت المصلحة الإمبريالية ذلك! وإن من المستنكر جدا ما أقدمت عليه (الشبكة المغربية لمساندة الحركة الديمقراطية المغاربية)؛ من استدعاء وسائل الإعلام لإعطائها صورة عن قمع السلطات لاحتجاجات اليوم التالي ل 20 فبراير، وهذا قصور في النظر؛ ومخاطرة باستقرار البلاد من أجل قناعات مرفوضة عند شرائح واسعة من المغاربة .. وقد سجل المراقبون أن الإعلام الإسباني حضر بكثافة! وهكذا رأينا كيف أن إحدى القنوات ركزت على جمع صغير في المظاهرات بإحدى المدن يدعو لإسقاط النظام، مع أنه نشاز شاذ لا وزن له ولا قيمة وسط الألوف التي عبرت عن تمسكها بالثوابت الوطنية .. وقد يقول قائل: لكن من الإيجابي أن هذه المظاهرات سوف تحرك المسؤولين لأداء واجبهم، وسوف تسهم في ردع المفسدين منهم، وهذه مصلحة تغمر فيها تلك المفاسد. والجواب أن هذا حاصل دون الحاجة إلى تلك المظاهرات الملغومة؛ بسبب الغليان الذي يشهده العالم الإسلامي والدول العربية؛ فإن كل مسؤول مقصر عنده ذرة من عقل لا يمكنه مع هذه الأحوال أن يتمادى في غيه ويستمر في خيانة المواطن. ومن جهة أخرى؛ يمكن المطالبة بالإصلاح بطرق حضارية مستمدة من فقه الوسائل في الشريعة؛ كأن يفوض المطالبون لجنة تضم عقلاء البلاد وكبارهم من فقهاء وسياسيين ومفكرين وخبراء في القانون والاقتصاد والعلوم الاجتماعية، ويقومون بتقديم المطالب إلى الحكومة، أو رفعها إلى ولي الأمر ليشكل هو بدوره لجانا تشرف على الإصلاح وتلبية مطالب الشعب المشروعة، بعيدا عن الغوغائية والوسائل الملغومة .. والله نسأل؛ أن يصلح أحوالنا، ويكفينا شر الفاسدين والمتربصين. *** [1] وهناك قلة طالبت بمحاربة بعض أنواع الفساد الأخلاقي؛ كبعض المتظاهرين في مراكش الذين استنكروا السياحة الجنسية. [2] أولا: لاستبانة الراجح في حكمها الشرعي، وثانيا: لدعوة المؤمنين بهذه المظاهرات كوسيلة للإصلاح إلى مزيد من الضبط وحسن التنظيم [3] انظر مقالة: "الثورة السلمية وإشكالية التكييف الفقهي" للدكتور سعد بن مطر العتيبي في الرابط التالي: http://www.manzilat.org/site/maqalat/39-minhaj/1013-1013.html [4] انظر على سبيل المثال الرابط التالي:http://www.manzilat.org/forum/index.php?showtopic=8462 [5] متفق عليه. [6] أخرجه أبو داود وصححه الألباني.