في الوقت الذي يُجمع فيه الكل، أساتذة وتربويون وعلماء ومهتمون بالمجال التعليمي عبر العالم بأن قضية الجودة في هذا القطاع الحيوي والمصيري مرتبطة بتناسق المشروع وتتابعه وتماسكه فى مستويات زمنية قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، يظهرُ أن الحكومة المغربية بقراراتها الإنفرادية لا تبحث عن هذه الجودة ولا تبحث عن إصلاح كفيل بسد ولو ثغرة في المنظومة التعليمية، كما حدث مع المرسومين 2.15.588 القاضي بفصل التكوين عن التوظيف والمرسوم رقم 2.15.589 القاضي بتقليص أجرة الأستاذ المتدرب إلى أقل من النصف والمذكرة الوزارية الأخيرة القاضية بتدريس بعض المواد العليمية باللغة الفرنسية، فإن الحكومة باعتبارها تمثل الشعب وتؤطر الدولة تعنتت ولم تبدي أي تحرك إيجابي من شأنه التراجع الفوري عن هذه المشاريع التي من شأنها أن تضرب بقوة في المنظومة التعليمية في البلاد وتنحدر بها إلى مراقي التخلف أكثر وأكثر مما هي غارقة فيه، هذا كله يطرح اختلالات من شأنها أن تجبرنا على طرح سؤال جوهري من قبيل:هل بالفعل تبحث الدولة بجدية عن حلول لإصلاح هذه المنظومة أم هي تتلاعب من أجل طمس المزيد من المكتسبات الخاصة بها-المنظومة العليمية- ؟ هذا السؤال، يجرُّنا إلى تحليل كل هذه المعطيات بشكل موضوعي، يتجلى ذلك وبقوة في أن الحكومة تعتبر التراجع عن أي قرار ولو كان انفراديا هو تراجع عن هَيْبَة الدولة، ذلك أن الحكومة هكذا إنما تضرب حق المواطن في أن يبدي أي تحفظ حول ما يراج حولهُ، خصوصا في قضية تعتبر الثانية بعد قضية الوحدة الترابية، قضية التعليم التي هي قضية الكل/الجميع، ليست قضية أساتذة ممارسين أو متدربين ولا قضية إداريين أو تربويين ولا هي قضية مؤسسات بعينها ولا حتى مواطنين/شعب كل حسب صفته الفردية الجزئية؛ إنها قضية عامة، قضية كليات وليست قضية جزئيات، لذلك وجب إشراك كافة الأطراف من أجل تصحيح المسار وسد ثغراته من أجل تعليم جيد للجميع، عادل للجميع، منصف للكل، وما اتجاه الحكومة لقرارات إنفرادية إنما هو قرار لا يرتبط بالجودة بقدر ما يرتبط بمصالح اقتصادية صغيرة تبحث أكثر وأكثر إلى تقليص مستوى الإستفادة الجماعية من تعليم عمومي وتوظيف عمومي تحت يافطة الدولة إلى تعليم مخوصص وتوظيف بواسطة عقدة تحت يافطة التعليم الخاص، بمعنى الإنتقال من الموظف إلى المستأجَر ومن المرسمِ إلى المتعاقدِ، وهذا هو الخطير في الأمر، فالدولة لا تحترم حق الشعب في ذلك، ضاربة كل ما من شأنه أن يكون كذلك، في سبيل انتصارها بمنطق الدفاع عن 'هيبتها'، وهذا المنطق هو منطق استبدادي يضرب مفهوم 'العقد الإجتماعي' الذي نشأة من أجله الدولة، فأن تحمي هيبتها فقط لأنها دولة دون أن تعير أي اهتمام لمطالب طبقات بعينها مثل الشغيلة التعليمية أو لمطالب الشعب ككل إنما تلجأ للمكر، هذا الأسلوب الذي تنهجه الحكومة، وخير دليل على ذلك أن تمرر مراسيم ومذكرات وزارية في عز الصيف؛ هو مكر في الحقيقة مقصود لل'الهروب' من المواجهة، وهنا تخل الدولة بشروط 'العقد الإجتماعي' كما نظرت له الفلسفات الأوروبية بشكل عام. إن الدولة ترى أنه قد حان الوقت لأن ترفع يدها عن التعليم والصحة، والحق أن جزء كبير من الصحة قد تمت خوصصته بنجاح، والدليل على ذلك ما آلت إليه المستشفيات العمومية المتبقية من تدمير وعدم عناية وتجهيز، أما فيما يخص التعليم فنعلم أنه منذ الإستقلال حاولت الدولة أن تبيع هذا القطاع، لكنها لم تستطع، ففوتت جزء منه تحت ذريعة مدارس "التعليم الحرة" التي تشبه فيما يبدو "مدارس الأعيان" إبان الحماية، ذلك منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حيث أعطت الدولة للرأسماليين الحق في بناء مدارس والتجارة فيها، ولم ينمو هذا المخطط بشكل كبير إلا في بداية التسعينات حيث عممت الدولة ذلك وفتحت الباب للتعليم الحر/الخاص بمصرعيه فظهرت فقاقيع كثيرة تبيع وتشتري في القطاع، فالملاحظ بهذا الشأن سيلاحظ أن الكثافة السكانة تزداد مع مرور السنين وأن الدولة تعمل على التقليص من بناء المدارس العمومية كما كان معمولا به في السابق، لقد كانت الدولة تعمل بمخططات تستدعي بناء مدارس عمومية بكثرة لتستوعب تزايد التلاميذ أما اليوم فتم تقليص ذلك ولم تعد الدولة تبني مدارس عمومية بنفس الوثيرة ولو أن الكثافة تزداد، وهذا دليل واضح على أن الدولة تسعى إلى خوصصة القطاع بدل أن تبقى صاهرة عليه، وهو بالفعل ما وضع التعليم في خندق يصعب الخروج منه إلا إذا أعدنا النظر في كل ما يجري. توجه الحكومة إذن هو توجه الدولة الحقيقي في هذا القطاع القاضي بخوصصته بشكل متدرج، وهذا عمل كما قلنا بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي ليستمر إلى اليوم فنجد أنفسنا في وقت قريب أمام الخوصصة الكاملة، فأين يتجلى المكر حرصاً على الهيبة ؟ يتجلى بشكل واضح أولا:في تسريب معطيات ومشاريع وقوانين وأنظمة ومناهج فرعية وجزئية وغير ظاهرة تكون الغاية منها تجزيء التعليم العمومي والسيطرة عليه وتفويته بمنطق "القِطَعْ"؛ بمعنى تفويته قطعة قطعة دون أن تلج الدولة بشكل واضح لبيعه كاملا، وهذا الجزء يهم فقط البرامج والمناهج التربوية تحت وصاية المؤسسات المعنية ومنها المجلس الأعلى للتعليم وباقي المؤسسات الخاضعة للدولة، وهذا الجزء خاص بالمضامين والمحتويات لا الموارد البشرية. في حين يظهر ثانيا:أنه بعد تجزيء المناهج والتحكم فيها بين الخاص والعام تعمل الدولة على ضرب المورد البشري من أجل تقويضه لخدمة الخوصصة، فالمرسوم 2.15.588 القاضي بفصل التكوين عن التوظيف والذي أخرجته الوزارة الوصية تحت وصاية الحكومة التي هي تحت وصاية الدولة في صيف هذا العام -2015- في وجه الأساتذة المتدربين لهذا الموسم كفوج أول وفق المخطط الجديد يُظهر بجلاء هذا التوجه الرأسمالي المريب، وهذا المكر الخادع، فالمرسوم ينص بصريح العبارة أن الدولة ستعمل على تفييظ الموارد البشرية وتصديرها للقطاع الخاص حماية له واستعدادا لجموع التلاميذ الذين سيضطرون للإلتحاق بالخاص حينما ستنتهي الدولة من المشروع لتجد الأسر المغربية نفسها في مأزق حقيقي، وهذا سيتم بشكل تدريجي، ولا أدل على ذلك من أن 3000 من أصل 10000 يتكونون بالمراكز الجهوية المنتشرة بالمملكة وبالمال العام سيتوجهون لذلك مع إمكانية تصريف بعضهم إلى الخارج كما نصت عليه بعض الإتفاقيات كان آخرها مع لبنان وقطر، في حين ستعمل الدولة فقط على توظيف 7000 المتبقية إما بناء على الإختيار أو التقييد، وهو إجراء يعتمد بالدرجة الأولى على تعاقد، فتصبح الدولة تستثمر في الموارد البشرية عن طريق عُقد عمل محدودة زمنيا، وهنا نتحول سنة بعد سنة وفق هذا الإجراء الماكر إلى خوصصة القطاع برمته دون الحاجة إلى التخلي عنه بشكل جريء وواضح وبيعه للرأسماليين في العلن كما فعلت بعض الدول الأروبية وفق خصوصياتها التي تختلف عن خصوصية المغرب البنيوية، بل أكثر من ذلك فهذا الإجراء سيفتح بوابة أخرى ستلعب عليها الدولة للتقليص من البطالة هو أن الوزارة ستعمل –وهي تعمل على ذلك- على إيجاد صيغة من خلالها سيمنع طلبة الجامعات من الإلتحاق بالمراكز وبالتالي من إجتياز مبارة التعليم العمومي، والدليل على ذلك توجه الحكومة حينما أعلنت عن صفقة تكوين 10000 إطار في علوم التربية والتي فتحت بالمدارس العليا للأساتذة بمختلف ربوع البلاد على امتداد ثلاث مواسم كان آخرها موسم2015/2016، واعلانها لصفقة جديدة تضم تكوين 25000 ألف في مختلف التخصصات دون الحاجة لتوظيفهم، مخطط يعطي مؤشرات أن المباراة المتعلقة بالتعليم لن تكون في يد الكل من طلبة الجامعات وإنما في يد فقط من هم ينتمون إلى مجالات علوم التربية والديداكتيك والبيداغوجيات سواء كانت إجازات أساسية أو مهنية أو تكوينات معهدية موازية، وقد بدأ العمل به جزئيا ابتداء من مباراة هذا الموسم 2015-2016، وسيعتمد كليا ابتداء من الموسم المقبل، وهكذا دواليك سنجد أنفسنا في المغرب غارقين حتى الرؤوس في مخطط الخوصصة الكاملة. فالجدير بالذكر أن المغرب لم يتوجه إلى هذا المخطط بناء على رؤية واضحة تنبع من خصوصيات المغرب البنيوية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل انطلاقا من توصيات مؤسسات دولية خارجية تملي قراراتها كما تمليه على دول أخرى ضعيفة تسعى إلى تحقيق نمو سائر تحت مسمى "الدول السائرة في طريق النمو" فننتقل من هيبة الدولة إلى هيبة النظام العالمي؛ أي من الجودة المعرفة باسم الدولة إلى الجودة المعرفة باسم النظام العالمي؛ من هيبة الدولة أمام الشعب إلى هيبة الدولة أمام الرأسمالية ! يظهر ذلك جليا أولا:في التضارب الذي نجده بين مخططات الدولة نفسها، فالحكومة تعمل على اخراج مراسيم تخص القضية –نموذج مرسوم 2.15.588- حيث يظهر أن قرارات الحكومة بمراسيمها تتعارض بشكل أو بآخر مع قرارات مؤسسات معنية بالقطاع، فالمرسوم السابق حسب الحكومة المغربية جاء تحت ذريعة الجودة وهي ضرب الموارد تحت طائلة الكفاءة فيما هو مخالف للرؤية الإستراتيجية الجديدة 2015/2030 التي خطها المجلس الأعلى للتعليم بالبلاد كمؤسسة دستورية والذي له تعريف آخر للجودة التي هي تنقيح للمراجع والمناهج والمقررات وتتبت للبنيات التحتية وهياكلها كما نجد في رافعاتها، فأي جودة نريد؟ هل هي جودة الحكومة أم جودة المجلس الأعلى؟ ثم ثانيا:يظهر ذلك في تضارب المخططات المتضادة فيما بينها مع تربة المغرب الخاصة، فنحن نعرف تماما أن توجه الدول الأوروبية والأنجلوسكسونية إلى الخوصصة جاء حينما تمكنت هذه الدول من تعزيز أساليب عيشها وضمان كافة الشروط الإنسانية الخاصة بها، فالخوصصة تستلزم رفع المعيشة ورفع الدخل والزيادة في البنيات لكي تتمكن الأسر من ولوج التعليم الخاص دون عناء ودون أن تحس بأنها تعاني ماديا، فرفع الدخل رهين بتحسين مستوى المعيشة كي لا تشعر الأسر بهذا الثقل، فعلى الدولة إذا أرادت تطبيق سياسات خارجية أن ترى هل هي قادرة على ذلك في ظل ظروفها؟ وإلا سيخرج الناس للإحتجاج وهو بالضبط ما يقع الأن في مملكتنا، فكل القطاعات حتى المخوصصة منها لازالت تعاني من احتجاجات تهدد السلم الاجتماعي، وإذا لم تتعامل الدولة وفق خصوصية شعبها سيكون مألها الزوال لأنها انتهكت "العَقد الإجتماعي" الذي يربطها بفئات الشعب. إن للموضوع حساسية كبرى خصوصا أننا نتحدث عن التعليم باعتباره رافعة أولية لنهوض أي مجتمع، فإذا أردت أن تقيس التنمية والتقدم والحضارة فقس التعليم ، كفى إذن من العبث به، فأهل مكة أدرى بشعابها، وما القوانين الفردية والاستفزازية واللاتشاركية التي تنهجها الحكومة باعتبارها مؤسسة الدولة وتمريرها في ظروف غامضة ظاهرة للعيان في خرق سافر للدستور الذي توافق عليه الشعب بتأييد من جلالة الملك إنما هي ورقة قابلة لأن تحترق بنار ربما إذا أشعلت سندفعُ ثمن إخمادها غالياً. [email protected]