إذا كانت كلمة الديماغوجية اليونانية الأصل تعني نسقا وطريقة عمل يتبناها في الغالب الزعماء والقادة السياسيون في محاولة لإقناع الجماهير بإتباع ما يتبنوه من أفكار وخطط والهدف هو الوصول إلى السلطة، مستندين في محاولتهم هذه على شعارات ومعطيات تخاطب العاطفة لدى تلك الجماهير من قبيل الأخطار الداهمة والعناصر المؤسسة للهوية المحلية والوطنية، فإن هناك نوعا من الديماغوجية "المستحدثة" من لدن بعض الأشخاص والمنظمات وحتى المؤسسات الرسمية لأجل تحقيق مآربها الضيقة جدا، وهو النوع الذي بات مبتذلا ورديئا لحد التفاهة بل وممقوتا ! وإذا كان كثيرون مِمن يطبعون خطاباتهم بغير قليل من الكلام الديماغوجي حتى دون أن يعلموا أنهم بصدد البناء والتأسيس لإستراتيجية ابتكرها اليونانيون قبل آلاف السنين، وقد ينجحون في مسعاهم ألا وهو إقناع الآخر والوصول إلى حيث يشاؤون، فإن هناك ممن تستهويهم "الكلمة" فلا يترددون في إطلاقها والعبث بها في مقامها وفي غير مقامها ! ولا نُعدم طبعا الأمثلة عن نماذج من الفريقين معًا، بحيث لا يستطيع المرء مثلا أن يحصي عدد المرات التي خرج فيها علينا (ولازال) رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران رئيس الحزب "الإسلامي" العدالة والتنمية كذلك، ليستنفر الناس من أن مجرد تفكير الناخب في تغيير بوصلة صوته الانتخابي للآخرين من دون أتباع وأعضاء حزبه هو فتحٌ لباب جهنم على البلاد والعباد. بل إن الأمر يصبح أكثر خطورة عندما يُضمّن خطابه هذا الديماغوجي لمسة دينية فيُلوح باستعداده ومناضليه للتضحية "في سبيل الله"، ما يحيل على الفهم بكون حزبه هو وحده من يتبع "الصراط المستقيم"، وأن باقي الأحزاب والأشخاص غير مستعدين للتضحية "في سبيل الله" ومن تم فإنهم "غير مؤمنين" أو هكذا تصل الرسالة ويصورهم هذا الخطاب الذي يستعمل ما أوتي من رصيد معرفي بما فيه المقدس لأجل الوصول إلى "المدنس" الذي يعني هنا في المقام الأول "السلطة" السياسية التي تطفح بالطالحين أكثر من الصالحين. وإذا كان السيد بنكيران يمارس هذه الديماغوجية على علم وهو عارف بما يفعله ويعمل جاهدا على الابداع فيه والذهاب بعيدا إلى درجة أنه بات ربما هو أول سياسي يتقن هذه "اللعبة" على نحو متقدم يصعب على الآخرين مجاراته فيها، فإن هناك ممن يسعون - في سبيل الوصول إلى أهدافهم التي قد تكون السلطة واحدة منها- إلى إقناع الناس ببرامجهم وأفكارهم بالرغم من عدم وضوح تلك الأفكار أو البرامج بالنظر لتناقضها أو حتى غرابتها عن المجتمع والناس، متوهمين أن مجرد التوفر على إمكانات باهظة، مادية ومعنوية، كفيل بإقناع الموالين والمؤيدين؛ وهم في ذلك وإن ابتعدوا عن "المقدس" فإنهم لا يترددون في استعمال الرموز الوطنية والإنسانية من قبيل "حماية النظام" و"الدفاع عن القيم الإنسانية". ولأن تلك البرامج غير العادية يصعب جدا عليهم إقناع المتلقي بها بالرغم من مهرجانات الخطابة المكثفة والعديدة، فإنه يصبح من اللازم والمفروض الاستثمار بشكل وازن في المجال الإعلامي، كعامل مؤثر في الرأي العام، تماما كما فعل من يوصف الرجل الثاني في حزب الأصالة والمعاصرة و"دينامو" الحزب السيد إلياس العماري الذي أطلق خلال الأسبوع الماضي "ترسانة" إعلامية تضم العديد من المنابر الإعلامية، بغية التسويق للحزب وإقناع الناس بمبادئه. وحتى وإن نفى الرجل "تبعية" مجموعته الإعلامية لحزبه فإنه من الغباء بما كان التسليم بزعمه ذاك وهو الذي عمل طيلة سنة ونيف على التهييئ والتحضير لهذا المشروع الإعلامي الضخم. وإذا كان من الصعب جدا تصور وجود زعماء سياسيين لا يمارسون الديماغوجية، استنادا إلى ما سبق من شرح، لأجل تنزيل وتطبيق مخططاتهم المختلفة، ولنا في تاريخنا الوطني الكثير من أمثلة الأعلام التي تألقت في هذا المجال بدءًا برموز المقاومة الوطنية وليس انتهاءً بالملك الراحل الحسن الثاني، وكذلك على المستوى الدولي حيث الكثير من الأمثلة التي عرفها التاريخ ويعرفها عصرنا الحالي، فإن المشكلة تصبح ليست هي أن يكون الفرد ديماغوجيا أو راغبا في إقناع الناس بما هو مقبل عليه من أمر، لأنه في كثير من الأحيان يصبح الخطاب الديماغوجي الملاذ الأفضل والوسيلة الأنجع لحشد التأييد لقضية معينة تهم الأوطان حقيقة وليس زيفا وكذبا وتضليلا، بل المشكلة أو الأمر المرفوض والمنبوذ هو أن يتبنى الديماغوجية مَن هو ليس أهلا لها فتراه يستعملها في غير مقامها وفقط ليحقق أمرا كان ممقوتا وهو الحاجة الشخصية على حساب حاجة الجماعة أو المجتمع ! [email protected] https://www.facebook.com/nourelyazid