بعد غيابٍ طويل عَن الحرم الجامعي، قُدّر لي أخيراً أن أذهب إلى هناك، يوم الأربعاء الماضي، لحُضور ندوةٍ دعيت إليها، بخصوص موضوع "الدين والتدين بين العلوم الإسلامية والعلوم الاجتماعية". عندما صِرت قُبالة الصّرح الجامعي، كان أول ما أدهَشني هو صفٌّ طويل مِن الطالبات والطلاّب يقفون _أمام اللاشيء_ وما يفتأ عدَد المُنضمين إليهم يزداد.. لَم أستطع أن أمنَع عُنقي مِن الالتواء وأنا أمشي في اتجاه بوابة الكلية المشرعة؛ أيُعقل أنّهم ينتظرون قُدوم الحافلة؟ كلّ هذا الانتظام والإصرار على الاصطِفاف قُبالة الشارع الفارغ في انتظار حافِلةٍ لَم تصِل بعد؟ لقد درستُ منذ سنوات في جامعة محمد الأول في وجدة، (الجامعة الأم لهذه الكلية متعددة التخصصات التي أقصِدها) ولَم يسبق لي أن رأيت تنظيما كهذا؛ مع أننا نسمع عادةً أنّ الأجيال السابقة تكون دائِما، أكثر تنظيماً وتهذُباً مِن الأجيال اللاحقة؛ إلا أنّ هذا المشهد الفريد والاستثنائي الماثِل أمامي لهو دليل كبير على خطأ هذه الفرضية. أياً يكُن، فإنّ ما أثار استغرابي حقاً هو إدراكي المُسبق (وذلك من خلال تجربتي الجامعية طبعا) أنّ الطُّلاب الجامعيين يلبسون في فترة دراستهم في الجامعة أخلاقا في مُنتهى الرقيّ والتهذيب، ويزداد تشبُثهم بها، ما داموا متواجدين في محيط الحرم الجامعي، أو رُفقة أشخاصٍ مِن نفس الدائرة. لكنَّ أغلَبهم (إن لَم يكن كلَّهم) يتخلَّون عن جُلّ هذه الأخلاق والقيم التي اكتسبوها في المرحلة الجامعية حالَما يُنهون فترة الدراسة، حيثُ تُلهيهم الحياة وتُريهم وجهَها البعيد عَن المثالية تماما.. تحضُرني هنا عبارةٌ كانَ يكثر ترديدها في الجامعة، وخاصة في الحيّ الجامعي في وجدة: "أطالبة (أو ألطالب) عبّري على المُستوى !" هذه جملة بصيغَة الأمر، كانت تُقال حين تأتي إحدى الطالِبات فعلاً مُشينا أو غَير أخلاقي، فتُنبِّهُها الأخريات إلى أنّ تصرُفّها ذاك لا يليق بطالبةٍ جامعية. واصلتُ سيري بحثاً عن قاعة المُحاضرات، أو المدرّج الذي ستُقام فيه الندوة. مررت بحفلٍ للطلَبة القاعِديين، حيثُ صور تشي جيفارا، وأغاني مارسيل خليفة تُغطّي الحواس، وبجانب هذا كلّه تمرُّ فتياتٌ مُحجبات، عدَد كبيرٌ مِنهن يرتدين ما يُطلق عليه "الحجاب الشرعي"، وهو تلك العباءة السَّوداء أو الرّمادية (هي ألوان قاتمة في الغالب) وغطاءُ الرأس الذي يتدلّى على كامل الجُزء العلوي مِن الجسد، وقد يبلغ الركبة أو يتعداها.. هنالِك مُنقّبات أيضاً.. وهذا ما لَم يكن سائداً في الفترة التي درستُ خلالها في الجامِعة؛ وحتى عند زيارتي الأخيرة للجامعة الأم في وجدة، لَم ألاحظ هناك مثل هذا العدَد الكبير مِن الفتيات المُحجبات والمُنقبات. لكن يبقى لكلِّ مدينة طابعُها الخاص. وما يهمّ مِن هذا كلِّه، هو أنّ الأجواء هُنا بدَت طيبة، لا أثَر فيها لخلافٍ أو نزاع؛ فما سرّ ذلك الحديث الذي يَروج عن العُنف داخِل الجامعة؟ حين صرتُ على مَقربة مِن صالة المحاضرات، سمعت فتاةً خرجت لتوِّها مِن هناك وهي تقول لصاحِبتيها "واو ! القاعة شْحال كْبيرا !" هذا هيّأني، نِسبيا، لتقبُّل ما سَتراه عينايَ بعد ذلك، عندما وجدتُني داخِل مُدرَّجٍ عَظيم... هل أبالِغ إذا قلتُ إنه يُشبه المدرّجات الجامعية التي أراها في الأفلام الأمريكية؟ لا، لا أبالغ إطلاقا، حتى أنّي لِوهلَةٍ أولى ظننتُني داخل فيلم "Lucy" تحديداً في المشهد الذي يُلقي فيه الممثّل المخضرم "Morgan Freeman" محاضرةً حول تطوّر الخلايا، ونشأة الجنس البشري.. ! أنا أُبالِغ. صح؟ طيِّب لنقُل إنّه ذكّرني به فقط، وأنُّه يشبهه بعض الشيء. فكّرتُ آنذاك، في أنّ الجامعة المغربية قد تقدَّمت كثيرا، وإن كنت آخِر مَن يعلم بذلك، إلهي في أيّ قُمقم كنتُ محشورةً حينما كان المغاربة مِن حولي يتغيّرون؟ ! ثم تأكّد لي اعتقادي هذا أكثر، لما انتبهت إلى حَجم الحُضور في هذا المُدرّج العِملاق؛ ياه ! كلّ هؤلاء الشباب والشابات، جاؤوا لحُضور ندوةٍ حول الدين والتديّن ! أعتقد أنّ نانسي عجرم وهيفا إن قررتا إحياء حفلٍ في الجامعة فلَن تحضيا بأكثر مِن هذا الحضور! كما أن الندوات الأدبية التي اعتدت حضورها أو المشاركة فيها لا يزيد عدد الحاضرين فيها، غالبا، عن بضع عشرات ! فعلاً، لقد عرَفت الجامعة المغربية تحوّلاتٍ كبيرة، وإن كنتُ لا أزال لا أفهَم؛ لِم لا يتمظهَر هذا المُستوى العالي مِن الوعي على المُجتمع المغربي؟ نزلت أدراج المُدرج، أنقِّب بعيني عن مقعدٍ شاغر.. صُفوف المقاعِد الأمامية فارغة، لكنها مَحجوزةٌ بالكامِل، بحَسب ما أخبرني أحد أفراد اللجنة المُنظّمة قبل أن يدلّني على مكانٍ شاغِر. جلستُ وقد زادت درجة انبهاري، بعد أن صار جَسدي مُلامِسا لمَقاعد وطاولات باذِخة ذاتِ تصميمٍ أنيق.. جديدة تماما، ونظيفة، وكأنّها تُستخدم للمرّة الأولى؛ لا جرّة قلَم، ولا خَدش، ولا حتى تلكَ العِبارة الشهيرة "Nabil+ Meriem= Love " وهذا أمرٌ نادِر الحدوث في أيّ مؤسسة أو إدارة مغربية، تتوفّر على طاولات أو مقاعد أو مكاتب خشبية؛ حقا، لقد أصبح الطلبة المغاربة متحضّرين جدا ! ومرة أخرى صفَعني سؤال: لماذا يتخلّى أغلب هؤلاء الشباب عن مجموعة مِن الأخلاق والقيم التي اكتسبوها إبّان فترة الدراسة الجامعية، ليصبحوا بعد ذلك أقرب إلى التخلّف والهمجية منهم إلى التحضّر والتمدُّن؟ لا يهم. الفتيات اللواتي كُنَّ جالساتٍ بجواري يتحدَّثن بأسلوبٍ مُهذّب: أستسمح_ تفضلي.. ألفاظٌ، كثيراً ما تُستبدل خارج مُحيط الجامعة، بالشدّ والجَذب والقَذف والسبّ، وقد يتطوّر الأمر، أحيانا، إلى عراكٍ بالأيدي والأرجل.. كانت الساعة حينها تشيرُ إلى الثالِثة وخمسَ عشرة دقيقة، فيما يُفترض أن تبدأ الندوة في تمام الساعة الثالثة والنِّصف. أنا إذن لَم أتأخر عن المَوعد، والحضور الكثيف والمُبكِّر لكلّ هؤلاء الشباب يعكِس حالةً مُتقدِّمة من الوعي.. وما زلت لا أفهم، إذا كان هذا هو حال جامعاتنا، فلماذا نشتكي، إذن، من قلة الإقبال على الأنشطة الثقافية؟ الذي حدَث بعد ذلك سَأختَزله في عَوارض كرونولوجية: _ الثالثة وعشرين دقيقة: أنا، مُنبهرة، أتأمّل السَّقف والحيطان، وأعُدّ أجهزة إسقاط الفيديو؛ واحد، إثنان.. _ الثالثة والنصف: المتدخِّلون الذي يُفترض أن يُلقوا عُروضهم بخصوص موضوع الندوة لَم يحضروا بعد.. لا بأس، أنا مُتأكِّدة أنّ لا أحَد مِن الحضور _بمَن فيهم أنا_ كان ينتظر أن تَبدأ الندوة في مَوعِدها المُحدّد بالتمام ! _ الثالثة وأربعون دقيقة: عشر دقائق مِن التأخّر؟ هذا أمرٌ غَير مُطمئن، إذا أخَذنا بعين الاعتبار، الطابع الاجتماعي لمدينة الناظور، وأنّ الندوة تقام في مكان يتواجد خارج المدينة، وأنّ عددا كبيرا مِن الحضور هُنّ فتيات، وأنّنا في شهر نُونبر حيث يحلُّ الظلام سريعاً، وهو ما سَيحُول، حتما، دون مُتابعة العُنصر النِسوي لهذه الندوة القيّمة. _ الثالثة وخمسون دقيقة: أفكّر، لا بد أنّ للغائبين عُذرهم، لكن أما كان عليهم، أن يرسلوا اعتذارا، على الأقل؟ _ الساعة الرابعة: بدأتُ أشعر بالنُّعاس.. أغفو فَوق مقعدي، بينما تلتقِط أذُناي صوتَ شابٍ مِن اللجنة المُنظِّمة وهو يردِّد العبارت التالية: "يلومونَني كأنّني أنا المسؤول عَن هذا التأخير.. !" "لقد اتصلتُ به حوالي أربع مرات، وهو يقولُ في كلِّ مرة إنه قادِم في الطّريق !" "ماذا أقول لكِ يا أُختي، لا أعرِف متى ستبدأ النَّدوة لكنَّك مُخيَّرةٌ، يُمكنك البقاء أو الانصراف، إن شئتِ" _ الرابعة وعشر دقائق: أُفيق مِن غَفوتي، وألتفِت إلى الفتيات اللواتي يتواجَدن خلفي، أسألهنّ: "هل حضرتُنَّ الجلسة الصباحِية؟" "نعم" "هل بدأت متأخرّةً أيضا؟" "نعم، لكن ليس إلى هذا الحدّ !" وتضيف أخرى: "لم يستطيعوا إتمام كلِّ المَحاور، وبسبب ضيق الوقت، لَم يُفتح الباب للنقاش" _ الرابعة وعشرون دقيقة: أحدِّق في الميكروفانات المَنصوبة على المِنصّة، وتعصف بي رغبة شديدةٌ في أن أتوجّه إلى إحداها، وأصيحَ في جَمع الحاضرين: "هؤلاء الناس يَستهزؤون بكم، تأخروا ساعة كامِلة، وهم يعلمون أن الجامِعة توجد خارج المدينة، وأن الحافلات شحيحة، وأنها ستُظلم بعدَ دقائق قليلة.. إن كُنتم تحتَرمون أنفُسَكم غادروا القاعة فوراً، لقنوهم درسا، فليلقوا عُروضهم على الحيطان.. أليس فيكم رجلٌ رشيد؟ !" وماذا إن كانت هذه الميكروفونات غير موصولةٍ بالكَهرباء أصلا؟ تعوّذت بالله من الشيطان الرجيم، وقرّرت أن أغادر القاعة، ولكن بعد أن قلت للفتيات اللواتي كنّ بجواري ما حلمت أنّي أقوله في الميكرفون. ثم فعلت نفس الشيء مع أعضاء اللجنة المنظمة، قبل أغادِر بينما تتتبّعُني نظراتهم المشدوهة ! الرابعة وثلاثون دقيقة: لقد صِرت خارِج الجامعة. صفُّ المُنتظرين الذي كان واقفا قُبالة اللاشيء، صار الآن يقِف قُبالة حافِلة مُكتظّة قبل أن تحمِلهم. توكّلتُ على الله ووقفت بينهم؛ ثم ما لبِثَ أن جاء شابٌ تظاهر بأنّه يتحدّث مع صاحِبيه اللذين كانا يسبقانني، فسرق دوري في الطابور؛ لم أحرّك سا كنا.. وإذا بفتاتين تأتيان بكل بساطة، وتقفان قبلي، مرة أخرى؟ ! هكذا ! بكل وقاحة! لا أفعل أكثر من أن أتجاوزَهما وأستعيد دوري. مِن الناحية المُقابلة، ألمَح حافلةً أخرى وهي تقتِرب؛ أترُك صفَّ المُهذبين، وأذهب حيث أجد جُموعا عشوائية من الطلبة، وكلٌّ يتدافع ليأخذ مكانا على متن الحافلة. تنطلق المركبة المُهترئة بنا.. ومن يرى حال هذه الحافلة من الداخل، يستحيل أن يتصوّر، أنها تتواجد والمدرّج الشبيه بمدرّج "Morgan Freeman" في نفس البلد ! حقاً، لا جدوى مِن استبدالِها بحافلاتٍ أكثرَ مُواكبة لروح العَصر ولاحتياجاتِ المواطِن البسيطة، فهذِه الحافلة _في واقِع الأمر_ هي صورةٌ مُصغّرة عن واقِعنا المُعاش، هي مرآة عاكسة لمستوى الرقيّ و "البذخ" الحقيقي الذي يعيشه المواطن المغربي، بعيدا عن المحافل والملتقيات الدولية.. إنها أصدَقُ وصف لأسلوبِ حياتنا المُهلهل، مِن ذلك المُدرّج المُرفّه وما يضمُّه من تجهيزات مكلِّفة.. فما الجدوى من صرف أموال طائلة على إنشاء قاعاتٍ بمعايير دولية إن كانَت ذواتُنا فارغةً مِن احترام الآخر، خاصة ذلك الآخر البسيط الذي يعيش بيننا؟ قلتُ في نفسي وأنا أتأمّل أرجاء المدينة الطيّعة؛ إنّ التغيير لا يمكن أن يبدأ من الأشياء المادية، ولا مِن قيم النِّضال والتسامُح والتديّن المزيّفة. التغيير يبدأ برغبة، بعد أن يُصبح قناعةً راسِخة في دواخِلنا. المتنقِّلون على مَتن هذه الحافلة يتضاحكون، يُقهقهون بأصواتٍ عالية، يدفَع بعضُهم بعضا.. وهذه الحافلة، نعم، هي باليةُ مُخَلخلة.. ومع ذلك فإنّها _إلى حدٍّ ما_ تقوم بالدور الذي صُمّمَت من أجله. أما أنا فأبتسِم؛ لَم يُقدّر لي أن أتابِع مُجريات ندوة الدين والتديّن، لَم أستفِد من عروض المُتدخِّلين. لكنّي _فيما يبدو_ قد عثرتُ على أجوبةٍ لأسئلتي.