من يحتاج إلى دليل على أن هناك إسلام مغربي، له خصوصياته، مميزاته، إيجابياته، ولما لا سلبياته، فلينظر إلى فاطمة المرنيسي (1940- 2015) التي فقدها المغرب قبل يومين.. فالراحلة التي حضرت في لائحة نشرتها جريدة الغارديان للمناضلات النسائيات الأكثر تأثيرا في العالم، يعرفها العالم بأفكارها الداعية إلى تحرير المرأة من سطوة الأعراف والتقاليد، ومتحررة ، فكريا، علميا.. سلطت كل السواطع "بروجيكتور" التي تملكتها على الحريم في الفكر الإسلامي، وفي التقاليد المغربية وباقي المجتمعات الشرقية، والتي عاشتها ورأتها متجسدة في بيت جدها في مدينة فاس القديمة خلال العقود الوسطى من القرن الماضي. النتيجة الطبيعية لامرأة تنحو هذا المنحى، أن تفتح جبهات متعددة ضد التراث، فتضرب يمينا وشمالا في "الأفكار الرجعية"، و"فقهاء التخلف" وضد "الحركات الماضوية" وضد "الدين" نفسه، كسبب رئيس ومباشر لصد كل هذا الحيف والميز الذي يمارسه الرجال على النساء باسم الدين. غير أن السيدة المرنيسي لم تنح منحى تسنيمة نسرين في باكستان، ولا اتجهت اتجاه نوال السعداوي في مصر، بل أخذت منحى مغايرا، أزعم أنه لم يكن ممكنا إلا في سياق الإسلام المغربي مما أدخلها إلى سجل المفكرات والمفكرين العباقرة، الذين يساعدون مجتمعاتهم على التقدم دون أن يصطدموا بها لمجرد الاصطدام أو من أجل الحصول على أصل تجاري. فبعد أن قضت عقودا في نقد التراث العربي الإسلامي مستلهمة مسار الراحل الكبير محمد عابد الجابري، الذي قالت عنه، أنه صالحها مع التراث، وسهل عليها مداخله وركوب أمواجه، لتتمكن بدورها من إعمال آليات التشريح والنقد وإخضاع التراث العربي الإسلامي للتحليل والكشف عن جذور الأثقال السميكة التي تجر المجتمعات العربية الإسلامية إلى المراتب السفلى بين الحضارات الإنسانية اليوم. فكتبت عن "الحريم السياسي: النبي والنساء" (1987) ثم تغلغلت أكثر لتكتب عن "الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية" (1995) لتعود إلى حلبتها المفضلة لتناول قضايا المرأة فكتبت "ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية" (1997).. وتابعت على مدى عقد من الزمن إصدارات حول أحلام النساء وسلطانات المغرب المنسيات. مع بداية القرن الجديد، وبعد هذا الإبحار في التراث المغربي بجذوره الثقافية الأمازيغية العربية الإسلامية توجهت السيدة المرنيسي للغرب، لتقول...انتظروا قليلا..أنتم أيضا لكم حريمكم...حريم المسلمين يسجن المرأة في فضاء داخل البيت يفصلها عن الرجال من غير محارمها..وحريم الغرب يسجن المرأة في المقاس 36. في كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب..ثقافات مختلفة حريم مختلف" (2003) تحققت المرنيسي بالكفاءة الفكرية وتجاوزت مركب النقص النفسي والحضاري "الذي عانت منه أجيال من مثقفينا ألا من رحم الله" تجاه الثقافة الغربية. الراحلة كشفت أن حريم المجتمعات الشرقية يتحكم فيه الرجال لفصل المرأة عن الحياة العامة، بينما حريم الغرب يقوده الرجال الذين يحددون مفهوم الجمال والأناقة والنحافة والموضة، مما أدخل المرأة في الغرب إلى سجن نفسي أكثر كآبة من سجن حريم الشرق. لكن السياق المغربي الذي سمح بظهور هرم فكري تسمى فاطمة المرنيسي، وكعادته المرعية، فإن ما تستحقه الراحلة من اهتمام إعلامي، وحفاوة في المحافل الفكرية والمهرجانات الثقافية، وتقريبها من الأجيال الجديدة من الشباب والطلبة والتلاميذ، يظل شئ عزيز المنال، إلا ما كان من مبادرات مدنية محدودة في الإمكانات. تكريم الراحلة اليوم يلقي مسؤولية إعادة تقديمها للمغاربة وخاصة الفئات الشابة، الذين لن يجدو في سجل الراحلة من الجوائز الكثيرة التي حصلت عليها أية جائزة مغربية. بل سيجدون جائز الأمير أستورياس للأدب، سنة 2003 التي تعد أرفع الجزائز الأدبية في إسبانيا، وجائزة "إراسموس" الهولندية سنة 2004، كما اختيرت سنة 2003 عضو لجنة الحكماء لحوار الأديان التي شكلتها اللجنة الأوربية برئاسة رومانو برودي. أصبح على عاتق كل غيور على السياق المغربي بدءا بوزير الثقافة الذي حضر مراسم دفن جسدها، أن يقوم بواجبه من أجل أن تبقى روحها وأفكارها حية تلهمنا لاستكمال ما بدأته فاطمة.