الجزء الثاني تعتبر ظاهرة "الرحيل النيابي" الذي نص عليها الدستور في الفصل 61 وسماها بالتخلي عن الانتماء السياسي، من المشاكل السياسية الكبرى التي تهدد الاستقرار الحكومي وكذلك طبيعة علاقة المواطن مع العمل السياسي. وإذا كانت كلمة التخلي الحزبي لنواب البرلمان والتي تسمى باللغة الفرنسيةTRANSHUMANCE فإن ترجمتها إلى العربية تعني انتقال قطيع من الحيوانات من منطقة إلى أخرى بحثا عن الكلأ والماء، وقد دخلت هذه الكلمة للسياسة عندما أصبح النواب ينتقلون بين الأحزاب فأصبحوا يدعون ب "النواب الرحل". إنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الظاهرة هي مسألة وطنية فقط، بل هي ظاهرة دولية تعرفها جل الدول سواء في إفريقيا "في أغلبها" أو في كندا ببرلمانيها الوطني والإقليمي، وكذلك في اللوكسمبورغ وملدوفيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وبلجيكا وغيرها من الدول، غير أن ذلك يتم بتفاوت بين كل دولة على حدة، وذلك بحسب طبيعة نظامها السياسي ومكوناتها الحزبية المختلفة، حيث تجد دولا لا يتجاوز تعداد سكانها ثمانية ملايين و تضم حوالي أربعين حزبا سياسيا، في مقابل وجود دول أخرى تعداد سكانها يفوق المليار ولا يتجاوز عدد أحزابها الحزب الواحد. كما أن خروج الشعوب في أوربا الشرقية من النظام الشيوعي إلى نظام سياسي ديمقراطي انعكس بشكل مباشر على تعدد الأحزاب وعلى بلقنة المشهد السياسي، وقد احتاجت مكوناتها السياسية إلى سنوات من العمل السياسي لترميم الوضع والتقليص من حدة الرحيل السياسي، ليس في ساحة أوربا الشرقية وحدها ولكن في باقي دول العالم الذي يعرف استمرار ممارسة الترحال السياسي بأوجه مختلفة حددها المتتبعون في أربع مستويات: المستوى الأول: هو الذي يقوم فيه النائب البرلماني بتقديم استقالته من الحزب السياسي الذي فاز في الانتخابات باسمه، ثم يعلن أنه نائبا مستقلا ويظل على حالته لمدة معينة وقد يظل مستقلا طيلة الولاية الانتخابية قبل أن ينتقل إلى الحزب الآخر، وفي أوربا مثلا فغالبا ما يظل النائب الذي أصبح مستقلا على حالته حتى إجراء الانتخابات الموالية ليعلن عن انتمائه لحزب جديد ويرشح نفسه باسمه ويظل دون عقاب ودون جزاء. المستوى الثاني: هو الذي ينتقل فيه النائب البرلماني من حزب إلى آخر بناء على امتياز أو جزاء سياسي يقدمه الحزب المستقبل للنائب الراحل نحوه، إما بتعيينه مسؤولا في مؤسسة البرلمان أو وعده بمنصب سياسي هام أو بأي امتياز كيفما كان نوعه، ومثلا في إفريقيا وتحديدا بدولة تشاد فقد انتقل بعض النواب إلى الحزب الحاكم نتيجة وعد بالتسهيل لهم في شراء سيارات، ويظل كذلك هذا النوع دون جزاء. المستوى الثالث: هو الذي يتعرض فيه النواب الرحل للجزاء العقابي على تنقلهم من حزب لآخر كما يقع في المغرب والبرتغال والغابون والنيجر ورواندا وغيرها، حيث يجردون من صفتهم البرلمانية بسبب هذا الترحال السياسي. المستوى الرابع: هو الذي يرحل فيه النواب المستقلون من أحزابهم السياسية في اتجاه تشكيل فريق برلماني مستقل، ومن ثم حزب سياسي جديد، ومنهم من يستمر في البرلمان إلى حين انعقاد الانتخابات الموالية ومنهم من تنتهي إشكاليته بسقوطه في الانتخابات. وبغض النظر على هذه المستويات الأربع التي تؤطر رحيل النواب، فإن ما يجب التأكيد عليه هو أن الرحيل السياسي لا يهم البرلمانيين وحدهم ولكن يهم حتى الممارسين السياسيين على مستوى السلطة التنفيذية، حيث يلاحظ أن هناك رحيل لهؤلاء إلى أحزاب أخرى لتولي المناصب الحكومية، وتعتبر فرنسا من الدول التي لها تجارب عدة في هذا الباب ولها أسماء سياسية وازنة متورطة في هذه القضية مثال edgar pisaniوbernard kouchner و eric bisson. وهكذا يبدو أن الرحيل السياسي في العالم أمسى اليوم عملية طبيعية اختلفت أسبابه لكن توحدت نتائجه، فقد يفقد أي حزب سياسي فريقه البرلماني لعدم توفره على النصاب نتيجة الرحيل، وقد تسقط الحكومة لعدم توفرها على الأغلبية نتيجة الترحال كما حصل للحكومة الهندية، والعكس صحيح، فمثلا الحكومة الكندية كانت محظوظة إذ أنقذ أحد النواب الذي انتقل إلى صفوف الأغلبية الحكومة الكندية من السقوط نتيجة ملتمس الرقابة. غير أن هذه الأوضاع الغير مستقرة نتيجة الترحال تطرح أكثر من سؤال ليس حول النتائج المعروفة سلفا، ولكن حول الأسباب التي غالبا ما تكون غامضة، خاصة وأن هذه الظاهرة عامة وشاملة عرفتها دول الشمال والجنوب، الشرق والغرب، دول عريقة في الديمقراطية ودول مقبلة عليها وأخرى تمارس الديمقراطية السطحية. إن باحثي علوم الاجتماع السياسي قد ربطوا هذا الموضوع بطبيعة القيادات السياسية للأحزاب التي إما تكون عاجزة على إدارة الصراع داخل صفوفها أو أنها تصطف مع هذه القوة دون أخرى، مما يخلق ردود فعل طبيعية حينما يختل التوازن بين الأطراف ويؤدي ذلك إلى تهميش بعض البرلمانيين خاصة إذا كانوا يملكون مؤهلات ومقدرات خاصة تكون الأحزاب المقابلة في حاجة إلى تملكها، كما يربط ذات الباحثين موضوع الترحال البرلماني كثيرا بالإغراءات سواء بالمواقع أو بالوعود المستقبلية، وهذا ما يتم في الكثير من الدول الإفريقية بل تعرفه حتى كندا، حيث أن أحد النواب انتقل إلى حزب من الأغلبية فعين مباشرة وزيرا في الحكومة. غير أن البعض الآخر من الباحثين فيرجع ظاهرة الترحال البرلماني إلى التحولات التي تعرفها بعض الأفكار والقناعات وإلى تقلبات الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلد، فالفشل الحكومي أحيانا يخيف النائب البرلماني، فيدفعه للانتقال إلى المعارضة لضمان نجاحه في الانتخابات المقبلة، أو قد ينتقل إلى المعارضة فقط ليتنصل من المسؤولية في دعم الحكومة خلال الفترة المتبقية، وهذا التصرف غالبا ما يسعى من خلاله النائب إلى الحفاظ على كرسيه عبر اختيار الانتماء إلى الحزب الذي يحصل على دعم الرأي العام، رغم التبريرات الواهية كالادعاء بأنه إذا كان للمواطن الحق في تغيير رأيه السياسي فلماذا نمنع البرلماني من هذا الحق؟. في مقابل هذين الرأيين هناك رأي آخر يربط الترحال البرلماني بالانتهازية السياسية والتموقع في حضن السلطة، أوالحرص على الانتقال إلى الأحزاب الموعودة بها، وتعتبر الدول الإفريقية من أكثر الدول ارتباطا بموضوع الانتهازية السياسية، لكون هناك أحزاب حاكمة تظل لسنوات في الحكم وتخلف شخصيات تترشح دائما بألوانها بحكم تموقعها في السلطة، و إذا استطاع أحد من غير المنتمين إلى الحزب الحاكم الوصول إلى البرلمان فغالبا ما ينظم للحزب الحاكم مستقبلا لحماية مصالحه السياسية والانتخابية، ويعتبر النائب تصرفه هذا مشروعا لأنه منتخب له المشروعية الانتخابية التي سيحملها لدعم الحزب الحاكم ويريد مقابلا لها، إنه الصراع من أجل الكعكة. وأخيرا هناك مجموعة من النواب يقررون الرحيل التزاما لمواقفهم التي أبدوها أمام ناخبيهم، فالحكومة غالبا ما تتنصل من وعودها أو تغير اتجاهاتها تحت ضغط المستجدات الاقتصادية و السياسية، فيقوم النائب بالرحيل سياسيا، وغالبا ما يتجه نحو البقاء في مجلس البرلمان بصفته نائبا مستقلا ويظل على هذه الحالة حتى ينتهي إما بإنشاء حزب سياسي جديد أو بإعفاء نفسه من الترشح في الانتخابات المقبلة. وهكذا فوضعية الرحيل السياسي هي حالة ناتجة عن طبيعة العمل السياسي المتحرك بشكل مستمر والذي غالبا ما تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والسياسية الوطنية والدولية، و التي تجعل النائب يتحمل وزر نتائج الاختيارات الحكومية مما يجعله يفكر في الرحيل للتخلص من المسؤولية السياسية اتجاه ناخبيه. إن أوضاع الترحال البرلماني هذه تطرح أكثر من سؤال ونقاش حول كيفية التعامل معها وتطرح انقساما حادا بين تيارين مختلفين، فالأول يعتبرها حالة طبيعية لوضع سياسي ومؤسساتي متحرك، ويعتبر أن البرلماني يزكى من طرف الحزب و ينتخب من طرف منتخبي دائرته ولكنه ينوب عن الأمة كلها، أي أنه حتى إذا انتقل من حزب إلى آخر فإنه يظل داخل نفس البرلمان الذي يمثل الأمة كلها والذي هو جزء منها، فإذا كان المعني بالأمر يدافع عن وجهة نظر فكان يدافع عنها باعتبارها لا تحقق مصلحة الحزب أو الدائرة الانتخابية ولكنها تسعى إلى مصلحة الأمة ككل، وبالتالي إذا انتقل إلى حزب آخر فقد يكون قد تخلى عن حزبه، ولكنه لم يتخلى مطلقا عن الأمة وهذه الأخيرة هي التي لها السيادة وهذه السيادة يمارسها ممثلي الأمة بشكل غير مباشر، ومن تم لا يجوز مطلقا أن نعاقب من انتقلت إليه السيادة بشكل غير مباشر، فقط لأنه تصرف في إطار ما منح له من تمثيلية للأمة التي لها هذه السيادة مادام أن انتقاله هو داخل اختلافات الأمة نفسها. وبناء عليه لا يمكن ترتيب جزاء عليه مادام الإطار واحد ومادام الموضوع هو ممارسة السيادة، بالإضافة إلى ذلك فالنائب كمواطن له حقوقه كممثل للأمة وله كذلك حقوق أصلية كمواطن داخل الأمة، بل هذه الأخيرة تبقى محفوظة له لكونه بناء عليها وصل إلى موقعه، بل هي أساس عمله السياسي والبرلماني وتبقى حقوق أصلية، لكون الإنابة عن الأمة هي تصرف إيجابي وامتياز سياسي وليس عقابا له وحرمانا من حقوقه الوطنية. وبعكس هذا الرأي نجد أن هناك رأي ثان يتجه إلى منع الرحيل البرلماني لما له من انعكاسات سلبية على الاستقرار الحكومي، فانتقالات النواب قد تؤدي إلى خلخلة الوضع السياسي، وقد يؤدي إلى فقدان الثقة بين المواطن والسياسة ككل. غير أن هناك من يطرح سؤال أساسي ويتعلق بطبيعة العقد الذي يربط المواطن مع النائب، إن الحقيقة التي لا نريد أن نعترف بها هي أنه ليس هناك عقد بين المواطن والنائب بل هناك عقد بين الأمة ككل والنائب، لذلك لا يمكن للناخب أن يقيل نائبه، ثم إن الناخب حينما يصوت فهو يصوت كعضو في الأمة وليس كعضو في هذا الحزب أو ذاك، فالذي يحصي الأصوات هي الأمة من خلال الدولة وليست الأحزاب من خلال بطاقة الانتماء الحزبي، وفي جميع الأحوال فأصحاب هذا الرأي ينادون باتخاذ قرارات جزائية في حق النواب الرحل سواء بالغرامات أو بالتجريد من الصفة البرلمانية و تمنح التمثيلية لمن بعده في اللائحة الانتخابية، لذلك فالتجريد مرتبط بالانتخابات المعتمدة على نظام الاقتراع باللائحة أما في الانتخابات الفردية فمن الاستحالة استبدال النائب بغيره، وفي جميع الأحوال فإن خلق الجزاء في مجال الترحيل السياسي يحد من قدرة النائب في ممارسة حريته في التعبير عن آرائه وأفكاره التي قد تتغير ارتباطا بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي يعرفها المجتمع الذي يمثله. ويبقى ترسيخ العمل الديمقراطي داخل الأحزاب السياسية وتكريس الحوار الحقيقي والقدرة على الاستماع والاعتماد على الكفاءة هو السبيل الوحيد الذي سيحد من حالة الرحيل السياسي، أما في ظل الوضع السياسي المتردي الذي نعيشه حاليا، فرغم وجود نصوص جزائية فإنها في آخر المطاف لا تقوم سوى بتأخير الرحيل السياسي إلى ما بعد انتهاء المدة الانتدابية، وهذا لا يغير في الواقع شيء فيما يهم إشكالية الرحيل السياسي، لذلك فالمسؤول المباشر عن هذه الوضعية هي الأحزاب وهذه الأخيرة التي تفشل في إدارة اختلافاتها الداخلية بسبب تصرفات زعمائها أو لعدم تطور أفكارها فغالبا ما تتآكل، مما يطرح إشكالية وجود الحزب وقدرته على إدارة أعضائه وكيفية التعامل مع نوابه، وهذا موضوع آخر. *محام ونائب رئيس مجلس النواب