بالأمس كان الراحل الحسن الثاني يفهم بعمق معنى أن القبر وسيلة لتقويم احْدِوْدَابْ الظهر، في زمن الأنظمة الشمولية، إن أي اعوجاج في الحقل السياسي كان يواجه بالقمع والترويض، ومادام أنه لا يمكن لسفينة نظام ما أن تصمد وسط المحيط السياسي المتلاطم الأمواج في مرحلة حارقة لتأسيس الدولة الوطنية، اعتمادا على قوته الحديدية فقط وقدرته القمعية، فقد خلق نخبا خاصة شكلت أشرعة النظام ومجاديفه... من المدارس والمساجد إلى الإعلام والمؤسسات الخاصة خلق العهد القديم قوة شرعيته من خلال تقنية صناعة الإجماع، إجماع قمعي لم يكن يسمح فيه للخطابات والمواقف الصادرة عن مختلف الفاعلين في المشهد السياسي سوى أن تكون حواشي على متن الملك وكل سلطة فائضة عنه. من تعميد الملكية بماء القداسة إلى الاستفتاء التأكيدي، نجح الراحل الحسن الثاني في توسيع منطق الدولة (Raison d'Etat) على حساب حيوية المجتمع وحركيته. اليوم، لم يعد ممكنا صمود الدولة الشمولية بناء على آلية الهراوات والسجون والمنافي والقبور الجماعية، لكن هل اختفت مهام تصنيع الإجماع الوطني؟ مركبات المشهد السياسي وإسقاطاته علىمدى السنوات الأخيرة، تدل علىأن صناع القرار بالمغرب استوعبوا أن عهد تقويم أي اعوجاج بالآلة القمعية قد ولَّى، إذ تم تقليص مساحة اللجوء إلى الهراوات إلى حد بدا مستساغا يُتواطؤ عليه بحماية السير العام، وعدم عرقلة حرية العمل، والمحافظة على النظام العام.. لكن بالمقابل تم إبداع موقع صنع الإجماع عبر عمليتين متوازيين : 1 العمل الأول : هو إمساك رجالات العهد الجديد بكل مواقع السلطة، فقد بدأ الأمر بأهم المواقع المنتجة للقرار، فالأجهزة الاستخباراتية والأمنية، ثم عبر التحكم في شرايين المؤسسات الاقتصادية الكبرى إلى المؤسسات الإعلامية الرسمية ثم الانتشار في شرايين المقاولات الصحافية... وإغلاق دائرة الاستشارة والإشراف في المؤسسات الحساسة للنخبة المولوية ومن يدور في فلكها، إنها عملية هادئة تتم بدون ضجيج، بل إن إسقاطات تأويلها كانت تؤخذ كعملية ،تطهير، يقودها العهد الجديد ضد ما تبقى من رموز الحرس القديم، فقد تم تفكيك الخلايا النائمة لأتباع إدريس البصري، وعوض أن يتم فتح دواليب النظام للكثير من الهواء وأشعة الشمس، نعاين اليوم عملية غير سليمة، تتمثل في إقفال النظام السياسي وإغلاقه بإحكام (Verrouillage)، إن من حق المالك الجديد لأي مؤسسة أن يغير أقفالها ويبدل مفاتيح خزانته الخاصة، وأن يعين بعض مقربيه ممن يثق فيهم، لكن تغييره للعمال والآلات والمحل... فإن ذلك تحكمه قوانين وتضبطه تشريعات تصنف حدود الحقوق والواجبات، هذا عن مؤسسة خاصة، فبالأحرى حين يتعلق الأمر بمؤسسة عمومية، والحكم شأن الأمة كما يحدده الدستور. 2-تعتبر العملية الثانية ،نتيجة للأولى وتتمثل في إبقاء باقي الفاعلين على هامش اللعبة السياسية .. واستفراد حاشية الملك بالسلطة و الثروة ،وهو ما يشكل إساءة للملكية ذاتها. هناك الكثير من الحقائق التي تغلَّفُ وراء طبقة كثيفة من الأكاذيب، ذلك جزء من صناعة الإجماع، إن ظاهر الأشياء يعطينا انطباعا أكبر أن المغرب يسير بخطى ثابتة نحو الديمقراطية، لكن كيف؟ رجالات الملك يستفيدون بقوة من والتر ليبمان أحد كبار الصحافيين الأمريكيين والمحللين السياسيين، إنه أول من أبدع ما سماه في إحدى مقالاته "نظرية تقدمية للفكر الليبرالي الديمقراطي،" يستهدف ثورة جديدة في الديمقراطية عبر صناعة الأوهام، وجعل الرأي العام يستسلم بسلاسة لقادته الجدد، إذ يقسم والتر ليبمان على شاكلة القدامى بين الخاصة والعامة، النخبة والرعاع، لكن بشكل يبدو لائقا في فن الديمقراطية، فهناك المجموعة الصغيرة المفكرة وهناك القطيع الحائر أو الضال، وعلى المجموعة الأولى أن تحمي نفسها من وقع أقدام وزئير هذا القطيع، هنا تقوم مجموعة صغيرة من المسؤولين الكبار بالتخطيط للسياسة الكبرى وخلق أساليب الدعاية للغالبية الكبرى التي ليست مشاركة ولكن مجرد مشاهدة لساحة الفعل) : يجب أن نخلق الأوهام الضّرورية لشد انتباهها.(يشير مضمون كل اللقاءات التي كان يجريها فؤاد علي الهمة وغيره من أصدقاء الملك مع باقي الفاعلين إلى هذا البعد، فلا حديث عن الحكومة أو الأحزاب أو النقابات، أو نضج المجتمع الذي وقع شيكا على بياض للملك وللعهد الجديد وامتلك صبر أيوب للمطالبة بالنتائج والمحاسبة على الحصيلة، تشير كل تصريحاتهم إلى نفس تحليل والتر ليبمان :إننا صحبة الملك ضمنا الاستقرار والاستثمار والتنمية، وفتحنا ملفات شائكة من المرأة إلى الفساد إلى ملفات الماضي.. إنها المجموعة الصغيرة التي تفكر وتخطط،، لا يرد في هذا الأمر أي حديث عن مجهود الحكومة ولا دور الأحزاب والنقابات التي يتمنى رجالات الملك لو وضعوا علىرأس قيادتها، أصدقاء المدرسة المولوية، إن شعارهم هو على الجميع أن يركب قطار الإصلاح، فالعربات متوفرة لكن مواقع القيادة محجوزة سلفا، لا يشك أحد في الإرادة الجديدة التي عبرها فتح محمد السادس أبواب الأمل، لكن لا تكفي النوايا الحسنة لدخول المنتدى الديمقراطي.